بعد حرب أكتوبر عام 73 نشطت الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط للتوصل إلى حل بخصوص الصراع العربي الصهيوني و للقضية الفلسطينية بشكل خاص، باعتبارها القضية المركزية للأمة العربية وجوهر الصراع في المنطقة، وكان على رأس الدبلوماسية الأمريكية وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر اليهودي الألماني الأصل وصاحب نظرية الخطوة خطوة، وقد تكللت المساعي الأمريكية إلى التوصل لاتفاقية كامب ديفيد بين مصر السادات والكيان الصهيوني في عهد رئيس الوزراء مناحيم بيجين زعيم إحدى العصابات الصهيونية المسلحة، وكان ذلك أول اختراق صهيوني للجدار العربي الرسمي الرافض لوجوده كعنصر دخيل على نسيج المنطقة الحضاري.
لقد أحدثت تلك الاتفاقية صدمة كبيرة في الوطن العربي قابلها النظام العربي الرسمي برد فعل غاضبة بسبب خروجها على قرارات قمة الخرطوم، التي انعقدت بعد هزيمة يونيو حزيران 67 والمعروفة بقمة "اللاءات الثلاث: لا تفاوض ولا اعتراف ولا صلح" مع الكيان الصهيوني، غير أن النقد العربي الرسمي والشعبي الذي وجه للنظام المصري لم يكن كفيلا بوقف الانحدار في الموقف السياسي العربي، فمساعي السياسة الأمريكية لإنهاء الصراع العربي الصهيوني، استمرت مترافقة مع تراجع المد القومي وبروز الدور الخليجي العربي، وقد اتسمت تلك المرحلة بعد ذلك بطغيان فكرة الواقعية السياسية على الصعيد العربي، وعلى الصعيد الفلسطيني كان الميل جارفا إلى التوافق مع إيقاع التسوية السياسية العربية، خاصة بعد إخراج قوات الثورة الفلسطينية من بيروت، وفقدان الساحة اللبنانية كقاعدة انطلاق للثورة الفلسطينية، فكانت المباحثات الأمريكية الفلسطينية في تونس، التي كان ينظر إليها على أنها أول اهتمام أمريكي رسمي بمنظمة التحرير الفلسطينية وبدورها التمثيلي في أي مباحثات سياسية قادمة خاصة بشأن القضية الفلسطينية. غير أن هذا الاهتمام الأمريكي بالمنظمة ظل باهتا حيث حضر في مباحثات مؤتمر مدريد وفد أردني فلسطيني مشترك قبل أن تملي "الحاجة السياسية الموضوعية" لإنجاح المؤتمر إلى ضرورة تمثيل فلسطيني مستقل، وقد شكل المؤتمر على الرغم من عدم توصله إلى نتائج هامة ملموسة على صعيد التسوية، نقطة ارتكاز لمباحثات فلسطينية إسرائيلية في النرويج، توجت بالتوصل أخيرا إلى اتفاقية أوسلو برعاية أمريكية بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، وبهذه الاتفاقية التي تم التوقيع عليها في احتفال في حديقة البيت الأبيض بواشنطن، حضره الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون حقق المشروع الصهيوني أول إنجازه السياسي الاستراتيجي التاريخي بعد تأسيس الكيان الصهيوني، لأن الاتفاقية هذه المرة لم تتم مع أي طرف في النظام السياسي العربي الرسمي كما حصل مع مصر سابقا، بل تمت مع الطرف الرئيسي في الصراع وهو منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، والفرق كبير في الحسابات السياسية والأمنية الاستراتيجية بين أن يكون الطرف الفلسطيني صاحب القضية هو الذي يتنازل عن 80 % من أرضه لصالح (إسرائيل)، وبين أن يكون الاتفاق مع أي طرف عربي آخر.
كان لابد للسياسة الأمريكية حتى تنجح مساعيها الدبلوماسية في جر "القيادة الرسمية" للشعب الفلسطيني إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني الذي أقيم على أنقاض وطنه بعد حملة الاقتلاع والتهجير بسبب المذابح الصهيونية التي ارتكبت بحقه، حيث نظر إليه من قبل الحركة الصهيونية بأنه اعتراف بمشروعها السياسي الاستيطاني التهويدي. لذلك جاءت اتفاقية أوسلو لتحقق ذلك الهدف لأنها تنطوي على تنازلين خطيرين أولهما: الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني، مقابل الاعتراف فقط بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثل للشعب الفلسطيني دون الاعتراف بالدولة الفلسطينية؛ ثانيا: اعتمادها في التسوية على حدود الرابع من يونيو حزيران 67 دون التمسك بقرار التقسيم رقم (181) الصادر من الأمم المتحدة في نوفمبر 1947، والذي على أساسه تم إعلان قيام دولة الكيان رسميا في 15 مايو عام 1948.
