لا يمكن تجاهل بديهية راهنة تتحدد في أن واقعنا الفلسطيني كشعب وقضية، يعاني من مأزق قلما عانى منه شعب آخر، وخاصة لشعب تحت الاحتلال، يعيش تجربة القمع والتهجير والتشريد، وهو واقع يتمظهر في مستويات عديدة من الممكن تكثيفها في المستويات الأربعة التالية: -
دوليًا: يمتاز الواقع الراهن بالتغير المتلاحق نحو إعادة ترتيب وبناء منظومة دولية متعددة الأقطاب في مواجهة التفرد والغطرسة الأمريكية بقيادة ترامب، وهو أمر إذا ما حولناه لمعطيات يفرض الثبات في الفعل، ويعطل إمكانياتنا التحررية فما من حديث دولي ودعم راسخ وثابت يمكن البناء عليه لمواجهة أحد أضلاع النظرية الصهيونية الحليف الدولي لإسرائيل أمريكا المتفردة بالمبادرة السياسية في العالم قاطبة وفي قضيتنا الوطنية بشكل خاص صفقة القرن الأمريكية.
إقليميًا: الوضع الإقليمي ما زال تائها في أزماته العميقة والمعقدة وتتنازعه بلورة تحالفات أو بناء محاور إقليمية، ليست القضية الفلسطينية في أساسها أو أنها تقبع في أسفل سلم اهتماماتها كإيران و تركيا وروسيا وغيرهما.
عربيًا: انهار ما اصطلح على تسميته العمق العربي، و"البعد القومي" تحول إلى عامل ضغط على القضية الفلسطينية محاولاً إيجاد حل لأزماته على حساب الشعب الفلسطيني، بدلاً من تشكيل الدعم والعمق المطلوبان، فميدانيًا طغت الأزمة السورية على الدعم للقضية وكذا الأزمات الليبية والعراقية والمصرية واليمنية والأردنية، وجميعها ترهق كاهل الفلسطينيين، إضافة إلى الأزمات السياسية والاقتصادية والخلافات الخليجية التي تجعل هذه الدول غارقة في سعيها للتساوق مع المشاريع الأمريكية على حساب الطرف الفلسطيني.
فلسطينيًا: يعاني الواقع المحلي الراهن من انقسام عميق أفقي وعمودي قد يصل إلى مرحلة الانفصال الجغرافي نتيجة لنفق أوسلو المظلم، وما خلفه من انقسام سياسي وجغرافي وبشري، وصولاً إلى الصراع وانقسام ما يسمى السلطة بين سلطة فتح وسلطة حماس، وما تبع ذلك من انهيار وبداية تشتت منظمة التحرير الفلسطينية، كمؤسسة فلسطينية جامعة للكل الفلسطيني، بل ارتهانها لطرف على حساب الأطراف الأخرى، وهو ما حدد ملامح الاستقطابات الحزبية ما بين طرف وآخر من طرفي معادلة الانقسام، والأهم انقسام وتشتت الشعب الفلسطيني في الداخل 1948 والشتات وأزماته والهجمة على اللاجئين في لبنان.
وحسب الإحصاء الأخير وصل عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان إلى ما يقارب 180 ألف لاجئ فقط، وهو أمر خطير إذا ما أخذنا بالحسبان أن عدد اللاجئين في لبنان كان يقارب نصف مليون لاجئ وأيضًا نزوح عدد من لاجئي سوريا نحو لبنان. وفي سوريا تم تصفية عدد من المخيمات ومراكز اللاجئين، وفي أراضي 1967 نرى انقسامات وبروز اختلاف في الأولويات والاهتمامات والظروف المادية التي تؤهل لتطور اجتماعي-اقتصادي لكل جزء يتناقض في مصالحه واهتماماته اليومية مع الطرف ، ورغم هذه الصورة السوداوية، إلا أن الشعب لا زال يختزن طاقة ثورية يمكن التعويل عليها واستنهاضها في مواجهة الاحتلال أولاً، وفي مواجهة سياسات السلطة الأوسلوية والانقسام، ولمواجهة صفقة القرن الأمريكية والمحاولات الشرسة في ظل الواقع الراهن لتصفية القضية الفلسطينية، في حال إن وجدت القوى الثورية المنظمة لهذه الطاقات وهو ما يعني "الحزب الثوري"، فمن هو الحزب الثوري؟ وكيف يمكنه القيام بدوره؟ وما هي القوى والفئات صاحبة المصلحة في تثوير الواقع؟ وما هو حيزه الجغرافي والبشري؟
لقد أدت الظروف في المرحلة الراهنة لبروز مهام ملحة أمام الحزب الثوري أو القوى السياسية الفاعلة وخاصة مهمة تثوير الشعب الفلسطيني والتي عملت في دروب وبرامج متعددة لتنميط سلوكياته وعلاقاته الاجتماعية ونقلها من مرحلة الوطنية والشعور والعمل الوطني وما يتبع ذلك من ضرورات، من تعزيز التكافل والتضامن والمؤازرة، ومفاهيم التضحية والتطوع والعمل الاجتماعي التطوعي خدمة للقضية الوطنية الفلسطينية بكل مهامها وتفرعاتها، وخدمة المجهود النضالي في مواجهة الاحتلال، إلى العمل على تعزيز مفاهيم من قبيل: "المواطنة" الفردية والتنافسية والقيم الاستهلاكية في المجتمع الذي لازال يخضع للاحتلال، ولسلطة تتعامل مع نفسها وتعتبر نفسها دولة، وهو ما فرض على الفلسطينيين علاقات هيمنة سلطوية، تكون فيها السلطة محور العمل السياسي والوطني والاجتماعي، ويصبح فيها المواطن مجرد فرد تابع لهذه السياسات تربطه بها علاقات بنكية وضرائبية وخدمات متبادلة في إطار المنفعة ضمن إطار مدن (مناطق) أوسلو.
