Menu

-تقرير شامل-

خاصالبرازيل: هل ما زال الوقت مبكرا على إعلان الهزيمة؟

انتصار الديكتاتورية في البرازيل عام 1964

بوابة الهدف - أحمد مصطفى جابر

فاز بولسونارو بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية البرازيلية بنسبة 55٪ من الأصوات، متفوقًا على مرشح حزب العمال فرناندو حداد الذي حصل على نسبة 45٪ من أصوات الناخبين في نتيجة اعتبرت نكسة للطبقة العاملة وفقراء البرازيل.

قبل أيام قليلة من إعلان فوز بولسونارو، وما عكسه من "حنين أبدي إلى الديكتاتورية"، كانت هناك قافلة عسكرية من الشرق تجوب شوارع ريودي جانيرو وكان موكب السيارات الاحتفالي يسير على طول شارع ميغل دي فرياس وكان هذا يبدو كأنه احتفال مسبق بفوز بولسونارو، وكأن الجنرالات يريدون القول، ها قد عدنا!

ولكن كيف حدث هذا؟

اتسمت تعليقات الصحافة والمراقبين السياسيين بالذهول وخصوصا الليبراليين منهم وبعضهم محسوب على اليسار نتيجة هذه الانتخابات، إذ تساءل الجميع: كيف حدث هذا؟ كيف يتم انتخاب يميني ديمقراطيا؟ كيف استطاع الملايين من الناس التصويت لشخص يدافع علانية عن آراء بشعة؟

كان هناك الكثير من التفسيرات في الصحافة البرازيلية خصوصا والعالمية عموما، أعادها البعض إلى نفوذ الشبكات المرتبطة بالكنائس الإنجيلية، كما أحالها آخرون إلى حملة الأخبار المزيفة على الواتس أب، وبالفعل في التسعينيات، كانت هناك حملة دعائية هائلة في البرازيل ضد لولا: "إنه مجرد عامل تعدين بدون خبرة أو أقل مؤهلات" ، "إنه شيوعي" ، "إنه غير موجود"، "لا يملك حتى شهادة جامعية"، لكن هذا لم يمنعه من الفوز في الانتخابات النهائية، بنسبة 61٪ من الأصوات، لم ينجح بولسونارو في تخطيها فقط، بل فشل في الوصول إليها.

كان هناك حملة ونتائج مشابهة في بريطانيا، فقد تعرض جيرمي كوربين زعيم حزب العمال لحملة شيطنة مماثلة، وصف بأنه معاد للسامية وصديق ل حركة حماس ، محب للإرهاب، بل ودمية بوتين أيضا، لكن هذا كله كان بلا تأثير لأنه انتخب أصلا على أساس برنامجه للتأهيل، والتعليم المجاني، والإسكان للجميع.

لذلك بعيد عن الحملات، يرى البعض أن انتصار بولسونارو هو نتيجة - طبيعية أو غير طبيعية فهذا لم يعد مهما الآن- للأزمة التي طال أمدها في حزب العمال فعندما انتخب لولا لأول مرة في عام 2002، تم استثمار فوزه في التحالف مع الأحزاب البرجوازية، وعيّن ميريليس، وهو مصرفي من الولايات المتحدة، رئيساً للبنك المركزي، كما عقد اتفاقيات مهمة مع صندوق النقد الدولي، وأدار سياسة التقشف المالي، كما جلب نظاما مضادا لنظام التقاعد، وبالتالي يرى النقاد وهم كثر أنه لم يمثل فعلا تحد أي تحد أساسي لقوة الإمبريالية أو الطبقة الحاكمة البرازيلية، ومع ذلك ، فقد تمكن من الاستفادة من الاستقرار النسبي الناجم عن فترة من النمو الاقتصادي.

بدأت الأحوال تتغير مع انتخاب ديلما روسيف في عام 2010، كانت سياستها مشابهة لتلك التي ابتكرها لولا، ولكن مع خطوة أخرى إلى اليمين، فمساعدها كان السياسي البرجوازي ميشال تامر، وعينت رئيس ملاك الأراضي ومربي الماشية وزير الزراعة والوكيل الرسمي لصندوق النقد الدولي وزيرا للمالية، وكان الفرق الرئيسي هو أنها اضطرت إلى مواجهة أزمة اقتصادية، وليس النمو كما لولا حيث في أعقاب التباطؤ في الاقتصاد الصيني، دخل الاقتصاد البرازيلي في حالة ركود خطيرة بين عامي 2014 و 2016 ، وهو ما لم يتعاف منه بعد.

