Menu

مقدمات الاستقلال الوطني في المغرب

عبد الإله بلقزيز

لم تنحصر قيمة وثيقة المطالبة بالاستقلال، التي وقّعها رموز الحركة الوطنيّة المغربيّة وصدرت في الحادي عشر من يناير/كانون الثاني 1944، في أنها آذَنَت بانتقالٍ سياسيٍّ حاسم من النضال الإصلاحيّ إلى مشروع الاستقلال الوطنيّ فحسب، وإنما فاضت قيمتُها عن هذه الحدود إلى حيث تحوّلت إلى منطلق جديد؛ لإعادة بناء العمل الوطنيّ؛ وتجديد كيان الحركة الوطنيّة؛ من طريق تزويدها بالمشروع السياسيّ الوطنيّ، الذي كانت تحتاج إليه؛ كي تكون حركةً وطنيّة؛ وكي تنهض بدورٍ أملتْهُ عليها واقعةُ الاحتلال الاستعماريّ، من جهة، وواقعة النكسة الحادّة، التي مُنيت بها تجربةُ الردّ عليه بالمقاومة الشعبيّة والمسلّحة من جهة ثانية، وفشل مقاربة المطالب والحقوق الوطنيّة المشروعة للشعب بوسائل إصلاحيّة من جنس تلك التي اعتُمِدت منذ العام 1934، من جهة ثالثة. ويمكننا، في المعرض هذا، أن نرصد نتائج أربعاً أطلقتْها محطّة 11 يناير 1944 في التاريخ السياسيّ والوطنيّ، تضافرت جميعها؛ لتُنجِب الاستقلال الوطنيّ والجلاء الأجنبيّ هدفاً مباشراً وتتويجاً لمسار؛ وهي (أي النتائج) ممّا تقوم به الأدلّة والشواهد على فيض القيمة، الذي انطوت عليه الوثيقة تلك.

أوّلها أن إعلان عريضة المطالبة بالاستقلال -وكانت تولّدت من تفاهُمٍ واتفاقٍ بين الحركة الوطنية والملك محمّد الخامس- وضع بين يديْ الملك والوطنيّين المغاربة ورقة لمخاطبة المحتلّين بلغات مختلفة: ديبلوماسيّة، وسياسيّة، وشعبيّة، وقتاليّة تعدّدت فيها الوسائل وتوحَّد الهدف. وفي الأثناء، كان للعريضة مفاعيل أخرى تاريخيّة بعيدة المدى، وأظهرُها أنها رسَّخت قاعدة التوافق بين المؤسّسة الملكيّة والحركة الوطنيّة. بَدَا التوافُق ذاك في حينه، ومن غير مِراء، شرطاً لا مناص منه؛ لتستقيم أوضاع النضال؛ من أجل حيازة الاستقلال الوطني، وليبلُغ النضال ذاك هدفه الذي من أجله انطلق واستمرّ. وقد يتعذّر علينا، اليوم، أن نتخيّل ماذا كان يمكن أن تنتهي إليه تلك الملحمة النضاليّة الوطنيّة لو لم يتكوّن ذلك التفاهُم والتوافق والتحالف بين الحركة الوطنيّة والملك.

وثانيها أنّ القوةَ السياسيّة الرئيسَ والمبادِرة، ضمن موقّعي العريضة، وهي «الحزب الوطنيّ» ( «حزب الاستقلال» لاحقاً) أحسنتْ صُنعاً حين لم تَحْصُر نطاق الموقِّعين للعريضة في أطرها وقادتها، وإنما رأت توسعة الدائرة، ففاتحت قيادات «الحركة القوميّة» ( «حزب الشورى والاستقلال» لاحقًا) وكثيراً من المستقلين، فنجحت في إقناع الكثيرين-من المستقلّين خاصةً-بالانضمام إلى الوثيقة. هكذا أصابتِ الحركة الوطنيّة نُجْاحاً في تفادي إخراج عريضةٍ كانت ستكون حزبيّة لو انحصرت في حزبٍ واحد، وفي جعلها- مع الكثير من الصعوبات- وثيقةً وطنيّةً جامعة. وإلى ذلك، لم تكتف وفود الموقّعين بتقديم نصّ العريضة إلى الملك وإلى «الإقامة العامّة» الفرنسيّة، وإنما قدّمتْها إلى القواد والباشوات، بمن فيهم مَن كانوا يتعاونون مع الاحتلال (وهم الكثرة الكاثرة فيهم)؛ بل فتحت حواراً مع بعضهم؛ أملاً في كسب جانبه إلى العريضة وفكرة الاستقلال الوطنيّ. هكذا أتت وثيقة 11 يناير 1944 تمثّل تمريناً سياسيّاً أولياً على فكرة العمل الجبهويّ (الذي ستتولّد منه لاحقاً تجربتا «الكتلة الوطنيّة»، أوائل السبعينات، و«الكتلة الديمقراطيّة» سنوات التسعينات)؛ ولكنها أتت، في الوقتِ عينِه، تضع الأسس لفكرة الإجماع الوطنيّ.