لقد عمدت السلطة لتكريس هذا الواقع بوعي، وفُرض عليها عبر أوسلو، وبهذا رسخت نفسها كممثل للوطنية الفلسطينية، وهذا تطلب إضعاف وإنهاء دور الحزب الثوري والقوى والفعاليات السياسية الأخرى، وصولاً لإنهاء دور منظمة التحرير الفلسطينية كإطار جامع، وحصر الفعل السياسي والتمثيل الوطني بالسلطة ومؤسسات سلطة أوسلو وبشخص الرئيس، على حساب المؤسسات والأحزاب والفعاليات الوطنية الجامعة للكل الفلسطيني، عبر تكريس علاقات الهيمنة السلطوية بحسب تعبير "غرامشي"، مما دفع الفلسطيني الفرد للانتقال من العلاقات الجماعية إلى ممارسة دور المواطن لصالح علاقاته بهذه السلطة، والخضوع لهذا الدور في إطار العلاقة بالسلطة في الضفة وغزة، وتهميش دور مواقع التواجد الفلسطيني الأخرى، وتهميش مؤسساته التمثيلية -منظمة التحرير الفلسطينية تحديدًا-.
انتخابات 2006 وانتصار حركة حماس، ولاحقًا تفردها بحكم غزة أضعف هذا الدور، حيث حاولت حماس لعب ذات الدور، ولكن تطورات الواقع وحصارها ومحاولات الدفاع عن ذاتها، ومراكمة عناصر القوة واصطدامها بالعدو الصهيوني في أكثر من حرب، جعلها تعود لممارسة "دور المقاومة" مما جعل فلسطينيي غزة يخضعون لشروط علاقة مغايرة، والخضوع لظروف اقتصادية اجتماعية مادية مختلفة، وبهذا فإنه يمكن اعتبار الشعب الفلسطيني وللأسف عبارة عن كم من الأفراد مقسومين بحسب واقعهم وظروفهم المادية إلى أربعة أقسام:
- فلسطينيي 1948 وهم إفراز لاتفاق أوسلو، وما عناه ذلك من إخراجهم من معادلة الصراع، وبحثهم عن دور في إطار الدولة الصهيونية، واتجاههم نحو النضال المدني والحقوقي تحت سقف المواطنة في دولة الاحتلال، مما أفقد منظمة التحرير الصفة التمثيلية لهم.
- فلسطينيي اللجوء والشتات وهم إفراز الاحتلال نتيجة التهجير في 1948 و1967، ونتيجة لانكفاء الثورة والعمل من ساحات الخارج، انكفأ دورهم في البحث عن تحسين أوضاعهم وظروفهم والنضال المدني كل في مكان تواجده، ولاحقًا نتيجة الظروف العربية والظروف الإنسانية خفت دورهم، ونتيجة للبحث عن مفهوم الدولة الفلسطينية بدأ البحث لإيجاد حلول بديلة لعودتهم، مما أفقد منظمة التحرير الفلسطينية، ممثلة بالسلطة المتنفذة فيها، الدور التمثيلي لهم وانقسامهم سياسيا للتبعية بين منظمة التحرير وحماس وغيرهما.
- فلسطينيي الضفة الغربية وهم يرزحون مباشرة تحت حكم السلطة، وعمودها الفقري فتح وتُمارس عليهم السياسات السلطوية والهيمنة، ومحاصرون بسياسات الاحتلال.
- فلسطينيي غزة وهم يخضعون لحكم حماس، والحصار الصهيوني، والاستهداف ومحاولات الابتكار والمبادرة الثورية، وآخرها مسيرات العودة وكسر الحصار، وما تبعها من إبداعات، ولكن ذلك مسوق ببرنامج حماس، والقوى الفاعلة على الأرض ومسوق بظروف الحصار والواقع الإنساني الأليم.
بالإضافة إلى القدس والتي تخضع لظروف خاصة تجعلها أصلاً هامشية في هذا السياق.
وبهذا فإن واقع الشعب الفلسطيني المحاصر بالاحتلال وسياساته، وكذلك سياسات حليفه الدولي (الولايات المتحدة)، والمحاصر بترهل المحيط العربي وأزماته وصراعاته وتشتته، وبضعف السلطة ومنظمة التحرير ومؤسساتها السياسية، والمحاصر بضعف المردود السياسي والاجتماعي، للقوى والأحزاب والمؤسسات السياسية، مما جعل الشعب يفقد ثقته بنفسه ولأول مرة تظهر بوادر لنجاح سياسات الاحتلال في ردع الشعب الفلسطيني، أو ردع أقسام منه للانتصار لنفسه، وللأسف بداية بنجاح سياسة الجدار الحديدي ضمن النظرية الأمنية الصهيونية، ومجمل الإجراءات العسكرية وتركيم القوة واستخدام العنف (الردع وقوة السحق) في مواجهة الشعب الفلسطيني، كما كان قد حصل في مراحل سابقة مع الجيوش العربية، لإيصال قناعة بأن إسرائيل قوية وراسخة، وما على الأطراف الأخرى إلا الاستسلام والقبول والتسليم بوجودها، وصولاً للرضوخ لسلاحها.
وبعد تراجع دور ومكانة الفلسطينيين في الداخل 1948 والخارج والشتات في الصراع، وفي محور العمل النضالي والسياسي، وتركزه في الضفة الغربية وقطاع غزة، كساحتي الصراع الرئيسيتين اليوم، فإن هاتين الساحتين محاصرتين بسلطتين فئويتين، لهما مصالحهما وأجندتيهما اللتان تبددان طاقات الشعب الفلسطيني وقوته، ونحن لسنا بوارد الدفاع أو التشريع أو مهاجمة طرف على حساب الطرف الآخر، وإنما البحث في دور الحزب الثوري وإمكانيات تثوير طاقات الشعب الفلسطيني، وهو الدور الذي نزعم أنه منوط بالحزب اليساري الثوري، وتحديداً قيامه بالدور الذي يسعى عبره لتحطيم أسس (النظام القائم)، ووضع أسس لنظام آخر، والسعي لممارسة السلطة واستلامها. (فلا حزب ثوري دون نظرية ثورية) " لينين " ولا يمكن أن يوجد الحزب السياسي الذي لا يسعى لممارسة السلطة بكل إمكانياته، وإلا ارتهن الحزب لصف النظام القائم، وتحول جزءا منه وفقد ثوريته.
