تأرجحت البنية القيادية للنظام الدولي بين بنية تعددية دامت قروناً حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، مع تغيرات في موازين القوى من حين لآخر، وبنية ثنائية شهدت احتكار الوظيفة القيادية في النظام الدولي من قبل قوتين عظميين تناقضت أيديولوجيتاهما وتوازنت قواهما ، ما جعل استحالة الحرب المباشرة بينهما سمة أساسية لنموذج القيادة في ذلك النظام، فكانت الحرب الباردة بينهما والحروب بين حلفائهما بالوكالة عنهما سمتين أساسيتين لنموذج التفاعلات بينهما، ثم تكفل جورباتشوف اعتباراً من منتصف ثمانينيات القرن الماضي ومطلع تسعينياته بوضع نهاية للكيان السوفييتي، مما مهد لانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم. وبدا هذا الملمح شديد الوضوح حين أقدمت على غزو العراق في 2003 ضاربةً عرضَ الحائط بالأمم المتحدة، وكانت هذه الحالة التي شهدت فورة الانتشاء باحتكار القيادة هي بداية الانعطافة إلى وضع التعددية الطبيعي، وإن اختلف المحللون في تقدير الدرجة التي وصل إليها. غير أنه من الواضح في السنوات الأخيرة أن التحولات التي يمكن أن يشهدها النظام الدولي لن تقف عند هذا الحد، وإنما ثمة اتجاهات أخرى بالغة الأهمية قد تسفر عن تغيرات حقيقية فيه، أتخير منها الثلاثة التالية:
يتعلق الاتجاه الأول بانشقاق ظاهر في التحالف الغربي يحدث للمرة الأولى بهذه الدرجة نتيجة سياسات ترامب، وقد كانت نذر هذا الانشقاق بادية منذ الحملة الانتخابية لترامب حين عزف كثيراً نغمة أن شركاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) لا يتحملون نصيبهم العادل من العبء المالي للحلف، وبعد أن فاز أمكن لوزير خارجيته السابق في أول اجتماع وزاري يحضره للحلف أن يهدئ الأمور إلى أن تفجر الخلاف من باب آخر هو السياسات الحمائية لترامب التي أفضت إلى بدء حرب تجارية بين أميركا وحلفائها الغربيين كالاتحاد الأوروبي وكندا، ومن المؤكد أن طرفي الحرب سوف يخسران معاً، لكن نتيجتها سوف تكون بالغة الدلالة على بنية القوة في النظام الدولي. ويذكر أن قوة عالمية كالصين طرف في الحرب بما يصعب احتمال حسمها لمصلحة الولايات المتحدة.
ومن الأهمية بمكان أن هذه الحرب تضرب سياسات العولمة في الصميم إن لم تكن قد ضربتها بالفعل، وهي السياسات التي كانت الولايات المتحدة راعيتها الأساسية.
ويرتبط الاتجاه الثاني بالأول، فقد ترتبت على السياسات غير المألوفة لترامب اعتراضات دولية واضحة، كما حدث في انسحابه من اتفاقية المناخ الذي لاقى استهجاناً دولياً، واعترافه ب القدس عاصمة لإسرائيل الذي أفضى إلى هزائم دبلوماسية لواشنطن في الأمم المتحدة، وترتب على ذلك نفورها من المحافل الدولية التي لا تستطيع فرض إرادتها عليها، فانسحبت من «اليونسكو» ومن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وهو نفور متبادل، إذ استبعدت الدول الأعضاء في منظمة الهجرة الدولية مرشح ترامب لإدارتها، ساحبين من الولايات المتحدة سلطتها التاريخية على الهيئة. ويعني هذا أن ثمة اتجاهاً متبادلاً للعزلة بين الولايات المتحدة والعالم؛ فلا هي تريده إن لم ينصع لتوجهاتها، ولا هو يريدها إن أصرت على مواصلة تجاهل مصالح دوله.
أما الاتجاه الثالث والأخير، فهو صعود اليمين المتطرف في أوروبا وما يمكن أن يترتب عليه من آثار دولية هامة، وقد بدا أن هذا الصعود محصور في البداية في دول أوروبية غير رئيسة، كالمجر وبولندا والنمسا، لكن هذا التيار مثل تهديداً حقيقياً لبنية السلطة القائمة في فرنسا وألمانيا، ثم تحول التهديد إلى أمر واقع في إيطاليا، وها نحن نشهد الأزمة الأوربية الحالية حول قضية الهجرة بعد أن أُضيف الثقل الإيطالي إلى أصحاب المواقف المتشددة إزاءها. والمشكلة أن اليمين الأوروبي المتطرف يتبنى مواقف معادية تجاه الاتحاد الأوروبي، ما يعني أن استمرار هذا التيار في الصعود سوف يحمل أنباءً غير سارة لمشروع التكامل الأوروبي. ومن ناحية أخرى فإن الهيمنة المحتملة لهذا التيار قد تعني رأب الصدع الذي سبقت الإشارة إليه في التحالف الغربي ولو جزئياً، نظراً لإعجاب أنصاره بسياسات ترامب، بل إنهم معجبون أيضاً بسياسات بوتين، ما يعني أن هيمنة اليمين المتطرف على السلطة في أوروبا ستقود انقلاباً في النظام الدولي.