في الذكرى السادسة والأربعين لاستشهاد الأديب المقاوم غسّان كنفاني، تُحاور "بوابة الهدف" المُخرج السينمائي والكاتب العراقي قاسم حوَل، الذي أسس قسم السينما في مجلة "الهدف" في سبعينيات القرن الماضي حين كانت تصدرُ في بيروت، ليتحدثَ عن كنفاني الذي عرفَه وخبِره عن قُرب، وليروي يوميّات وحكايا عاشاها معًا.
الطريق إلى بيروت
عندما كنتُ في العراق، كان لدي شركة سينمائية وفرقة مسرحية، ومجلة أرأس تحريرها اسمها "السينما اليوم". في أحد الأيام، شاركتُ في مراسم دفن أحد الشعراء، وألقيتُ كلمة على قبره، تناولت في جزءٍ منها نضاله من أجل شعبه، لتُترجم السلطات هذا على أنّه تحريض. فزجّت بي في السجن، وتعرضت للتعذيب هناك.
بعدما خرجتُ من المعتقَل، لجأتُ إلى إبراهيم أبو الندى، وكان أستاذي في الثانوية، وأحد المؤسسين الفلسطينيين لشركة "سابا" لتدقيق الحسابات، وهي شركة أسسها لبنانيّون وفلسطينيون. وكان يأتي ليُشاهد مسرحياتي في مدينة البصرة بالعراق، وأصبح يُحبني بشكلٍ لا يُصدَق. وحينَ كان مُدققًا للحسابات في شركة "كوكا كولا" عيّنني فيها.
أخبرتُ إبراهيم أبو الندى أنّني أريد الهجرة، فقال لي –وكُنّا حينها بالعام 1969- "فيزا أبو ظبي تُؤخذ من السفارة البريطانية، وأنت الآن خارج من المعتقل ومُراقَب، وإذا ذهبتَ للسفارة البريطانية، سيتهمونَك بالتَجسُس!". وأخبرني بأنه سيتواصل مع مكتب الشيخ زايد في أبو ظبي التي كانت قبل الإمارات، كونه يعمل مدقق حسابات لمكتب الشيخ زايد، كي أحصل على الفيزا من لبنان.
ذهبتُ إلى لبنان وهي المرة الأولى التي أدخل فيها هذا البلد. في أحد الأيام ذهبتُ مع صديقٍ لتناول الغداء في مطعم، كان يقعُ تحت مجلة الهدف، فوجدنا غسان كنفاني هناك، ودار بينا حديثٌ عن الثقافة والأدب، وسألني حينها غسان: أين المسير، فأخبرته أنّي ذاهبٌ إلى أبو ظبي، فقال لي إن هناك مسرحية اسمها "أوكازيون" للكاتب اللبناني عصام محفوظ، كان نَصّها عنده على الطاولة وأعطاني إياه لأقرأه، ثم عرض عليّ أن نُشاهدها ونكتب عنها في مجلة الهدف. الحديث هنا لقاسم حوَل.
قرأت المسرحية وشاهدتها، ثمّ كتبت لغسان دراسةً عنها، ويبدو أنها أعجبته جدًا، إذ قال لي: تعالْ تعالْ، انتَ شو رايح تعمل بأبو ظبي!! إنتَ ما تروح على الخليج، أنا كنت في الكويت وعانيتُ الكثير..، لا تروح".
وقال غسان حرفيًا: إحنا بعدنا طالعين من الأردن، وأسسنا مجلة، تعال معنا، جوع معنا عندما نجوع، واشبع معنا عندما نشبع. فقدمتُ أول مسرحية "طفل بلا عنوان"، وهي التجربة الأولى لي مع "الهدف"، بعد أن أسّسنا مدرسة لتعليم المسرح للشباب والأطفال، وأثناء إعطائهم الدروس تمّت كتابة المسرحية في المخيم، وكان اسم المسرحية "بلا عنوان"، حتى اقترح طفلٌ من الممثلين أن نسميها "طفل بلا عنوان"، وتمّ له ذلك.
تم عرض المسرحية في المخيم ولاقت نجاحًا كبيرًا، بعد ذلك نفّذنا جولة عروض في كافة المخيمات.
أذكر أنه طوال عملي في مجلة الهدف، لم يحذف غسان كنفاني من مقالاتي حرفًا واحدًا، فإذا كان يرغب بالتعديل، يُعدّل بعض الكلمات لغويًا. غسان لم يكُن يتدخّل في إبداعنا، وهو من الصحفيّين الأفذاذ، الذين يتقنون فنّ "العَنونة"، أي كيف يعنوَن المقال. وكان يقولُ لنا إنّ "العنوان يجب أن يكون غامضًا غير مباشرٍ، وكذلك مُشوّقًا".
