في الفترة الأخيرة كرر دونالد ترامب وعده بتقديم خطة للسلام في الشرق الأوسط والتي صارت تعرف إعلاميا بـ"صفقة القرن"، وقد تم الإعلان عدة مرات عن هذه الخطة الغامضة وربما يمكن اعتبار التأخير في الإعلان منطقيا بسبب العقبات المتراكمة والأمور التي لم يحسب ترامب وفريقه حسابها في الطريق لتنفيذ مخططهم.
يقول تيد سنايدر الباحث الفلسفي الأمريكي ومحلل أنماط السياسات الخارجية أن أهم إعلان عن "صفقة القرن" كان قد تم بحضور رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في الاجتماع الرسمي الأول الذي عقد بينه وبين ترامب في 15شباط/فبراير 2017، يومها قال ترامب أنه سيعرض "صفقة كبرى وأن أفضب الناس في القاعة يفهم ذلك." وحتى الأن مازال الغموض يلف تلك الصفقة ما عدا التغيرات الكبيرة التي ظهرت ضد الجانب الفلسطيني بالذات.
لعل السبب في ذلك أن "إسرائيل" تركز على الأفق الإقليمي، ويمكن رؤية تاريخ "إسرائيلي" طويل في هذا الاتجاه أو ما يعرف بعقيدة المحيط الخارجي في السياسة الصهيونية التي ترجع صيلغتها إلى زعيمي الموساد: رؤوفين شويلح وإيصل هرئيل، والنقطة المركزية تدور على أن التسوية السياسية مع العرب مستحيلة، وربما تعوود هذهالنقطة إلى زمن فلاديمير جابوتنسكي ووفقاً لهذا المنظور ، فإن "الإسرائيليين ينظرون من أرض صغيرة ليجدوا أنفسهم محاطين بدول عربية ليست فقط معادية لهم ، لكن الخلافات مع إسرائيل ضرورية للغاية لدرجة أن التوصل إلى حل وسط وصداقة أمر مستحيل".
وبالتالي تنصب هذه الرؤية على أنه في ظل استحالة العلاقات السياسية مع جيرانها ستندفع " إسرائيل" إلى عقد تحالفات مع دول غير عربية تتجاوز محيط محيطها: إلى المحيط الخارجي.
وقد تبنى دافيد بن غوريون وجهة النظر العالمية هذه وأصبح مذهبه هو المحيط الخارجي حيث كان بن غوريون مهندس المرحلة الأولى من السياسة الخارجية "الإسرائيلية".
المرحلة الثلنية بدأت في عهد يتسحاق رابين وشمعون بيريز الذي عكس الاتجاه تماما نحو عداوة مع المحيط الخارجي ودفء العلاقات مع الجوار، وتحت إشراف رابين وبيريز ، ستركز السياسة الخارجية "الإسرائيلية" على "شرق أوسط جديد" تقوم فيه إسرائيل بتدفئة العلاقات مع جيرانها العرب من أجل مواجهة عداء إقليمي جديد مع إيران.
المرحلة الثالثة هي من ابتكار نتنياهو، حيث لم تعد النظرة الثنائية موجودة، أي الاختيار بين المحيط العربي، ومحيطه، بل قام نتنياهو الآن بتقسيم الجوار العربي إلى الدول العربية من جهة والفلسطينيين من جهة أخرى. و للمرة الأولى في تاريخ "إسرائيل"، جعل نتنياهو أعداءه كل من إيران والفلسطينيين وأنجز المهمة من خلال قطع الفلسطينيين عن بقية الحي العربي.
لذا ، عندما قال ترامب إن "إدارته ملتزمة بالعمل مع إسرائيل وحلفائنا المشتركين في المنطقة نحو مزيد من الأمن والاستقرار. ويشمل ذلك العمل من أجل التوصل إلى اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين " كان في الواقع يتحدث بلسان نتنياهو الذي قال بوضوح "لأول مرة في حياتي أرى أن الدول العربية لم تعد ترى إسرائيل كعدو" بل وعلى نحو متزايد "كحليف" هنا تبدو الصفقة الكبيرة أكبر فعلا مما كان متوقعا، لأن الأمر سيشنل " الكثير من البلدان وسيغطي مساحة كبيرة للغاية".
يشير نتنياهو إلى مذهبه بأنه "خارجي وداخلي أو بالمصطلح الإنطليزي الأدق "out-in" أولا يجب تهدئة المحيط عبر التحالف مع الدول العربية السنية بعد ذلك، في المقابل، أن استخراج خطة سلام تفرض على الداخل على الفلسطينيين بعد تجريدهم من الحلفاء، الآن تخلو الحلفاء. إنك تهدئة الدول السنية من خلال دعمها عسكريا وتزويدها بغطاء سياسي بشكل عام ، ومن خلال دعمها بشكل خاص ، في معارضتها لإوسحقهم عبر تركهم عاجزين عن الصمود في وجه خطة السلام التي فرضها ترامب وبدعم من العالم العربي الذي تم شراؤه وتخلى عنهم.
الدولتان العربيتان السنيتان اللتان يتعين شراؤهما وتطهيرهما هما السعودية ومصر، فكيف يمكنك إخضاعهما؟ عبر الانضمام إليهما في مواجهة إيران وتقديم الدعم العسكري واالدبلوماسي.
الجزء الإيراني كان سهلا، قام ترامب بعزل إيران دبلوماسيا عن طريق الانسحاب من الاتفاقية النووية المشتركة بين ثم عزلها اقتصاديا باستخدام العقوبات التي تمنع أي شخص في العالم من التجارة مع إيران. وتم توحيد الجهد مع السعودية و مصر و"إسرائيل" ضد العدو الإيراني المشترك، على حد قول نتنياهو في مؤتمر صحفي"تحويل هذه المصالح المشتركة لخلق شراكة مثمرة من شأنها بناء شرق أوسط أكثر أمنا وسلاما وازدهارا ".