وثالثها أنّ فكرة التحرُّر الوطنيّ، التي نقلتْها عريضةُ الاستقلال إلى لحظة الإنجاز المادّي، أطلقت مفاعيلها في مجموع الجسم الاجتماعيّ على نحوٍ تعزَّزت معه منازِع التحرُّر من القيود التي ضربتْها المؤسّسات الأجنبية على قوىً اجتماعيّة وقطاعات اجتماعية حيويّة في البلاد. هكذا مثلاً، ومن أجل التحرّر من الهيمنة الثقافية واللغويّة الاستعماريّة أُنشِئت سلسلة المدارس الوطنيّة الحرّة؛ لتهيئة جيلٍ متشبّع بقيمه الحضاريّة والوطنيّة وبفكرة التحرّر من هيمنة الأجنبيّ المحتلّ. وعلى النحو عينِه سعتِ الحركة الوطنيّة في تحرير الطبقة العاملة من قيود الأطر النقابيّة الفرنسيّة، التي فُرِضت عليها طويلاً؛ من طريق تنظيم الخلايا الوطنيّة فيها، وربط نضالها بمعركة الاستقلال الوطنيّ، وصولاً إلى تحقيق استقلالها التنظيميّ بتأسيس إطارها الوطنيّ الجديد: «الاتحاد المغربيّ للشغل» (20 مارس/آذار 1955). والانفصالِ التامّ عن الأطر النقابية الفرنسية(C.G.T.).

أمّا رابعُها، فيكمَن في أنّ مشروع الاستقلال الوطنيّ، الذي وضعتْه العريضة على جدول الأعمال السياسيّ والشعبيّ، اصطدم بإرهابٍ استعماريّ مسعورٍ تَمَظْهَر في أشكالٍ مختلفة: القمع الوحشيّ للتظاهرات؛ اعتقال قادة العمل الوطنيّ ومحاكمتهم؛ منع الصحف والتجمّعات، إطلاق أيدي القوى التقليديّة العميلة من قُوّاد وباشوات في الناشطين الوطنيّين؛ خلْعُ الملك محمّد الخامس ونفيهُ وأسرتُه إلى جزيرة مدغشقر، وتنصيب المتعاون محمّد بن عرفة ملكاً، وإحاطتُه بالعملاء من العلماء والقواد... إلخ. ولم يكن ممكناً وقْف ذلك الإرهاب الاستعماريّ إلاّ باللغة التي يفهمها المستعمر: القوّة المسلّحة؛ هكذا أتى تأسيس المقاومة ثم جيش التحرير، وانطلاق عملهما في المدن والأرياف، يوفّر للمشروع الوطنيّ أسنانَه وأظافرَه، ويُلْحِق أكبر الخسائر في صفوف المحتلّ وعملائه ويردع بطشه و بالتالي، يُجَذِّر خيارات العمل الوطني معجِّلاً برحيل الاحتلال ونيْل الاستقلال.

وهكذا، أينما أَجَلْنَا النظر في تاريخ المغرب المعاصر، ألْفَيْنا أنفسنا أمام حدثٍ تدشينيّ مؤسِّس هو: إعلان عريضة المطالبة بالاستقلال؛ العريضة التي ما تزال ممتدّة المفعول حتى يوم الناس هذا بحسبانها العماد الذي تقوم عليه قواعد السياسة في المغرب.