هكذا تنطوي اتفاقية أوسلو على خطأ سياسي تاريخي وعلى خلل منهجي، وهذا الخطأ والخلل فضلا ما ينطوي عليه من تنازل كبير، فإنه يتجاهل طبيعة تكوين الكيان الصهيوني الدينية/الأيديولوجية اليمينية المتطرفة، الذي يمارس سياسة التعنت والمراوغة والمماطلة وعدم التقيد والالتزام بالاتفاقيات السياسية الموقعة معه، لذلك لم تعمل اتفاقية أوسلو على الوصول إلى الحل النهائي حسب المدة الزمنية المتفق عليها، بل كانت هي العقبة الحقيقية للتوصل إلى تسوية فلسطينية إسرائيلية نهائية، بما وفرته من فرصة زمنية لتحقيق المطابع التوسعية في القدس وسائر أراضي الضفة الغربية التي احتلت في عام 67، وما يجري الآن في الخان الأحمر هو جزء من هذه السياسة التوسعية.
لقد كانت اتفاقية أوسلو بداية غير موفقة بتبرير أنه تحقيق للبرنامج المرحلي، الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني في دورته (12) عام 1973، والمعروف ببرنامج النقاط العشر -الذي قدمته الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين - مسايرة لنهج التسوية العربية الإسرائيلية، حيث باتفاقية أوسلو تحولّت الثورة الفلسطينية المعاصرة إلى سلطة مدنية في إطار حكم ذاتي تحت الاحتلال، ولتحل مكان منظمة التحرير الفلسطينية الذي أصاب دورها التهميش بتحول وظيفتها التمثيلية إلى مجرد مكتب في العاصمة الأمريكية واشنطن قامت الإدارة الأمريكية بإغلاقه في إطار عدوانها غير المسبوق على الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة.
باتفاقية اوسلو تحولّت القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني وديموقراطي إلى قضية سياسية كقضايا السياسة الدولية المزمنة، التي لم تجد حلولا سياسية مناسبة لها، بسبب طبيعة المعادلة الإقليمية والدولية، وكذلك إلى قضية إنسانية بسبب تولى وكالة الأونروا مسؤولية تقديم الخدمات للاجئين الفلسطينيين في داخل الوطن والشتات، وهي التي تمر الآن بأزمة مالية بسبب قطع المساعدات المالية الأمريكية عنها، على طريق إنهاء وظيفتها ودورها، وصولاً لشطب حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي شرودا منه، أي عودتهم إلى مسقط رأسهم في وطنهم. بتوقيع اتفاقية أوسلو زاد نهم العقلية اليهودية التي يسكنها خرافات التوراة والتلمود إلى مزيد من نهب الأرض الفلسطينية، بإقامة المستوطنات في الضفة الغربية التي قطعت أوصال المدن الفلسطينية الرئيسية الى كانتونات سكانية منعزلة.
باتفاقية أوسلو تم فتح الأبواب العربية مشرّعة على مصراعيها أمام الدول العربية لمزيد من الاعتراف السياسي بتعميم نهج كامب ديفيد، فكان توقيع اتفاقية وادي عربة بين الكيان الصهيوني والمملكة الأردنية الهاشمية عام 1994.
باتفاقية أوسلو تم إيجاد المبررات لبعض الدول العربية خاصة الخليجية منها للقيام بإجراءات التطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي اتخذ أشكالا مختلفة من زيارة المسئولين إلى تل أبيب، وإلى فتح مكاتب التمثيل التجاري والإعلامي، وإلى الميل علنا للتحالف مع الكيان الصهيوني ضد النفوذ والتمدد الإيراني... والسؤال ماذا تبقى بعد ذلك من اتفاقية أوسلو التي مضى عليها أكثر من عقدين من الزمن دون أن تتحول السلطة الفلسطينية إلى دولة مستقلة ذات سيادة كاملة كما هو حال دول المنطقة والعالم؟!
بعد وصول مشروع حل الدولتين الذي يحظى بإجماع دولي إلى طريق مسدود بسبب تعنت الكيان الصهيوني وتخلي الإدارة الأمريكية عنه لصالح ما تسمى بصفقة القرن التي تروج في العواصم العربية عبر كوشنير اليهودي صهر الرئيس الأمريكي والمبعوث الخاص للمفاوضات غرينبيلات، هل من الممكن أن يكون هناك مبرر وطني وأخلاقي لاستمرار التمسك باتفاقية