عام 2013 جوبهت سياسات روسيف باحتجاجات شبابية ضخمة ضد ارتفاع تكاليف النقل، رد عليها حكام الأقاليم بقمع وصف بأنه وحشي، بدعم كامل من الحكومة الوطنية.

وقد قيمت حركة يونيو 2013 كانعكاس للمعارضة العالمية من قبل طبقة متزايدة من الشباب، ولكن أيضا العمال. واعتبر حزب العمال، الذي تولى السلطة لأكثر من عقد من الزمان، جزءا من المؤسسة التي كان الشباب يتظاهرون ضدها، وبدلا من أن يصحو الحزب ويغير سياسته أعلنت ديلما عن مجموعة متزايدة من عمليات الخصخصة والتدابير التقشفية، وبعد مظاهرات 2013 اندلعت أخرى عام 2014 ضد الألعاب الأولمبية والبذخ فيها وقد تم قمعها أيضا، وفي محاولة للتعامل مع هذه الاحتجاجات، قدمت حكومة ديلما سلسلة من القوانين (حول المنظمات الإجرامية، ومكافحة الإرهاب ...) التي حدت بشكل كبير من حق الاحتجاج وجرمته.

انتخابات 2014 وإقالة ديلما:

شكلت انتخابات 2014 نقطة تحول في هذه العملية، فقد حرصت ديلما على الفوز في الجولة الثانية بالاعتماد على حشد أصوات الطبقة العاملة، على أساس النضال ضد السياسة اليمينية للمرشح البرجوازي، آسيو نيفس، ومع ذلك، فقد خانت ناخبيها من خلال التقدم بطلب لتطبيق سياسة نيفيس التقشفية، وتخفيضات الميزانية، والخصخصة، والهجمات على حقوق العمال، كل هذا مع التراكمات السابقة أدى إلى انخفاض شعبيتها التي كانت قد تجاوزت 60 ٪ في 2012-2013 ، إلى 8 ٪ في عام 2015 ، وهو أدنى مستوى بين جميع الرؤساء منذ استعادة الديمقراطية، واقتنص البرجوازيون فرصة ضعفها وبدؤوا المؤامرة لإخراجها من السلطة.

في هذه الأثناء برز لولا كمرشح مرة أخرى مع حظوظ كبيرة للفوز في الانتخابات باعتباره رجل فترة النمو وارتباطه بالتقاليد التاريخية والثورية لحزب العمال، على الرغم من الاتهامات التي وجهت له، والتي لا نملك معلومات حقيقية عنها أثناء كتابة هذا النص.

يرى نقاد حزب العمال ومن داخل تياره نفسه أن سجل حكوماته الذي انبنى على تصويت الطبقة العاملة للبقاء في السلطة، من جهة و تأسيس سياسة رأسمالية بالتحالف مع الأحزاب البرجوازية من جهة أخرى، قد دمر سمعة الحزب، ودمر علاقته بالطبقة التي يفترض أنه يمثلها وخصوصا النقابات، مما مهد الطريق لانتصار بولسونارو. ومن المؤسف أنه حتى عندما كان السياسيون البرجوازيون مشغولين بإزالة ديلما من السلطة، لم ينظم حزب العمال والنقابات أي دفاع جاد عنها طبقا لنقد متطابق، صحيح أن العالم كله شهد تجمعات ومظاهرات، والعديد من التهديدات، لكن لم تكن هناك حملة جدية للتعبئة المتنامية والمستمرة.

تفاقم الوضع عندما واصلت حكومة تامر التي لا تحظى بشعبية وتكثفت الهجمات على الطبقة العاملة، و كانت هناك مسيرات ضخمة ضد تامر توجت بالإضراب العام في نيسان/ أبريل 2017. وقد أظهر العمال البرازيليون والشباب أنهم مستعدون للقتال، لكن قادتهم لم يملكوا الشجاعة الكافية للنضال وفجأة تلاشى الزخم.

بالعودة إلى الشبكات الإجتماعية، لايمكن إنكار أن بولسونارو استخدمها بذكاء وكذلك شبكات الكنائس الإنجيلية لنشر رسالته التي لم تكن أكثر من خليط من الأكاذيب، وأنصاف الحقائق والكراهية الهستيرية للشيوعية والتشدق بالدعوة إلى "جعل البرازيل كبيرة مرة أخرى "، لكن هذه الأساليب لم يكن لها أن تحقق هذه النتيجة لولا السياسة الكارثية لحزب العمال وسجله في الحكومة.

