Menu

على هامش جموح الاحتلال

علي جرادات

بعد النكبة، عام 48، عانى الشعب الفلسطيني مدة عشرين عاماً من وضعية العيش في تجمعات سكانية منفصلة، وفي ظل أنظمة سياسية وقانونية، وظروف اقتصادية اجتماعية مختلفة، لكن بؤس حياة مخيمات اللجوء، جعلها أكثر التجمعات الفلسطينية قابلية لإطلاق شرارات الثورة المعاصرة، حيث لم يتبقَ للاجئين ما يخسروه «سوى القيد والخيمة». أما بعد عدوان 67 فقد قدم المحتلون، من حيث لا يدرون، «خدمة» أن تتوحد ظروف حياة التجمعات السكانية الفلسطينية تحت الاحتلال، حيث «اشتعل السهل كله»، وتغلغلت الثورة المعاصرة، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، في أوساط الشعب الفلسطيني في «الداخل» و«الخارج»، وتبلور، المشروع الوطني التحرري، والبرنامج السياسي الواحد المُوحَّد والمُوحِّد، وتجذرت الهوية الوطنية الكفاحية، وازدهرت الأحزاب وأطرها الجماهيرية والنقابية، وتوسعت رقعة التنظيم والانتظام، وسادت ثقافة وطنية تحررية، عمادها المصلحة الوطنية فوق كل مصلحة، و«لا تمت قبل أن تكون نداً»، و«حاصر حصارك لا مفر...»، لكن مسار «مدريد أوسلو» قطع السياق كله، حتى بات ما بعده، بصورة كبيرة، غير ذي صلة بما قبله، حيث تفككت وحدة المشروع الوطني والبرنامج السياسي وأدوات النضال والمسارات، وتفشت مظاهر المشهدية والفساد و«تقديس» الذات و«شيطنة» الآخر، وتغليب الفئوي على الوطني، و«السلطة» على «المنظمة»، وانتهاك التكتيكي للإستراتيجي، والبراجماتي للمبدئي، وكل ذلك في ظل مرحلة تحرر وطني وديمقراطي لم تُنجز مهامها بعد. 
أما الآن وهنا، فإن «قانون القومية» بقدر ما يحمل من مخاطر، فإنه يقدم، من حيث لا يدري المحتلون، «خدمة» أنه لم يترك، واقعياً وموضوعياً، للنخب القيادية الفلسطينية سوى: إما أن تنهض، وتنتفض على نفسها، وتزيح عنها مظاهر الانقسام والانتظار والعجز والتردد، وتعيد الاعتبار للميثاق الوطني، والبرنامج السياسي الواحد الموحِّد، والقيادة الكفؤة والجدية، لأجل استنهاض شعبها وتحويل مخاطر هذا القانون إلى فرص، كما حدث بعد هزيمة 67، أو أن يبرز، تقدم الأمر أو تأخر، من داخل، ومن خارج بنية الحركة الوطنية المعاصرة تشكيل قيادي جديد قادر على مواجهة تحديات ومخاطر المرحلة، فالطبيعة، والسياسة، أيضاً، تكره، ولا تعرف الفراغ، والشعب الفلسطيني لن يُسلِّم أو يستسلم.
هذا ناهيك عن أن «قانون القومية» هذا، إنما يعبر عن المأزق البنيوي ل«دولة» الاحتلال، «إسرائيل»، الذي يتمثل في أنها ولِدت شاذة مارقة، ولا تزال، كما ولِدت، عدوانية توسعية، عنصرية إقصائية إحلالية، وفي أنها، ككل الجماعات البشرية، لا تصنع تاريخها على هواها، إنما على أساس ظروف موضوعية تُواجَه بها، وهي، هنا، وجود الشعب الفلسطيني، وعدالة قضيته، وشرعية حقوقه الوطنية والتاريخية، ومشروعية مقاومته الدفاعية التحررية التي لم تنقطع، ولن تنقطع، بمعزل عن تبدلات وتيرتها وأشكالها وعناوينها وراياتها، ما بقي الاحتلال جاثماً على صدر فلسطين وشعبها. 
يعني؟ إن «قانون القومية» سيخلق ل«إسرائيل» هذه إشكالات جديدة، ويضعها في وضعية من خلع أقنعته، فضُبط متلبساً. يشي بذلك أنه في حين تؤكد الأحزاب اليهودية الأساسية، برنامجاً وممارسة، على أن «إسرائيل» هي «الوطن القومي للشعب اليهودي»، نجد أن عدداً منها، (حزب «العمل»، وحزب «يوجد مستقبل»، وحزب «الحركة»)، ومعها قيادات بارزة في حزب «الليكود»، (مثل «موشي آرنس» و«بني بيجن»)، عارضت إقرار«قانون القومية»، بسبب ما سيخلقه ل«إسرائيل» من «مشاكل داخلية وخارجية فعلية زائدة»، طالما أن مضامينه تُطبَّق على الأرض منذ سبعين عاماً، وبلا متاعب جدية.
أما أحزاب الائتلاف الحاكم: «الليكود»، و«إسرائيل» «بيتنا»، و«البيت اليهودي»، «حركة شاس» و«يهود هتوراه»، فترى أن «قانون القومية» يدرأ خطر أن تصبح «إسرائيل» «دولة ثنائية القومية»، متناسية أن تكريس «إسرائيل» «وطناً قومياً يهودياً كما هي انجلترا انجليزية...»، قد أصبح خارج الممكن الواقعي والتاريخي، حيث لم يعد هنالك أغلبية سكانية يهودية في فلسطين بين النهر والبحر، بل توازن وتداخل سكاني، ما يعني أن مأزق «إسرائيل» «اليهودية» الذي لم تحله جميع قوانين وتشريعات الاحتلال والتهويد والضم والعدوان والتوسع العنصرية منذ عام 48، لن يحله «قانون القومية» الذي وضعته ومررته أشد حكومات «إسرائيل» استخداماً للسرديات «التلمودية» الخرافية. ولو شئنا الإيجاز والتكثيف لقلنا: إن جموح الاحتلال، هنا، هو شكل صارخ من أشكال إحلال الرغبات محل الواقع، بحسبان أن زمن موجات هجرة اليهود الكبيرة، و/ أو طرد عشرات أو مئات الآلاف من الفلسطينيين، قد ولى. أما آمال وتمنيات «تحويل الشعب الفلسطيني إلى غبار الأرض»، فأحلام يقظة ليس إلاّ.