وكانت الخطوة التالية هي تزويد السعودية ومصر بالوسائل والغطاء العسكري والسياسي، كانت هذه الخطوة أكثر تعقيدا وبدت غريبة جدا. لكنها منطقية في ضوء وعد ترامب بخطة سلام وشيكة في الشرق الأوسط وسياسة نتنياهو.
وهكذا سمح نتنياهو لأمريكا بمواصلة تسليح السعودية في قصفها المستمر لليمن وتأمين تقنيات التزود بالوقود جوا، بموجب قانون تفويض الدفاع الوطني، وكان هناك إدعاء دائم بأن المملكة العربية السعودية تبذل جهودًا دبلوماسية مخلصة لإنهاء الحرب. وهذا ما زعمه بومبيو مؤخرا، وفي الحقيقة كانت تلك الخطوة أكثر تعقيدًا لأن طمأنة بومبو لم تكن صحيحة، فقد كان الهجوم السعودي على اليمن على الأقل دمويًا ووحشيًا أكثر من أي وقت مضى.
ومؤخرا قال تقرير أممي في مجلس حقوق الإنسان أن " تصرفات المملكة العربية السعودية في اليمن قد تصل إلى جرائم حرب بموجب القانون الدولي" ويخلص إلى أن "هناك أدلة لا يمكن إنكارها على غياب أي محاولة من جانب أطراف النزاع للتقليل من الخسائر في صفوف المدنيين." وقد وافقت منظمة أوكسفام على هذا الرأي، وقالت إن شهادة بومبيو كانت "تتحدى علنا وتكذب على الكونغرس"، وقال التقرير أن "أغسطس هو الشهر الاكثر دموية حتى الآن في عام 2018 على المواطنين في اليمن ". لذلك ، كذب وزير الخارجية على الكونغرس للسماح لأميركا بمواصلة بيع الصواريخ إلى المملكة العربية السعودية وتمكينها من تقنيات التزود بالوقود جوا.
وفي حين أن شراء المملكة السعودية استلزم الكذب فإن التصرف مع مصر تطلب العكس تماما و عندما كان ريكس تيلرسون وزيراً للخارجية ، قام بمنع 195 مليون دولار عن مصر بسبب انتهاكات حقوق الإنسان لكن بومبيو أفرج عن هذه الاموال في 21 آب الرغم من ذلك، اعترف، "يستمر المناخ العام لحقوق الإنسان في مصر في التدهور." وهذا هو، أعادت إدارة ترامب التمويل العسكري المحجوب بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وليس لأنهم يتحسنون ، لكن بينما هم يتدهورون. بومبيو في "مذكرة التبرير" أعلن بوضوح أن تقديم المال لمصر يتعارض مع التزامات بلاده في مجال حقوق الإنسان، ومع ذلك ، عاد بومبيو وترامب إلى تقديم مساعدات عسكرية لتلك الحكومة.
في الخارج وبعد نجاح نتنياهو في توجيه الجهد الدبلوماسي الأمريكي مع السعودية ومصر ضد إيران أصبح يمكن لترامب ونتنياهو تحويل انتباههم إلى الداخل: سحق الفلسطينيين.
الخطوة الأولى هي سحقهم مالياً. لذا، أعلن ترامب عن تخفيض أكثر من 50٪ من الدعم المالي الأمريكي لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا). تبع ذلك مراجعة لوزارة الخارجية لمساعدات فلسطينية أمر بها ترامب ورفضت معونة إضافية بقيمة 200 مليون دولار من المساعدات الفلسطينية. ثم أمر ترامب بإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة تعريف "اللاجئ" على أنه يعني فقط من عاشوا فعلا في فلسطين الانتدابية قبل خلق مشكلة اللاجئين في عام 1948 و لا أحد من أحفاد هؤلاء اللاجئين سيتم حسابه، أي أنك يجب أن تكون في عمر جاوز السبعين ليتم الاعتراف بك كلاجئ، وهذا يعني أنه لن يكون هناك لاجئون في المستقبل للتعويض أو العودة إلى ديارهم: وهي مشكلة تم محوها بالتعريف. الفلسطينيون الآن محاصرين مالياً ويتم إسكاتهم ويحرمون من حقوقهم.
وكما تتنبأ السياسة الخارجية ، فإن جميع هذه التدابير التي تستهدف الفلسطينيين لديها هدف مقبول هو إجبارهم على الدخول في محادثات سلام جديدة بموجب خطة ترامب، الذي قال إن مساعدات الأونروا ستختفي ما لم يشارك الفلسطينيون في محادثات سلام أمريكية مع "إسرائيل" وعندما ا لم يستسلم الفلسطينيون ، قام ترامب بقطع كل شيء: لا مزيد من المساهمات الأمريكية للأونروا. هذا هو الجزء الثاني من التواجد الخارجي: فرض خطة السلام على الفلسطينيين.
الوعد الوحيد الجديد بشأن خطة السلام الموعودة هو الطريقة التي سيتم فرضها على الفلسطينيين: لم يعد أحد يرى بأن الخطة نفسها ستكون جديدة. وفي الواقع ، من المنطقي أن نرى المشاهد الغريبة من بومبيو "الكذب" على الكونجرس حول الجرائم السعودية في اليمن، ودعم مصر رغم انتهاكات حقوق الإنسان . والآن دور الفلسطينيين الذين قال ترامب أنهم سيحصلون على شيء جيد للغاية، ولكن لا أحد يعرف بالضبط مهو هذا الشيء.