"الدفاع عن الديمقراطية":

كانت سياسة واستراتيجية حداد في الجولة الثانية انتحارية، في محاولة لاسترداد أفقر الناخبين الذين دعموا حزب العمال في الجولة الأولى، وقام حداد بدوره الصحيح في محاولة دون جدوى لالتقاط ما يسمى منتخبي المركز. في الجولة الأولى، قدم نفسه كمرشح لولا، وتم دمج وجهيهما إلى حد كبير في جميع مواد الدعاية، ولكن في الجولة الثانية، تمت إزالة صور لولا من الصور الفوتوغرافية واستبدل الطرف الأحمر بألوان العلم الوطني.

في مواجهة مرشح "مناهض للمؤسسة" الإشتراكية، كما قدم بلسونارو نفسه نفسه ، اعتقد حداد أنه يستطيع أن يهزمه من خلال كونه "مرشح المؤسسة" وقدم نفسه كمرشح للديمقراطية، وأمر بوحدة جميع الديمقراطيين (بما في ذلك الأحزاب البرجوازية نفسها التي طعنت ديلما في ظهرها). والطريقة الوحيدة التي كان يمكن أن يسترد القاعدة الجماهيرية عبرها هي حملة تنديد بالبرنامج الاقتصادي الخصخصي لبولسونارو وضد الهجمات على المعاشات التقاعدية وغيرها، واقتراح بديل للمعركة يقوم على الدفاع عن حقوق ومكتسبات للطبقة العاملة بخط واضح مضاد للرأسمالية، للأسف بدلا من ذلك، كان لدينا دعوات مجردة "للدفاع عن الديمقراطية" و للحوار والتفاهم، و "تعزيز الدستور"..

كانت الأرقام مذهلة بالفعل، فقد كان اقبال الناخبين 20.3% في الجولة الأولى في بلد فيه التصويت إلزامي، وهو أعلى معدل منذ 1998، وفي الجولة الثانية كان أعلى من ذلك، 21.3٪ ( 31 مليون)، بالإضافة إلى 9.5٪ (11 مليون نسمة) الذين صوتوا بورقة فارغة أو امتنعوا عن التصويت، وهذا الأمر الأخير كشف عن أن طبقة كبيرة من الناخبين ترفض بولسونارو ولكنها لا تريد حداد.

في العمق: التهاون في طلب العدالة:

في أيار/مايو الماضي، تسربت وثيقة سرية من محفوظات الخارجية الأمريكية تؤكد أن الدكتاتور جيزل (1974-1979) أذن لجهاز الاستخبارات البرازيلي بمواصلة ملاحقة وتصفية المنشقين (اقرأ: الشيوعيين ، المخربين ، والمتمردين ، ومكافحة الامبريالية ، وما إلى ذلك).

تسريب هذه الوثيقة في الحملة الانتخابية أثار فزع قائد الجيش السابق المرشح بولسونارو، واعتبر التسريب محاولة لعرقلة انتخابه، ولكن جماعته سارعوا لطمأنته حيث أوضح له رئيس النادي العسكري، الجنرال جيلبرتو بيمنتل، على عدم وجود أي قيمة لهذا التسريب مشيرا إلى أن بولسونارو (العسكري) كان في موقع جيد في استطلاعات الرأي، في نفس الوقت كان هناك عدد آخر من العسكريين يشحذون مخالبهم ويستعدون أيضا لتلقي مناصب في العهد الجديد كما وعدهم بولسونارو.

وفي الحقيقة يحق للجنرالات الاحتفال فهم حكموا البرازيل عشرين عاما تقريبا بالحديد والنار وهاهم بعد مرور ما يماثلها في الحكم الديمقراطي يعودون إلى السلطة كأن شيئا لم يكن، وكأن السنوات من 1985 إلى 2018 كانت مجرد استراحة المحارب، وعلى أنصار الحرية والعدالة والديمقراطية في العالم أن يودعوا الآن الديمقراطية العظيمة التي تنحدر بسرعة إلى نظام فاشي رجعي متحالف مع الإمبريالية والصهيونية ومعاد للمواطنة والديمقراطية والسود والمثليين والنساء والمثقفين.

