Menu

"مسيرة العودة " وإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني !..

اشتباكات

بقلم / محمد صوان

في أعقاب الحرب العالمية الثانية .. بينما كانت شمس حركات التحرر الوطني تسطع على بقاع تتسع باستمرار في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية .. وبينما شقّت شعوب عديدة طريقها نحو التحرر وتقرير المصير والاستقلال , وانحسرت ظلال الاستعمار الكولونيالي عن الكثير من أقطار الأرض , سرّعت الحركة الصهيونية تحت رعاية وتواطؤ سلطات الانتداب البريطاني , وعبر تحالفها الناشئ مع الامبريالية الأمريكية التي بدأ نهمها الاستعماري الجديد يتطلع نحو التهام المشرق العربي بالتزامن مع استعداد الحركة الصهيونية لتتويج مشروعها الاستيطاني بتقسيم الوطن الفلسطيني واغتصاب الجزء الأكبر منه وتشريد الشعب الأصلي من دياره وممتلكاته لإقامة " دولتها اليهودية " العنصرية فوق تراب وطنه السليب .

لقد كان إعلان " دولة إسرائيل " في 15أيار 1948 ذروة المشروع الصهيوني الذي يتناقض مع روح العصر ومجرى التاريخ , فلقد أقيمت " الدولة اليهودية " على أنقاض الوطن الفلسطيني , وارتهن بقاؤها باستمرار عبر تبديد الهوية الوطنية والكيانية الفلسطينية ..

تدرك الحركة الصهيونية في أعماقها .. وبعد سبعين عاماً على النكبة ومع كل البطش والقهر والجبروت , أنها لم تكسر روح الشعب الفلسطيني الذي يبدع ويجدد في كل مرحلة فكرة المقاومة وأشكالها المناسبة , فيعيد التذكير بالبديهيات .. وبأن فلسطين لشعبها , وبالتالي ليس لأي عابر أو واهم مهما امتلك من قوة - راهنة أو مفترضة - مستقبل على هذه الأرض التي تستحق الفداء والتضحيات لتفوز بالحياة والحرية والاستقلال .

صراع البقاء والوجود :

الشعب الفلسطيني بوعيه وجذوره العميقة الممتدة في تاريخ وطنه يخوض صراع البقاء والوجود .. فهو يشاهد كل ما يحدث , ويسمع كل ما يجري .. ورغم ذلك يواصل المقاومة بصبر وإصرار ..يتابع الشعب الفلسطيني على مدار الساعة واليوم , كل ما يقوم به الاحتلال من ممارسات وانتهاكات وقضم للأرض وإقامة للمستوطنات وجدران الفصل العنصري , إضافة للتحكم بالماء والخبز والحصار ,ومواصلة القتل والاعتقال وسرقة التراث والتاريخ والأوابد الأثرية .. وإعلان القدس " عاصمة إسرائيل الأبدية " .. الشعب يشاهد كل ذلك ويعيشه ..لكنه يتحمل كل هذا , ويواجهه بعبقرية , و اجتراح أشكال جديدة من المقاومة الشعبية والمسلحة . 

الشعب الفلسطيني يشاهد ويتابع منذ عقود المفاوضات العبثية والمخططات الجهنمية وآخرها وأخطرها " صفقة العصر " لصاحبها الأرعن ترامب ..كما يرى كل انحطاط وتهافت النظام الرسمي العربي وهرولته نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني .. إلا أنه في أعماقه يواصل سيره وكأن كل هذا لا يعنيه , فهو يواصل كفاحه حاملاً أثقاله .. إذ تكفي شرارة واحدة حتى ينفجر مرجل الغضب ويشتعل السهل كله .. وتتوالى قوافل الشهداء , فذلك نهر أدمن الشعب الفلسطيني شرب كأسه منذ بدء التاريخ .. وهنا سر الشعب الذي يرى في هذه الأرض حقه الأزلي حتى ولو مضى على نكبته سبعون عاماً وربما أكثر .