"حبة زيتون وخُبزة"
تعلّمنا من غسان الطيبة والتواضع، خلال فترة الدوام "ما تشوف إلا غسان كنفاني يتجول بين الأقسام، كُنّا نأكل ونحنُ نعمل، فتراه يأخذ حبة زيتون من هذا، وقطعة خبز من ذاك، فخلق أسرةً كاملة، لم نكُن موظفين في مجلة الهدف، بل كُنّا أسرة الهدف"، يُكمل حول.
هذا هو معلّمنا، لقد علّمنا الإبداع والصحافة والأخلاق الجميلة، وطوال فترة عملنا لا أذكر حدوث خلل أو مشكلة بيننا.
بالعام 1971، لم يستطع غسان السفر إلى سوريا لمشاهدة روايته "ما تبقى لكم" بعد أن أصبحتْ فيلمًا اسمه "السكين" من إخراج خالد حمادة، وفي ذات الوقت، لم يكُن باستطاعتنا إحضار الفيلم السينمائي إلى لبنان، وهو بوزن 80 كيلو أو أكثر، وفي تلك الفترة لم يكن هناك "ديجتال"، فكلّفني غسان بالذهاب إلى سوريا لمشاهدة الفيلم، ولأعود إليه بانطباعاتي عنه، ولأكتب عنه أيضًا.
في ذلك الوقت كنت مسؤولاً عن الصفحة الثقافية في مجلة الهدف، وأنشأتُ فيما بعد قسمًا خاصًا بالسينما، والفيديو، والفوتوغراف؛ ليُصبح لدينا في الجبهة الشعبية مؤسسة ضخمة في هذه المجالات. وأول مشاركة لنا في مهرجان على مستوى العالم كانت لفيلم عن نهر البارد، أذكر أنّني أصريت على رفع علم فلسطين بين أعلام الدول المُشارِكة، بعد مُعارضة القائمين على المهرجان، بحُجة أن الفيلم ليس لمنظمة التحرير الفلسطينية، بل لفصيلٍ بداخلها، إلّا أنهم وافقوا في نهاية الأمر.
تاريخ اليمن.. المنسيّ
بالعام 1972 دُعي غسان كنفاني إلى مؤتمر في اليمن، ينظمه اتحاد الصحفيين العرب برئاسة كامل الزهيري، وفي تلك الفترة كانت الجبهة الشعبية تمرّ بظروفٍ عصيبة؛ وعلى إثره كلّفني غسان بأن أنوب عنه في المؤتمر، الذي التقيت خلاله بالعديد من الشخصيات الهامة، وتطرّقنا للحديث عن قوانين للسينما وهيكلية للعمل عليها في هذا الإطار.
في يومٍ، أخذوني إلى قبوٍ لأشاهد ما لديهم من أفلام، ورأيت عددًا كبيرًا من علب الأفلام، وأخبروني بأنه عقب هروب البريطانيين من اليمن إبّان الثورة، لم يتمكنوا من أخذها معهم، فكدّسها اليمنيّون (في القبو).
بين العلب، كان هناك جهاز عرض 16ملم، فتحت علبة أحد الأفلام وعرضناه على الحائط، وإذا به يُظهِر أحد السلاطين البريطانيين وهو يُعذِب رجُلًا يمنيًا فقيرًا وضربه حتى الموت. ذُهِلتُ من هذه الثروة غير المُستغلة بالشكلِ الصحيح.
قلت لهم "كيف تاركين هذه الأفلام هيك!، هذه مجازر حصلت في اليمن، ولديكم وثائق خطيرة". يتابع حول: كانت أفلامًا أصليّة، ولو حدث بها أيّ خلل ستعطب، يجب تحويلها إلى "نيجاتيف"، ومن أجل هذا كُنا بحاجة إلى 20 ألف دولار، فرّد اليمنيّون أنّ هذا المبلغ "بمثابة ميزانية وزارة بأكملها، ولن نستطيع توفير هذه المبلغ".
هاتفتُ جورج حبش وأخبرته بالأمر، وبدوره تواصل مع المكتب السياسي، وردّ عليّ بأنّ الجبهة الشعبية ستتكفل بالأمر، وبالفعل أخذنا الأفلام بالطائرة وتم تحميضها وتنظيفها، ومن ثم أرجعناها لليمن.
أذكر أننا كتبنا مقالاً ونشرناه في الهدف، وغسان هو من وضع العنوان "الحياة الجديدة في سو قطر ة وحكاية عن السلاطين".