كان تدشين الديكتاتورية قد جاء عبر انقلاب عسكري عام 1964، الذي أسقط الرئيس الشرعي المنتخب جواو جولارت (جانغو)، الذي اعتبر الجيش أنه يريد سوق البلاد إلى الشيوعية فانقلب عليه، ولسخرية التاريخ هاهم يعودون من جديد عبر الانتخابات.

21 عاما عاشتها البرازيل في ظل قمع دموي وعنف سلطوي عسكري لايعرف الرحمة ضد كل من يفكر بالاعتراض، وقد أرخ المؤرخ الكبير دانييل أراو رييس الذي كان يؤمن بالكفاح المسلح للإطاحة بالديكتاتورية في كتابه (الدكتاتورية التي غيرت البرازيل)، أنه "منذ انقلاب 1964 بدأت تنهال الضربات على جميع المعارضين لحكم الطوارئ، فمن الحرمان من الحقوق السياسية للمنتخبين اليساريين، إلى القمع الموجه ضد النقابات العمالية والمنظمات الشعبية واتحاد الطلبة"، والمفارقة كما يضيف المؤلف أن النظام القمعي "تمتع بدعم من جزء كبير من السكان، بسبب الخطوات المتقدمة التي تم إحرازها في المجال الاقتصادي مما ساعد في تحقيق الرخاء والرفاه لفائدة الطبقات المتوسطة من المجتمع". طبقا للكتاب، كان التعذيب سياسة دولة، تهدف إلى "إسكات كل من يحاول أن يسلك سبيل المقاومة المسلحة".

كانت انتخابات 1985 التي اضطر إليها العسكر إيذانا بنهاية الحقبة العسكرية، بانتخاب تانكريدو نيفيس رئيسا مدنيا لقيادة البلاد، وثمة خلاف بين المؤرخين حول هذه الحقبة إذ يرى بعضهم أن النهاية الفعلية للحكم الديكتاتوري جاءت عام 1979 مع صدور العفو وعودة المنفيين، فيما يعتبر آخرون أن هذه الحقبة لم تنته بل امتدت حتى 1988، مع صدور الدستور الجديد، مع أن الرواية الرسمية للدولة تقول إن الديكتاتورية بدأت في 31 من مارس من سنة 1964 وانتهت في 15 من يناير 1985 إثر انتخاب الرئيس تانكريدو نيفيس أي بعد 21 سنة من حالة الطوارئ. وقد كثفت الرئيسة ديلما روسيف تلك المرحلة بـقولها: "لمدة 21 عاما، تم تكميم أفواهنا والإجهاز على حريتنا وأحلامنا".

ورغم هذه السنوات الطويلة وعشرين عاما من الديمقراطية لاتزال البرازيل تفتقر إلى قوانين ومنهجية واضحة للبحث في حقائق تلك الحقبة، وتقديم الجناة العسكريين إلى المحاكمة بتهم القتل والتعذيب والاضطهاد والإخفاء القسري.

العودة إلى الحضن الإمبريالي:

كان ثمة كاريكاتير لافت في الصحافة البرازيلية، يصور بولسونارو نائما في حضن ترامب، وقد لف هذا الأخير يده حول عنقه، يصور هذا الكاريكاتير رغبة بولسونارو الجارفة للإرتماء في حضن النظام الأمريكي والامتثال له، وأيضا رميه لبلاده في بطن الوحش.

وفي الوقت الذي ارتبطت فيه الديكتاتورية السابقة جوهريا بالمشروع الأمني الأمريكي لنصف الكرة الغربي وأمنه الداخلي وبدعم كبير من الولايات المتحدة، فإن ما يحدث حاليا من عودة قائد الجيش في الحقبة الديكتاتورية إلى منصب الرئيس يعد إعادة اندراج البرازيل في هذه الاستراتيجية، التي عبر عنها كبير الاستراتيجيين في حملة دونالد ترامب ستيف بانون عام 2016 الذي رحب بفوز بولسونارو وقال: "في جزء من العالم توجد فيه اشتراكية راديكالية، فوضى في فنزويلا والأزمة الاقتصادية، مع حكم صندوق النقد الدولي في الأرجنتين، يمثل بولسونارو مسار الرأسمالية المستنيرة ، وسوف تكون قيادة وطنية شعبية".