ممارسة الهيمنة:
بحسب "غرامشي" لا يمكن ممارسة الهيمنة السياسية والإصلاح الثوري دون قاعدة اجتماعية تمتلك المصلحة في الثورة، وتكون الأساس في إعادة تشكيل الحزب وفي برامجه وآليات عمله ونطاقها وحيزها البشري والجغرافي، وهنا ندعي أن الريف الفلسطيني وتحديدًا في الضفة الغربية كجغرافيا ونطاق بشري هي القاعدة الثورية والاجتماعية للحزب الثوري، وليست البروليتارية القاعدة الاجتماعية التقليدية الماركسية، فقد أكد جاك ويريس في كتابه (نظريات حديثة حول الثورة)، أن لكل ثورة مشكلاتها الخاصة في الزمان والمكان والتركيب الطبقي، وفي القوى السياسية المتحالفة معها وتلك التي ضدها.
وبهذا تظهر الضرورة للحزب الثوري لتحديد الفئات والقوى صاحبة المصلحة في الثورة، أو إعادة التثوير، ونؤكد على الريف الفلسطيني كبؤرة أو قاعدة ثورية مناسبة للعمل، وأيضًا تظهر ضرورات من قبيل فك الارتباط عن منظمة التحرير باعتبارها مؤسسة سلطوية فقدت صفتها التحررية، وأيضًا صفتها التمثيلية لمجمل الشعب الفلسطيني، وقد أكدت هيمنة تيار عليها انتهاء مرحلة التوافق السياسي أو الإجماع السياسي داخلها لصالح هيمنة مفاهيم من قبيل الأغلبية مقابل الأقلية، وضرورات إعادة تحديد الأحزاب السياسية ودورها، وعقد موقف حاسم منها حيث ظهر بالملموس أن الأحزاب الفلسطينية بمجملها، ونتيجة ارتهانها للسلطة، وخاصة بعد تقزيم المنظمة، بما هي الإطار التمثيلي التوافقي والسياسي الجامع للشعب الفلسطيني، إلى مجرد مؤسسة سلطوية تحت حكم الاحتلال.
إن هذه الأحزاب هي أحزاب سلطة ولا تمت لمفهوم الحزب بصلة، وتتحدد مصلحتها باستمرار السلطة ونظامها، وارتباطها به، حيث نؤكد أن منظمة التحرير الفلسطينية، ليست هياكلها وبنائها وبرامجها، وإنما النظام القيادي المهيمن عليها، وعليه فإن هذه الأحزاب تجاري مصالحها وتعتاش على نظام الحصص والكوتات والوظائف والتفريغات والمخصصات داخل هذه المنظومة، على حساب الدور الثوري الذي من المفترض أن تقوم به، ويمكن أن نشير إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، كتنظيم يمكن أن يتحول لهذا الحزب الثوري، إذا ما استطاعت أن تذهب أبعد في مواقفها الرافضة للهيمنة والتقزيم الممارسة على منظمة التحرير من خلال مطالبها الجذرية، وليس الإصلاحية، بإصلاح وتوسيع منظمة التحرير الفلسطينية، لتشمل الكل الفلسطيني، ولكن في ذات النظام وليس عبر تثويره وتحطيم علاقات الهيمنة السلطوية القديمة. صحيح أن الاحتلال يفرض شكلاً من العلاقات السياسية الداخلية تجعل الصراع الرئيسي ضده، ولكن يمكن أن يخاض الصراع على جبهتين، إذا ما امتلك هذا الحزب الثوري الرؤية والإرادة والبرامج الكفيلة بتحقيق ذلك، بينما بقية الأحزاب الأخرى لا وجود لها خارج مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وقد أظهرت انتخابات 2006 أن هذه الأحزاب لا تتمتع بأي ثقل انتخابي، في حين تؤكد الانتخابات المحلية والجامعية هامشيتها، وعليه فإن الغالبية العظمى من هذه القوى تحولت من عنصر قوة وحيوية وثورية للشعب والمجتمع الفلسطيني، إلى مجرد هياكل تنظيمية حزبية معطلة للتطور والحراك الدائم، وتمنع تبلور الشكل الجديد على حساب القديم، فمعظم هذه الأحزاب، حتى لا نقع في التعميم، فقدت الدور التاريخي لها، ولا تمتلك لا برنامج ولا رؤية وحتى إمكانيات الإصلاح أو المطالبة به، مما يعني فقدانها القدرة على خوض غمار عملية الصراع أو التناقض المجتمعي، الذي يؤمّن التطور والتقدم للمجتمع.
مدينة أوسلو في مقابل الريف:
يقع الصراع المجتمعي في جغرافية المدينة الفلسطينية فيما يتعلق في أراضي 1967 وتحديدًا في الضفة الغربية، وخاصة بعد أوسلو، وتقسيم هذه الجغرافيا لمناطق "أ، بي، ج"، وهذا ما حصر السلطة كمؤسسة سياسية وسيادية وكذلك "المراكز الحضارية" في المناطق"أ" (باعتبارها محررة) وفيما المجال مفتوحًا بعيدًا عن الاحتلال، لحراك اجتماعي وسياسي واقتصادي، إلا أنه تم مركزة المجتمع الفلسطيني واختصاره في هذه المدينة، واعتبار الريف هامش أو تابع في مقابل محاصرة الريف الفلسطيني وعزله واستهدافه من الاحتلال الصهيوني، بالاستيطان والمصادرة والهدم وتجريف الأراضي الزراعية، وتقليص الحصص المالية والعزل والجدار والحواجز، مما أدى لهجر الريف بحثًا عن العمل، وتحول هذا الريف لمعازل سيطر عليها الاحتلال بشكلٍ مباشر، بمعنى تحوله لساحة الصراع الرئيسي مقابل تمركز المؤسسات والقوى والأحزاب في مدينة أوسلو، مما أدى لحالة صراع معكوسة، بدلاً من تركيز الصراع مع الاحتلال، تحول الصراع لصراع داخلي سلطوي، هو أحد أسباب الانقسام المباشر، وبهذا يظهر أن الريف هو البؤرة الثورية والجغرافية الأكثر إلحاحية، والأكثر ملائمة للتثوير ضد الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى ضد سلطة مدينة أوسلو التي سيطرت عليها قوى الأمن الفلسطينية، وعزلت مصدر الفعل للأحزاب الثورية، مقابل تعزيز وتركيز حضورها حيث ألحقت المخيمات بهذه المدينة.