إذاً .. كيف نفسر أن حكومة الاحتلال تستنفر جيشها , الذي يزعم بأنه " من بين الجيوش الأقوى في العالم " خوفاً من قطاع غزة المحاصر منذ أكثر من عشر سنوات ؟!..أو الخوف من الشابات والشبان الفلسطينيين العزّل المعتصمين جوار حدود مسيّجة بالجدران والأسلاك والألغام والرصاص وقنابل الغاز السام .. لماذا وكيف ؟!..

مفارقة مثيرة .. ونحن نتلمس كل هذا الرعب والخوف الوجودي عند " دولة " مضى على قيامها واغتصابها لفلسطين " 70 عاماً " فتستنفر جيشها واستخباراتها ومواطنيها وتنصحهم بالتسلح والتحصن بالملاجئ .. لماذا كل هذا القلق والخوف .. رغم سيطرتها على الأرض والسماء والبحر ؟!..

إنه الحبل السري الذي يربط الشعب الفلسطيني بأرضه وانتمائه وذاكرته .. لهذا فإن العدو الصهيوني يشعر بكل هذا القلق والخوف الوجودي .. رغم كل أسباب غطرسة القوة الظاهرة والاختلال الكبير بموازين القوة , فإن أكثر وأخطر ما يقلق " الكيان الصهيوني " بعد سبعين عاماً هو إدراكه العميق بأنه فشل بهزيمة روح المقاومة عند الشعب الفلسطيني .. فشل بإجبار الإنسان الفلسطيني على النسيان .. فشل بكسر إرادة التحدي والصمود .. فشل بوقف الإبداع وحق الحياة لهذا الشعب , هكذا مع مرور الوقت أصبح الشعب الفلسطيني يحاصر الاحتلال بالمعنى التاريخي والحضاري والإنساني والأخلاقي .. لقد أصبح الشعب هو الأرض .. لذلك لا يمكن لأي احتلال أن يطمئن على احتلاله للأرض بصورة حاسمة إلا بإبادة الشعب , وهذا لم ينجح رغم مرور أكثر من " 100 عام " على المشروع الصهيوني .

متوالية الانتفاضة من القدس إلى غزة :

شكّلت انتفاضة القدس أولاً وغزة تالياً مدخلاً جديداً وفرصة مواتية لوقف الدوران في حلقات الاضطهاد , والمضي قدماً نحو الحالة الاشتباكية , والانتقال من الشريط الحدودي وميادين التحرير إلى جميع مناحي الحياة الفلسطينية , ليشكّل الاشتباك الشعبي نهجاً للحياة في ظل الاحتلال والانقسام والاضطهاد , فالصمود والبقاء كاستراتيجيا هجومية هو فعل غاية في الأهمية , إلا أن المقاومة والاشتباك مع المستعمر وأساليب وأدوات استعماره يشكّلان الفعل الواجب من أجل الخلاص والتحرر والعودة وحق تقرير المصير , وهذا الفعل الواجب هو المحرك الحقيقي لميزان القوى , والمعيار الذي يضطر الجميع -برغبتهم- إلى أخذه في الحسبان .. ولأن تجاهل البعض لحظات الدوران في حلقات الاضطهاد , فلا يمكن أن يتجاهلوا لحظات الاشتباك بعمقها المدني والشعبي الجمعي , وهذه القضية أثبتتها القرائن في الحالة الفلسطينية نفسها , وما يشبهها من تجارب تحررية وديمقراطية أخرى .

لكن هذا كله يتطلب حاضنة توحد الجهود وتبني مشروعها التحرري الوحدوي كي تصنع الانتصار للشعب الفلسطيني , ويبدو هذا متعثراً في ظل الأطر السياسية الرسمية والفصائلية المتشظية وأساليب القيادة السائدة , إلا أن هذه المعطيات لا تجعل المهمة مستحيلة , بل تجعلها أكثر إلحاحاً , , فالتجربة التاريخية تؤشر إلى أن استمرارية موجات الاشتباك وديمومتها والانخراط المجتمعي فيها , تملي بالضرورة إعادة تعريف المشروع الوطني وأهدافه وإعادة بناء المنظومة السياسية " م.ت.ف" وأدواتها ومؤسساتها التمثيلية ..