وفي وقتٍ ما عقدت الجبهة الشعبية مؤتمرًا سريًا لها في لبنان، فكلفني غسان برئاسة التحرير في مجلة الهدف، وقال لي: "أنت المسؤول أمامي عن كل حرف يُنشر في الهدف، لا تُغادر المجلة، ستنام هنا، لا أريد أن نتأخر على الجماهير".
مزهرية فيتنام!
ذات مرةٍ في فيتنام أعطوني كمية كبيرة من الأفلام، حيث كانوا ينتجون أفلامًا عظيمة، حتى وقت المعارك كانوا ينتجون الأفلام، وبالفعل أفلامهم "دوّخت الأمريكان"، فأدركوا ما هو دور السينما في الثورة الفيتنامية، وكوبا أيضًا، لأعرض هذه الأفلام بعد ذلك في المخيمات الفلسطينية، وأذكر أنهم أهدوني "مزهرية" كبيرة جدًا مصنوعة من إحدى الطائرات التي أسقطها الفيتناميون وكتبوا عليها أسماء كل ثوراتهم وتواريخهم الهامة بالحفر. أهدوني إياها، ووددت أن أهديها لجورج حبش، فقال غسان أنه سيُخبر جورج حبش بأنه يرديها لكثرة جمالها، واحتفظ بها غسان.
"... أنا أعتقد أنه سيتم اغتيالي!"
كنّا ذاهبين أنا وغسان لتناول طعام الغداء. كنا يوميًا نأكل في مطعم ٍصغير موجود أسفل مقر مجلة الهدف، وكانت تملكه امرأة لبنانية، زوجها شهيد فلسطيني. كانت مجلة الهدف في الطابق الأول، والمطعم في الدور السفلي، لكن في ذلك اليوم ذهبنا لمطعمٍ آخر لنتناول "المسخن الفلسطيني" في شارع الأوتوستراد، في الطريق قال لي غسان التالي: "قاسم.. أنا أعتقد أنه سيتم اغتيالي"، كان هذا الحديث قبل أسبوعين على استشهاده، فسألته كيف عرفت ذلك، فقال "مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة ذكرني بالاسم، وقال في كلمته بأنني أحرض ضد الدولة الإسرائيلية، وأعتقد أنها إشارة دولية لتبرير اغتيالي".
شعرت بالخوف عليه، وأشرتُ عليه بتعيين مرافقين لحمايته. لكنّ غسان أجابني: كيف يمكنك أن تتصور فنانًا أو أديبًا يمشي في الشارع ومعه مرافقين، سيفقد حريته. حسنًا سأحاول أن أتخذ بعض الإجراءات مع نفسي".
فجر الحازمية الحزين
عند ساعات الفجر، خابرني الموسيقار العراقي منير بشير، وهو يقطن في منطقة الحازمية، القريبة من بيت غسان كنفاني، قال: "قاسم.. حصل انفجار كبير جدًا في الحازميّة، وعندما سألت حول ما جرى، أخبروني أن غسان استشهد".. لم أصدق "معقول!".
ذهبت مُسرعًا إلى مقرّ مجلة الهدف، فوجدتُ بسام أبو شريف جالسًا مكان غسان كنفاني، جلسنا جميعًا وبكينا بُكاءً شديدًا، أُصِبنا بالذهول، لا ندري ماذا سنفعل الآن، غسان اسم فلسطينيّ لامع، وشخصية مُدهشة.
بدأ بسام أبو شريف بالحديث إلينا، قال: يجب أن نتماسك، هذا طريق الثورة، وعليكم أن تتوقعوا بأنّنا سنخسر أي شخص عزيز، وفي أي وقت.
في المساء عندما أردتُّ العودة إلى المنزل، لم أدرِ ماذا أفعل، لقد كان العالمُ ساكنًا، فقدنا جزءً من كياننا؛ استشهد غسان وكان غيابه ضربة مُؤلمة جدًا، وخسارة كبيرة جدًا، وتقريبًا لبنان كلها خرجت لتُشيّعه. كانت مجلة الهدف عندما تصدر يوم السبت لا يبقى أحدٌ في لبنان إلا ويشتريها ليقرأها، فلم تكُن في البلاد مجلة تُشبهها.
وفي الذكرى الأولى لرحيله، طلب منّي جورج حبش أن أكون عريف الحفل، فكتبتُ نصًا أدبيًا لهذه الذكرى، نُشر على الغلاف الفني لمجلة الهدف وعليه صورة إحدى لوحات غسان. إلى اللقاء يا صديقي.
يتبع في الجزء الثاني: كواليس تصوير فيلم "عائد إلى حيفا" للمخرج "حوَل"، وتفاصيل جديدة عن مشوار هذا الفيلم.