كان بانون محقا طبعا باحتفائه بالرئيس الجديد للبرازيل، الذي سينقلها من طريق معادة أمريكا للنوم في أحضانها، فقبل بضعة أسابيع أعلن بولسونارو بأن ترامب: "يريد الولايات المتحدة الكبيرة وأريد البرازيل كبيرة"، ولم يتردد في انتقاد حكومات حزب العمال لرفضها السماح للولايات المتحدة باستخدام قاعدة ألسانترا ما رانهاو في سان باولو، مع العلم أن البرازيل رفضت دائما عبر حكوماتها الاشتراكية الخضوع للاستراتيجية العسكرية الأمريكية، وهذا البلد العملاق الذى يتاخم حدود مشتركة مع 9 دول، هو الدولة الوحيدة فى أمريكا الجنوبية واللاتينية التى تطور استراتيجية مستقلة للدفاع العسكرى، سواء البحرى أو الجوى أو البرى، بهدف الحفاظ على مكانتها كقوة مستقلة وشبه قارية متقدمة، خاصة أنها تطمح للحصول على مقعد دائم بمجلس الأمن الدولي. ولكن هذا لم يكن يرضي الولايات المتحدة التي تنشر قواعدها كالسرطان في دول القارة الجنوبية وعينها على الموقع الاستراتيجي للبرازيل.

وكرد على السياسات الاشتراكية، قرر بولسونارو الذهاب بعيدا فتعهد إذا تم انتخابه، بأنه سوف يقيم علاقات دفاعية وعسكرية مميزة ليس فقط مع الولايات المتحدة بل مع الكيان الصهيوني أيضا، ونتيجة الانقلاب على ديلما روسيف كان هناك تجسيد لهذه السياسة المضادة فعليا لخط الابتعاد عن الولايات المتحدة، فقد كانت هناك زيادة كبيرة في أسهم الشركات في صناعة الأسلحة البرازيلية، وبعض هذه الشركات تشارك في المناقشات العسكرية بين الولايات المتحدة والبرازيل مثل شركة تاوروس.

مثال آخر على التحالف تهجم بولسونارو على فنزويلا ومحاولة تصويرها كعدو خارجي مباشر وهنا يلتقي أيضا مع ترامب، الذي يغير المصطلح فيعتبر المهاجرين هم العدو الخارجي المباشر، والحاجة إلى عدو خارجي مسألة حيوية بالنسبة لهذه الأنظمة.

وفي هذا السياق زعم لويس فيليب دي أورليانز، المستشار المحتمل لبولسونارو في المستقبل، قائلاً: "هناك ديكتاتورية مجاورة ونحن لا نفعل شيئاً على الإطلاق سياسياً (...)، لا أغلق الباب أمام التدخل العسكري"، زاعما أن التدخل العسكري في فنزويلا يحول دون إمكانية "تمويل جماعات المعارضة". وفي هذا السياق، يمكن تفسير موجة العنف التي اندلعت ضد االمهاجرين الفنزويليين في ولاية رورايما (على الحدود الشمالية مع فنزويلا)، ومنذ عام نفذت مناورة " أمريكا المتحدة " أو "الشراكة الأمريكية" في الحدود الثلاثية بين البرازيل وبيرو وكولومبيا، بمشاركة من الجيش الأمريكي، و كان الهدف المعلن من هذا التدريب هو « تقوية العلاقات العسكرية بين الشركاء الإقليميين وتطوير الاستعداد العملياتي وتشجيع الإرادة الحسنة ». يجب أن نفهم من عبارة: « تشجيع الإرادة الحسنة »: توجيه رسالة قوية لكل من فنزويلا وكوبا.

الكيان الصهيوني: سعادة لا توصف:

من الطبيعي أن يثير التحالف بين "الدولتين الكبيرتين" قلقا كبيرا من الناحية الجيوسياسية، ولكن نرغب في القفز عن هذه النقطة للوصول مباشرة إلى ما تحدث عنه بولسونارو من روابط عسكرية وأمنية مع الكيان الصهيوني، وهذا طبعا بقدر ارتباطه بقوة بالروابط الموازية مع الولايات المتحدة فإنه متكامل معها أيضا.