وقد تحدث "فرانس فانون" في كتابه "معذبو الأرض" عن هذه المرحلة من عمر الثورات، وحلل دور الأحزاب البرجوازية الوطنية، والتي تسعى للتزاوج ما بين هذا الإطار السلطوي مع بعض القوى المالية البرجوازية والسياسية المحلية، لتشكيل أو في طور تشكل البرجوازية الوطنية الفلسطينية، والتي تسعى بحسب تحليل فانون للتسوية مع المستعمر، وتخشى لجوء الشعب إلى العنف، وهو ما يفسر سلوك السلطة الفلسطينية تجاه المبادرات الثورية، أو الحِراكات في الضفة الغربية وغيرها، وخاصة حول ضرورة نقل وتوسيع نطاق مسيرات العودة، باعتبارها شكل من أشكال المقاومة الشعبية التي تنادي بها هي نفسها، كما يفسر سلوك السلطة تجاه غزة في العقوبات المفروضة (وطنيًا بأمر من رئيس الشعب). كما يفسر تحليل "فانون" استمرار الانقسام ذلك أن أحزاب البرجوازية الوطنية، دائمًا منكمشة على مصالحها، ولهذا فهي توقظ الصراعات والخلافات الإقليمية، والمنازعات القبلية، وتسعى للتحالفات العشائرية، لتأمين مصالحها واستمرار حكمها على حساب تعزيز القيم الحداثية في المجتمع وتعزيز الوحدة الوطنية والواقع الديموقراطي القومي، والبرجوازية الوطنية التي فشلت وتفشل، لا تسعى لصناعة مجتمع الإنتاج والتصنيع ومجتمع وعلاقات إنتاج، بل تسعى لمجتمع الدولة، التي تسيطر عليها فكرة الربح التافه، من خلال ممارسات دور الوسيط (الكومبرادور).
إن البرجوازية الوطنية أو النخب المالية السياسية المحلية في الضفة الغربية المتحالفة مع فتح، وفي غزة المتحالفة مع حماس هي التي تعيق المصالحة، وهي التي تخطط وتعيق وتفرغ منظمة التحرير من محتواها الثوري لصالح تحويلها لمؤسسة سلطوية تقليدية، وبهذا تنفك العرى ما بين منظمة التحرير وبين أي حزب ثوري. صحيح أن منظمة التحرير هي إطار سياسي، ملك للجميع، ولكنها اليوم تحولت لأداة سياسية بحاجة إلى التثوير، لذا من الضروري الصراع معها بإطارها ودورها الحالي المستند إلى النهج القيادي، وضمن الأطر والرؤى الحالية لمن يهيمنون على قراراتها منذ عقود، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الدعوات الإصلاحية لمنظمة التحرير وضم القوى السياسية الإسلامية لها، لا يعني بأي حال من الأحوال إعادة إصلاحها، وإنما إعادة توزيع ومحاصصة جديدة بين طرفي أو قطبي الصراع الأساسيين، بينما يقوم الإصلاح الحقيقي على فعل ثوري حقيقي وشعبي يشمل أوسع القطاعات الممكنة، وهذا يتم عبر تثوير الفئات الشعبية صاحبة المصلحة بقيادة الحزب الثوري لإعادة مضمون منظمة التحرير الثوري التحرري لها، كالفلاحين وتحالفهم مع اللاجئين في إطار استراتيجية وطنية، وهنا أيضًا تظهر إلحاحية الحزب الثوري في تمثيله للفئات الشعبية صاحبة المصلحة في الثورة، وتثويرها وخلق بؤرة ثورية في الريف الفلسطيني، الذي يمثل جغرافية الفعل الثوري ضمن علاقة الاحتكاك والاستهداف المباشر له من قبل الاحتلال، ومعاناتهم من قبل سلطة المدينة "أ" أو مدينة البرجوازية الوطنية، التي تسعى للتسوية مع الاستعمار الصهيوني على حسابهم، بالإضافة إلى الفئات الأخرى صاحبة المصلحة في المدينة والمخيم، حيث أن السلطة ومصدر شرعيتها منظمة التحرير الفلسطينية، كمؤسسة سلطوية تحمل نفسية السمسار وتكتفي بدور الوكيل، وهي لا تحمل رسالة تحويل وتثوير أحوال الأمة، بل جعل نفسها وسيطًا ما بين الشعب والاستعمار "فانون". ولقد تحدث في ذات الإطار، بالإضافة إلى فانون مهدي عامل، وتحديدًا عن دور الاستعمار في بناء المجتمع الكولينيالي للفئات المرتبطة بالاستعمار في الدول المستقلة، وما تبعه من كوارث الطبقة الرأسمالية المنحدرة من رحم التبعية الاستعمارية المباشرة، وهي عملية مفروضة على هذه الرأسمالية ضمن قوانين الرأسمالية نفسها، ولاحقًا التبعية الثقافية والاقتصادية وغيرها، وهو ما يجعل الأحزاب الرأسمالية أو أحزاب البرجوازية الوطنية أشبه بالسماسرة بحسب فانون، ويسعون لتسلّم السيادة الصورية من أيدي الاستعماريين، بحسب "جان بول سارتر".