لقد أعلن الجيل الجديد من شابات وشبان فلسطين جهوزيتهم للانخراط في هذه الورشة الإصلاحية في أكثر من مناسبة - لأسباب ذاتية وموضوعية - الأمر الذي لا يقلل من شأن دورهم وفعلهم أبداً , خصوصاً في ظل حالة القمع المركبة التي تمارس على الشعب الفلسطيني .. إن الإعلان والتصريح حول " الكيل طفح " لا يكفي للانخراط في عملية التغيير والبناء , إذ ثمة متطلبات بحاجة إلى تأطير وانتباه أهمها : الحاضنة المجتمعية والمؤسساتية , فالعملية التراكمية الآخذة في التبلور تؤسس لوعي جديد وفكر سياسي مختلف يهدفان إلى معالجة تبعات تراكم الإحباط والفشل على امتداد ثلاثة عقود على وجه التحديد , كذلك فإن هذه العملية التراكمية تفرز قيادتها الميدانية والفكرية , وترسخ المبادئ لفعل المقاومة والصمود .

القضية المفصلية التي يمكنها تغيير قواعد اللعبة تتمثل في التبني السياسي للمقاومة والاشتباك اليومي مع قوات الاحتلال , عندها فقط ستبدأ الفجوة ما بين الشعب والفصائل بالاضمحلال , ويبدأ الشعب ببناء قاعدة القوة الخاصة به , ليواجه بها وبصلابتها المشروع الصهيوني الكولونيالي , والمشاريع الإقليمية للتسوية غير العادلة وضمنها " صفقة العصر" التي تلوح في الأفق .. لاشك أن اللعبة السياسية ليست ببساطة النظرية , ولسنا قريبين من بناء تلك القاعدة الوحدوية , إلا أن مراحل الانتقال من مرحلة إلى أخرى تقتضي وضع الرؤى الاستراتيجية الموحدة والسعي لبلورة سياسات وإجراءات عملية وفكرية , وهذا ما يحدث على يد شابات وشباب فلسطين , وإن كان في مراحله الجنينية .. فالبراعم تكبر وتتفتح بسرعة عندما تمكنها الظروف من فعل ذلك , وإن كان هذا لا يرضي " جهابذة الفصائل "  , هذه قراءة لمداخل يمكن أن توفر بعض الأمل في غمرة الألم الذي يحاصرنا!..

خلاصة القول : في ظل المتغيرات والتحولات التي تعصف بالإقليم  والعالم , تمثل الوحدة الوطنية الفلسطينية الحقيقية المفصّل والفيصل .. والوحدة هنا تشير إلى وحدة الشعب مع نظامه السياسي ومشروعه التحرري بالدرجة الأولى , والتحامه مع قيادته التمثيلية التي يصنعها بنفسه في مجرى النضال , ويختارها للمضي في مسيرة التحرر وتقرير المصير والعودة والاستقلال الناجز .. أما في ظل الواقع السياسي والفصائلي الراهن فلا النظام السياسي قادر على القيام بهذه المهمة , ولا فصائل العمل الوطني بوضعها الراهن مؤهلة أو قادرة على حمل هذا العبء .. وبصورة أكثر دقة فإن الوحدة الوطنية الحقيقية يفترض أن تمر بطريق يمهد لإعادة بناء النظام والمشروع السياسي الفلسطيني , وانتخاب قيادة سياسية وكفاحية شابة وجديدة بنهج يعلي مصلحة النضال وصوت الشعب فوق المصالح الفصائلية والفئوية والأيديولوجية الضيقة , لقد سئم الشعب " جهابذة الفصائل " وحان موعد الجيل الشاب الجديد – بالمعنى السياسي – ليقود النضال التحرري والديمقراطي من أجل صنع التغيير والانتصار , والخروج من حالة التوَهان والإحباط , والمضي في درب استرداد الحقوق الوطنية والقومية المسلوبة , وصون العدالة التاريخية المفقودة !..