الكيان الصهيوني هو المزود الرئيسي للسلع والخدمات في مجال الأمن السيبراني، فضلا عن التداخل في أمور أخرى، فخلال الانتخابات حصل بولسونارو بشكل واضح على دعم المجتمع اليهودي الذي أظهر عداء للحكومة والقيم الاستراكية العمالية، وعبر جاك تيربنز رئيس المؤتمر اليهودي الأمريكي اللاتيني عن الفرح بانتخاب بولسونارو بقوله: " سارت الأمور بشكل جيد جدا مع الجالية اليهودية (...)، هو صديق عظيم لإسرائيل"، كما أظهر القنصل الإسرائيلي في سان بابلو، دوري غورين، أيضا توقعاته بقوله: "نحن نأمل أن تأخذ الحكومة البرازيلية الجديدة العلاقة بين البرازيل وإسرائيل إلى مسار جديد، مختلف تماما عن ما كان لدينا مع الحكومات السابقة، ولا سيما حكومة حزب العمال ". من أجل هذا التقارب، أصبحت "إسرائيل" على قائمة الدول الأولى التي سيزورها بولسونارو ، إلى جانب الولايات المتحدة وشيلي، كما أن رئيس حكومة الاحتلال هو أول زعيم تتم دعوته إلى البرازيل، وقد صرح أنه سيحضر حفل التتويج، كل هذا يأتي مدفوعا بزخم إعلان بولسونارو عن نيته نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة التي اعترف بها عاصمة "لإسرائيل" بالتوازي مع تصريحات عدوانية ضد الفلسطينيين، ووعده بإبعاد السفارة الفلسطينية من مكانها على الأقل، بعد أن قال إن فلسطين ليست دولة "فلماذا يكون لها سفارة"؟!

هل ستنتصر أشباح الماضي؟

شبح الماضي إذاَ يعود بقوة إلى الأرجنتين، الديمقراطية الذبيحة بيد اليمين الفاشي بإعلان الرئيس الجديد نيته وضع العديد من العسكريين في وزارته، مع بعض المدنيين المؤيدين للنظام اليميني، والرأسماليين والفاسدين الذين انتصروا في الحرب، ومن بينهم القاضي الفاسد الذي حاكم الرئيس لولا، وكأن هذه الحكومة تأتي نتيجة "للحرب على الفساد" التي جلبت انقلابا مؤسسيا وسجن الزعيم السياسي الوحيد الشرعي، وأتت بشخص لا يهتم كثيرا بالشرعية وحقوق الإنسان أو الديمقراطية، كل هذا يطرح سؤالا كبيرا عن البرازيل وانحدارها مرة أخرى إلى الديكتاتورية الفاشية بمظلة الرأسمال المتوحش.

ولكن هذه ليست نهاية الطريق، هذا ما تقوله قوانين التاريخ، لأننا نعلم أن الشعوب لايمكن أن يهزمها لا محتل ولا ديكتاتور، وكما يرى الكاتب الماركسي خورخي مارتين أحد أبرز الداعين لضرورة مقاومة النظام الجديد، الذي يميز بين النظام الحالي في البرازيل والنظام الفاشي الكلاسيكي، مؤكدا أن النكسة التي حدثت لاتعني انتصار الفاشية، فأولئك الذين ينتقدون اليوم انتصار "الفاشية" في البرازيل هم على خطأ، معرفا الفاشية باعتبارها نظاما سياسيا يقوم على حشد الجماهير البورجوازية الصغيرة المغضبة في شكل عصابات مسلحة، بهدف سحق منظمات الطبقة العاملة. تاريخيا ، جاءت الفاشية إلى السلطة بعد هزيمة الطبقة العاملة في العديد من الثورات الفاشلة بسبب غياب القيادة المناسبة، على أساس هذه الهزائم والفرص الضائعة، تمكنت عصابات الإحباط والعنصرية من سحق منظمات العمال، وقد نختلف معه في هذا التعريف، ولكنه يقول أن هذه ليست حالة البرازيل اليوم، فبولسونارو لا يعتمد على العصابات الفاشية المسلحة، هناك بالفعل مجموعات فاشية في البرازيل، وسوف يشجعها هذا الانتصار، فهي خطيرة ويجب معالجتها وجها لوجه، ولكنه يؤكد أن الطبقة العاملة البرازيلية لم تهزم، في الواقع ، لم تبدأ نضالها الحقيقي بعدوعلى الديكتاتور الصاعد بجنون أن يتحسب جيدا للمعارك القادمة.