من ناحية أخرى، فإن المستعمِر قد بنى مدنًا وحرّمها على المستعمَر، وبهذا فإنه يحاول بناء مدنه على ذات الطراز، وبقي هدف المستعمَر أن يدخل مدن المستعمِر، ولهذا فإن البناء الفوقي لمدينة أوسلو ترسخ باعتباره مجتمع رأسمالية المستعمَر، وبقي طموحه في تقليد المستعمِر، ولم يتم بناء مدينة الإنتاج الحقيقي أو مدينة المصنع، وإنما شكل مشوه من العلاقات المطوعة للتعاطي مع المستعمِر، أو محاكاته في أفضل الأحوال، أو شكل من الوظيفة السياسية الأمنية (جغرافية السلطة)، في مقابل نسج العلاقة مع الريف عبر الوكيل أو الزعامات القبلية أو العشائرية، وبناء صورة الزعيم المحلي، وتعزيز القيم التقليدية الرجعية، بينما يقوم دور الحزب الثوري على تثوير وتنظيم الواقع الريفي، ليكون قاعدة ثورية لمواجهة الاحتلال وبرجوازية مدينه أوسلو ورأسماليتها، وتحويل هنا الريف من الثقافة التقليدية العفوية الاتكالية إلى العنف الثوري المنظم، وبهذا يمارس الريف عبر الحزب الثوري دورًا في البنية الفوقية والمجتمع، بعد تثويره وتخلّصه من العلاقات والمفاهيم الرجعية.
الهيمنة السياسية بحسب "غرامشي" من قبل الحزب الثوري هي ممارسه للفن والعمل السياسي، وتكريس للبرنامج السياسي للحزب، وفرضه على منظمه التحرير والمؤسسات السياسية الأخرى، وفرض الإصلاح أو التغيير الجذري وبناء وحدة وطنيه حقيقية، معبر عنها ضمن الأطر القيادية وليس الشكل الدعوي الداعي للإصلاح، والذي يمثل مصلحه حزبيه، وفئات محددة على حساب الإصلاح الحقيقي.
بالإضافة إلى أن تطوير الريف ولعبه لدور سياسي بقيادة الحزب الثوري، يحطم شكل العلاقات الذي حاول أوسلو ومدينته تكريسه، وكذلك ينهي الانقسام السياسي والجغرافي لاحقًا، عبر تحقيق وحده الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، والتي من خلال يتمثل الرفض للتقسيم الوهمي لمناطق السلطة، والذي أصبح نفسيًا أيضًا. فالوحدة الوطنية التي نعنيها، لا تعني فقط الضفة وغزه أو الريف والمدينة أو فتح وحماس، وإلا ارتهنا لبرنامج أطراف سياسية معينه، وحبسنا أنفسنا في سقف أوسلو وبرنامج الدولتين، ولتجاوز كل ذلك يجب توحيد الشعب الفلسطيني ضمن المنطق الثوري والفعل الشعبي، الذي يفرض ذاته على الاحتلال، ويحول حياته إلى جحيم، وكذلك الأمر على مؤسسات أوسلو، وتشمل الوحدة التي ندعو إليها أبناء الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، على قاعدة برنامج وطني وسياسي ثوري حقيقي يقوده حزب ثوري، وهو أمر مثل ما ذكرنا يحقق صوابية المعركة ضد العدو، ويحقق فرض الإصلاح الوطني والديمقراطي.
لقد تحدث "فانون" عن أن اتحاد الشعب الجزائري يولد تفكك الشعب الفرنسي، ضمن الإطار الاستعماري وكذلك الأمر فإن اتحاد الشعب الفلسطيني، يفكك منظومة ومجتمع الاحتلال، خاصة في ظل التساوي العددي والقنبلة الديمغرافية الضاغطة على مجتمع الاحتلال.
وللتذكير فقط يقع الحزب الثوري على النقيض من السلطة ومؤسساتها، وخاصة في الواقع الفلسطيني، وهو واقع شبيه لدور الأحزاب البرجوازية، حيث أن تشكيل السلطة ومجتمعها (مدينة أوسلو) لم يأتيا عبر عملية ثورية حقيقية، بل إن مشروع أوسلو ربط ما بين الوجود الاستعماري الصهيوني وتشكّل السلطة، مما خلق مصالح مشتركة تتمحور حول (المدينة) حاضنة الرأسمالية ومحور نشاطها الاستهلاكي، وهو ما فتح الباب أمام الحديث لاحقًا عن الصفقات السياسية وصولاً لصفقة القرن.
وبهذا فان هذه الفئة الحاكمة والملتفين حولها، تسعى للنهب والإثراء السريع على حساب الشعب ونهب المقدرات ومنظومة الفساد، بمعنى تبني الأفكار البرجوازية الاستعمارية بحسب فانون.
وتبقى القاعدة الاجتماعية لهذه الفئات والأحزاب البرجوازية، هم سكان المدن، والذين يلخصون مطالبهم في التمثيل الانتخابي وتحسين الأحوال المادية والحريات العامة، أي البحث عن الإصلاح السياسي والديمقراطي -وهو أمر صعب في الحالة الفلسطينية- عبر بحث الأحزاب الفلسطينية عن الإصلاح والمطالب الدعوية لها، وتكريس الجهد الأساسي لهذه الأحزاب في بناء نفسها أو محورة عملها حول مدينه أوسلو، ومن ثم تتعاطى هذه الأحزاب مع الريف وفئة الفلاحين بشكلٍ هامشي، مع إنها الفئة الأكثر ثورية فعليًا وصاحبه المصلحة في الثورة، فهي الفئة الأكثر احتكاكًا بالاحتلال وهي التي تعاني من استهدافه وإجراءاته في كل المجالات، وتعاني من المحاصرة من جغرافيا سلطة المدينة لها، وبهذا فان الريف والفئات الفلاحية، إذا ما وجدت حزبها الثوري، وتنظمت ومدت بأدوات العنف الثوري فإنها قادرة على الفعل، لا بل هي تحتاج إلى تحسين ظروفها ومواجهه التحديات للارتقاء بدورها.
الفلاحون مهيؤون دومًا للثورة، وهم في التقائهم مع العناصر الثورية يستطيعون تحقيق المبتغى والمُراد، والتخلص من عقدة الاحتلال، الذي يُحاصرهم ويعطلّهم ويدمرهم لصالح تحويلهم لعلاقات تبعية للمدينة المحاصرة بأوسلو، ولاحقًا عملت السلطة على تعطيل وتحجيم الأرياف خاصة عبر فرض سياسات السيطرة على الأرض، وتحويلها لسلع استثمارية عقارية، بدلاً من القيمة المعنوية، وتمدد الاستيطان واتساع رقعته وزيادة العبء المعيشي والاقتصادي في الريف، وقطع إمداد الماء، ليتحول جمهور الفلاحين إلى عبء سكاني واقتصادي على المدينة ذاتها ويعطل التنمية والسيطرة على الريف بشكل كامل.
فما هو المطلوب حاليا؟!
المطلوب من الحزب الثوري هو ترسيخ قواعد منظماته في الأرياف، واستهداف الريف بنشاطاته المركزية، وتثوير البنيان الاجتماعي لهذا الريف، وإعطائه بعدًا ومضمونًا ثوريًا تقدميًا، ولاحقًا تسليمه دورًا رياديًا في الثورة والصراع ضد الاحتلال، وكذلك في الصراع الداخلي (التناقض السياسي) بإطلاق عملية تنمية وتطور مجتمعية.
دور الريف في مواجهة الاحتلال ومدينة اوسلو:
لقد شكلت جماهير الفلاحين الفلسطينية قاعدة وكيان الثورة في عام 1936 في إشارة واضحة لترهل وانكسار وضعف الزعامة الوطنية الفلسطينية التقليدية آنذاك، ودخلت في تنافس معه، و قد كان أحد أسباب إحباط الثورة، هو تدخل هذه القيادات التقليدية في الثورة وفي مصيرها، كما شكلت هذه الجماهير الفلاحية أساس كافة الثورات والهبات الجماهيرية على مدار قرن من الزمن في مقارعة الاحتلال البريطاني والصهيونية، نستثني من هذه الظاهرة انتفاضة الأقصى التي كانت جغرافيتها وقاعدتها في مدينة أوسلو، ورغم اتساع تضحياتها تم الهجوم عليها والإجهاز على أي نتائج لها ضمن ذات النطاق القيادي المرتبط بأوسلو، فالفلاحين هم الفئة الأكثر تضررًا من مشروع الحركة الصهيونية وحركة الاستيطان منذ عام 1882 حتى اليوم، حيث لا زال المستهدف الأول من كافة إجراءات الاحتلال هو الريف، ومحاصرته ومحاولة بناء معازل المدينة وتهجير الفلاحين نحو المدينة اتجاه بناء سياسة (أرض أكثر وعرب أقل) بحسب تعبير عادل منّاع، وكانت ذروة هذه الهجمات متمثلة في عملية التطهير العرقي ضد ما يقارب 400 تجمع فلاحي في عام 1948 والعام 1967 واليوم عبر الجدار الاستيطاني وبناء المعازل، حيث تهدد سياسات الاستيطان والمصادرة ما نسبته مئة بالمائة من مصالح الفلاحين، وفصل هذا الفلاح عن أرضه وتحويله لبروليتاريا في خدمة الاقتصاد الصهيوني، وتفريغ الأرض وجعلها عبئا على مجتمع المدينة، ونقل الصراع والصدام إلى داخل مجتمع مدينة أوسلو مما يفتح المجال للاستيطان وسياسات الضم والإلحاق، وعليه فإن الدور المناط بالريف هو دور طليعي، ومن المهم إعادة تثوير جغرافية هذا الريف، وخاصة في الضفة وأراضي الـ48، وملئ هذه الجغرافيا بالثورة والفلاحين المنظمين والمسلحين بالوعي والحزب الثوري، وإدارة عملية صراع تناحري ضد الاحتلال في فضاء جرائمه الحقيقية، وفي الزمن الحقيقي لارتكاب الجريمة، أي المواجهة المباشرة من جهة، وإدارة صراع تنموي حقيقي مع السلطة ومحاصرة منجزاتها في مدينة أوسلو من جهة أخرى. ولقد تحدث فانون عن اللقاء ما بين العناصر الثورية الهاربة من المدينة والصراع داخل الحزب الثوري والعناصر الفلاحية المهيئة دومًا للثورة، كما أن تجربة الحزب الشيوعي الصيني مثلاً تؤكد أهمية الفضاء الريفي، حيث كان قد عجز عن السيطرة على المدن بعد مذبحة الثورة المضادة في العام 1927 وتراجع إلى الريف ليحرر الريف أولاً، ثم يستولي على المدن، كتتويج نهائي بعد أكثر من 20 عامًا من النضال المسلح.
يُعاني الريف الفلسطيني من أشرس الهجمات والسياسات الصهيونية والإهمال من السلطة ضمن اتفاق اوسلو، وتحويل الريف إلى مناطق أ وب وج، والأنكى الإهمال من الأحزاب السياسية الفلسطينية، وهي لا تحمل في برامجها أو رؤيتها مشروع عمل حقيقي، يقوم على تثوير الريف وبناء البؤرة الريفية الثورية وتثوير طاقاتها، وقد أخرجت الأحزاب الريف من برامجها السياسية كنقاطٍ ثورية، ومن حساباتها، كونه مسيطر عليه تمامًا من الاحتلال، واعتباره هامشيًا لمصدر الفعل السياسي، وبهذا فإن هذه الأحزاب لا تسعى لمواجهة هذا الاحتلال في مواقعه، أو تخفيف عبء الاحتلال عن كاهل الفلاحين عبر مشاريع تنموية، تعزز صمودهم، والتواجد فيما بينهم وتثويرهم وتنظيمهم، بدلاً من استمرار حالة الاستثمار المبتذل لنضالاتهم، في حين أن المطلوب هو تنظيم الثورة انطلاقًا من الأرياف، وذلك عبر تواجدها فيها بشكلٍ علني وسري وتهيئة البنية التحتية والفوقية لذلك، وبشكلٍ منظم وفاعل، وإرسال كوادرها الفكرية والتنظيمية والسياسية لرفع مستوى الوعي السياسي والثوري والتنظيمي ودمجها في المعركة، والعمل على خلق تحالف حقيقي وجدي مع فئة الفلاحين، وسريان العمل السياسي من الريف ولأجل وطن بأكمله، واستثمار طاقات هذا الريف وضمه للمجهود الثوري، والاعتماد على فئة الفلاحين، باعتبارها إحدى قوى الثورة الرئيسية والتواجد معها بشكلٍ دائم واعتبارهم العمود الفقري للثورة.