يذكرنا مارتين أنه قد مر عامان منذ انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وفي ذلك الوقت، تحدث العديد من المعلقين الليبراليين وبعض اليساريين أيضًا عن انتصار الفاشية في الولايات المتحدة، لا شك أن ترامب سياسي رجعي، وتمثل سياسته هجومًا ضد العمال والنساء والمثليين جنسياً والمهاجرين، ولكن سيكون من الخطأ وصف الوضع الأمريكي بالديكتاتورية الفاشية. في الواقع، وجدت جماعات "التفوق البيض" العنصرية في الولايات المتحدة التي حاولت النزول إلى الشارع بعد انتخاب ترامب أن هناك تحركات جماهيرية في طريقها تفوق عددها بكثير، كانت هناك سلسلة من الإضرابات قام بها مدرسون جذريون في عدد كبير من الولايات، صحيح أنه هناك استقطاب أكبر للمجتمع على اليمين، ولكن أيضًا على اليسار.

يرجح مارتين أن ما سنشهده على الأرجح في البرازيل هو استمرار العملية السياسية (التي بدأت بالفعل قبل الانتخابات)، مما يؤدي إلى ظهور خصائص بونابرتية داخل الدولة، وكان هذا واضحا في اصدار القاضي حكما سياسيا خلال عملية لافا جاتو الموجهة ضد لولا وسجنه وحرمانه من الترشح للانتخابات، الخ، وهو ما سيكافؤ عليه القاضي بتعيينه وزيرا في حكومة بولسونارو ولكن في الوقت نفسه ، فإن أساس نظام يتمتع بسمات بونابرتية ضعيف للغاية، في ظروف الأزمة الاقتصادية الخطيرة ومع تشويه سمعة جميع الأحزاب والمؤسسات التقليدية للطبقة الحاكمة.

أخيرا: ما هو الأفق؟

منذ فوز بولسونارو دأب المعلقون الرأسماليون على الترحيب به وتشجيعه على تنفيذ برنامجه الاقتصادي على نطاق واسع والانقلاب على نظام إصلاح التقاعدالذي بدأه لولا.

ونقتبس من أحد المعلقين المتحمسين قوله: "إن الأسواق قد تغذت على أمل أن السيد بولسونارو سينفذ وعوده بالإصلاح الاقتصادي، وخاصة إعادة النظر في النظام "المكلف" للمعاشات التقاعدية وخصخصة الشركات المملوكة للدولة البرازيلية"، حسب صحيفة فاينانشال تايمز (29/10/2018).

والسؤال الذي يطرح هنا، بما أن القاعدة معروفة ومثبتة بأن "الطبقة الحاكمة" تدعم جميع الحكومات بناء على قاعدة واحدة بسيطة: إلى أي مدى يمكن أن تحمل مصالحها الطبقية، فهل ستكون حكومة بولسونارو قادرة على الوفاء بوعودها لأولئك الذين انقلبوا على حزب العمال وجاؤوا بها؟

يرى المحللون أن نقطة تحول هامة ستأتي حتما عند محاولة بولسونارو تنفيذ برنامجها، لدرجة أن خبير اقتصادي ليبرالي متطرف مثل باولو جيديس، يرى أنه سوف سيواجه بمقاومة منظمة من الطبقة العاملة، التي لم تهزم، كما هو الحال مع حكومة ماكري في الأرجنتين، سيواجه بولسونارو موجة من العمل النقابي، والتعبئة الجماعية، وضربات عامة ضد سياساته الاقتصادية، وعلاوة على ذلك، موقفه ليس قويًا كما يبدو للوهلة الأولى، لأن تشريعاته يجب أن تمر عبر برلمان بثلاثين حزبا مختلفا ومختلفة معه، وبالتالي سيضطر لتقديم تنازلات.

يرى مفكر من التيار الماركسي الجذري، إن مهمة الطبقة العاملة الآن وحزب العمال وكل الفقراء والمتضررين من السياسات القادمة هي الامتناع عن الاستسلام لليأس، والاستعداد للمعركة المستقبلية التي لن تكون سهلة طبعا، وما يبدو لازما وضروريا الآن لهذه المعركة كما هو واضح، أن تبدأ عملية إعادة بناء حركة مسلحة للطبقة العاملة.

ويبقى علينا الإقرار في النهاية أن الدرس الأبرز، هو أنه لا يمكن أن تنجح حكومة يسارية عمالية ببرنامج مهادن للجناح اليميني وللبرجوازية، ورغم كل شيء الشعوب لا يمكن هزيمتها والثورة قادمة حتما.