ويُلاحظ في هذه الأيام في إطار النضال السياسي والمجهود النضالي ضد الاحتلال، أو في إطار محاولات الحركة الجماهيرية في الضفة الغربية، اعتماد تكتيك التجمعات والمسيرات في مراكز المدن وفي محيطها، وربما نحو نقاط اشتباك محددة يفرضها العدو الصهيوني وقوات الاحتلال أولاً والسلطة ثانيًا، وهما الطرفان اللذان يُحددان قواعد الاشتباك والزمن ومكان واتساع سقف هذه المواجهات، وهو تكتيك خاطئ تمامًا كونه أولاً يؤمّن استراتيجية العدو بخلق حالة من الصراع والصدام المباشر مع السلطة، واللجوء للقمع باعتباره موجه ضدها، وتحدي لسلطتها وضد مصالح سكان المدينة التي في غالبيتها ليست مع المواجهة، وثانيًا وثالثًا فان تركيز الحراك والفعل داخل المدينة (أ) يضعف من دورها واحتكاكها مع العدو الرئيسي ويجعل من اليسير على العدو والسلطة مراقبتها وفهم عملها والسيطرة عليها، بينما يتم تجاهل استخدام الجغرافيا الريفية المتضررة من كافة السياسات للاحتلال وإهمال السلطة، وهو تكتيك سليم لو تم اللجوء إليه، يعيد حالة الصراع مع العدو إلى موقعها وساحتها السليمة، ويخفف من قبضة السلطة ويلغي دورها الأمني، ويحدد نقاط الاشتباك وقوته ومكانه وزمانه واتساعه، من قبل الحزب الثوري، ضمانًا لمواجهة السياسات وإعادة تركيز الفلاحين في قراهم وأراضيهم، وإضعاف حركة الاستيطان والجيش الاحتلالي، وكذلك يرفع من حالة الاحتكاك، وضرورات اتساع رقعة الانتشار للجيش، وعليه يفقده التركيز والسيطرة ويشتته، مما يضعف القبضة الأمنية للاحتلال، كما يثوّر الجغرافية الفلسطينية بمجملها، ويخلق ساحة صراع مفتوحة بدلاً من نقاط اشتباك مُحددة سلفًا، وهو الأمر الذي يعيد التركيز بقوة الانتشار والتأثير للانتفاضة الأولى 1987، ويفكك حالة الاصطدام في المدن، وهذا يتأمن عبر تنمية بؤر وتوزيع مواقع ريفية، والانطلاق نحو مواجهة الاستيطان والمصادرة والحواجز، مما يجبر الاحتلال على استخدام قواته بدلاً من الوظيفة التي حملتها أوسلو بالاعتماد على قوات السلطة بالقمع.
إن وظيفة الحزب الثوري في استخدام الجغرافيا الريفية وتثوير الريف وقيادته، ليست مهمة ميدانية كفاحية، ولا مهمة خارج إطارها السياسي فقط، فالقيادة تعني هيمنة ثقافية سياسية بحسب "غرامشي"، وهي تربط الفكر للحزب الثوري بالممارسة والسياسة، عبر ممارسة مجتمعية شاملة بحسب "ماركس"، والسياسة هي الصراع الطبقي والقومي بحسب "لينين" وبهذا يعود الحزب لمواقعه، وينهي اغترابه واغتراب الجماهير بحسب "أحمد قطامش"، ثم يتحول الحزب للفاعلية ويصبح صاحب امتداد جماهيري قادر على فرض برنامج سياسي شمولي للإصلاح، وصاحب ثقل انتخابي قادر على فرض شروطه.
الريف ومسيرات العودة في الواقع الراهن:
تعاني الضفة الغربية اليوم من الاغتراب بحسب "أحمد قطامش"، وتتهدد الحرب والتدمير غزة، بينما ظهرها مكشوفًا من قبل السلطة ومنظمة التحرير التي تعاقبها، وبهذا فإن الأوروبيين لن يتحركوا لإيقاف آلة الحرب الإسرائيلية ضد غزة وأهلها، وواشنطن كذلك، بل هي شريكة فيها، بحيث تهدف من خلال آلة حربها إلى تهيئة واقع جغرافي، يُعمل من خلاله، على وضع أقدام تسير عليه صفقة القرن، في ظل حياد العرب أو تواطئهم، وبهذا المعنى فان حماية غزة هي حماية للضفة وحماية للمشروع الوطني برمته.
وبهذا تظهر إلحاحية دور الحزب الثوري في الدفاع عن القضية الوطنية، وتجاوز الانقسام وسلطتي الضفة وغزة، وتظهر إلحاحية دور الريف في الدفاع عن ذاته ومصالحه، وفي الدفاع عن القضية الوطنية برمتها، عبر تثوير هذا الريف ضمن تكتيك مسيرات العودة والمقاومة الشعبية في الريف، وخلق حالة مواجهة مع العدو، ضمن شروط وقانون موازين القوى طبعًا. فنحن لسنا الحزب الشيوعي الصيني والريف الفلسطيني ليس بطبوغرافية وامتداد الشارع الريفي الصيني، أو أي ريف آخر في العالم، والضفة صاحبة المصلحة في تكتيك مسيرات العودة وبالذات اللاجئين، المطالبين بعودتهم إلى أراضيهم المحتلة عام 48، وهنا تظهر أهمية نقل المسيرات نحو الداخل باسم الحزب الثوري الذي يمتلك الجرأة ويطلق الشرارة، والأهم تطوير هذه المسيرات لحماية ظهر غزة، ومقاومة الاستيطان والجدار والدفاع عن القدس، وضد المعسكرات والحواجز عبر مظاهرات جماهيرية سلمية، تحاصر هذه المواقع وتسد طرق المواصلات، وتحاصر القوات وتخلق حالة أمنية لحركة المستوطنين وعربدتهم وتعيق مخططاتهم، وتجبر قوات الاحتلال على الانتشار المكثف ما يرفع إمكانيات الاحتكاك لاحقًا ويرفع كلفة الاحتلال، بل إن تواتر هذه المسيرات وتصاعدها باعتبارها حلقة أولى في التثوير، هو اختبار القدرة على القيادة والسيطرة والتنظيم والتوجيه، وأيضًا لرفع معنويات الفلاحين، ورفع ثقتهم بالحزب الثوري القائد.. الخ، مما يجعل من الاستيطان موضوعًا قيد الدراسة والمراجعة لدى الاحتلال، فالاحتلال اليوم واستيطانه يستند على حراب السلطة، وسيبقى كذلك إذا ما استمرت هذه المسيرات في المدن فقط، وبهذا فان الفلاحين والريف يصبحون أصحاب مصلحة في استخدام وتطوير تكتيك مسيرات العودة وإبداعاتها لاكتشاف إبداعهم، والدفاع عن أرضهم ومواجهة الاحتلال، وتطوير مواقعهم ودمجهم في العملية السياسية والمجتمعية، في ذات الوقت تتقاطع مصلحتهم مع مصلحة الحزب الثوري، في تثوير الريف، وتوسيع قاعدة ممارسته السياسية، والدفاع عن غزة والمشروع الوطني، ومواجهة صفقة القرن ودعم وإسناد لمسيرات العودة وممارسة حق العودة كناظم للثوابت الفلسطينية.
إن سياسة الحكومة الصهيونية وأحزابها اليمينية التي تحاصر غزة، وتهددها بالموت والدمار وتتماهى مع صفقة القرن، تقوم على سياسات قوانين الضم والإلحاق للمستوطنات والتوسع وقضم الأغوار و الخليل وفصل القدس عن محيطها واعتبارها عاصمة لإسرائيل، وسياسات الطرد وتضييق الخناق وربما لاحقًا "ترانسفير" والعزل، وهي سياسة بمجملها ضد المواطن والفلاح، وبهذا المعنى يصبح تثوير الريف واستخدامه كجبهة متقدمة في الصراع بمثابة استراتيجية معكوسة تواجه استراتيجية اليمين الصهيوني، وتحد من تأثيرات أوسلو سياسيًا واجتماعيًا وأمنيًا، لصالح إعادة بناء استراتيجية وطنية شاملة آخذين بالاعتبار الجغرافيا الريفية.
لقد استخدم "غرامشي" مصطلح حرب المواقع في الصراع السياسي، وبهذا فان الريف حسب نظرية حرب المواقع هي المواقع المناسبة لاحتلالها من قبل الحزب الثوري، وتوجيهها باتجاه العدو وضد أوسلو، واستخدام النشاط الثوري من قبل الحزب الثوري في مواجهة العدو الوطني والقومي والخصم السياسي، وبناء على ما تقدم فإن من المهم تقديم عدد من التوصيات لأخذها بعين الاعتبار، وهو أمر يجب تطويره عبر الممارسة التي تلي النقاش والحوار:
- مركزة العمل الحزبي والثوري في الريف واستخدام تكتيك العمل السري في القيادة، والتكتيك العلني الجماهيري في النشاطات. لقد وصف أحد قيادات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الضفة الغربية في العام 1998 أحد طلبات الرفيق الشهيد يامن فرج قائد كتائب الشهيد أبو علي مصطفى لعقد لقاء معه، فيما يخص العمل التنظيمي بشكلٍ دافئ، ومُستغربًا طلب القائد الشهيد: "لن أقابلكم أو التقي معكم إلا أسفل شجرة زيتون"، لقد كان هذا الطلب عميقًا وتوصيفًا دقيقًا، لمهمة الحزب الثوري والخاصية في الريف الفلسطيني، والذي عبر عنها الرفيق الشهيد عبر طلبه الاحتجاجي هذا.
- العمل على خلق تحالف عريض من القوى السياسية صاحبة المصلحة في المشروع وعلى قاعدة البرنامج الثوري.
- تشكيل لجان شعبية ولجان تطوير للقرى ولجان للخدمات الصحية والخدماتية والطبية والتجارية وغيرها وصولاً للتعليمية إن تطلب الأمر.
- قامة تجمعات متحركة حول بعض المناطق الحساسة أو بالقرب منها.
- التنسيق مع المؤسسات الدولية والمتضامنين الدوليين بأوسع ما يُمكن للمُشاركة.
- تركيز النشاطات ضد وحول الحواجز والطرق الالتفافية والمستوطنات.
- استخدام تكتيك مسيرات فرعية من عدد من المواقع الريفية تجاه مواقع محددة سلفًا للتجمع، مع تغييرها باستمرار على طول مساحة الجغرافيا الريفية لإرهاق حركة العدو وعدم توقع حركة المسيرات.
- التنظيم والتعبئة والتوعية عبر التواجد المكثف في القرى والبحث في إمكانية نقل المكاتب الحزبية للقرى.
- تنظيم مسيرات عودة أسبوعية ودعوة المخيمات للمُشاركة بها والنشاط من المدن وأراضي الـ48، نحو نقاط مختلفة من الجدار والمعابر وتنسيق توقيتها مع المسيرات في الداخل إن أمكن.
- وضع الخطط لتأمين الصمود في القرى والمواقع الريفية لأطول فترة ممكنة.
- استخدام تكتيك الاستيطان المعاكس المتحرك ونصب خيام في مواقع محددة، والاستمرار في تحريك موقعها، واستخدام هذا التكتيك في أراضي الـ48 قدر الإمكان، في مواقع القرى المهجرة.
- تعزيز الاقتصاد المنزلي المقاوم المستند على استغلال الأرض وتحديدًا المُهددة بالمصادرة.
- تحويل وجهة المؤسسات ولجان المرأة والشباب نحو تركيز مجهودها في القرى.
- بناء شبكة إعلامية تشمل كافة المؤسسات الإعلامية ووضع برنامج ووثيقة إعلامية خاصة.