Menu

صور فلسطينية "معتقلة" في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية

أنطوان شلحت

مقتطفات من كتاب رونه سيلع “لمعاينة الجمهور: الفلسطينيون في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية” الذي يضم أول بحث شامل حول التاريخ الفلسطيني البصريّ والمكتوب في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية.

تقديم: أنطون شلحت

يضم هذا الكتاب أول بحث شامل حول الموضوع الذي يخوض فيه، وهو التاريخ الفلسطيني البصريّ والمكتوب في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية.

وتركز المؤلفة على مرحلتيْ زمنيّتيْ مركزيّتيْ ترتبطان بهذا التاريخ:

الأولى، مرحلة الحياة في فلسطين قبل العام1948 ، والتنظيمات الفلسطينيّة وحرب1948 ، والنكبة ونتائجها، والتي فُتحت معظم المواد المتعلقة بها بعد خمسين عامًا، أو بعد معركة قضائيّة لفتحها، ونُشرت في الطبعة العبريّة من الكتاب الصادرة قبل نحو عشرة أعوام (2009).

الثانية، المرحلة المُطلّة من أرشيفات وغنائم حرب أُخذت من بيروت في ثمانينيات القرن العشرين الفائت، وتصف المنفى الفلسطيني والنضال بعده. وقد بدأت المؤلفة بالتعامل مع هذه المرحلة عام 2001 ، وتناولتها بشكل مُقتضب في الطبعة العبريّة من هذا الكتاب، نظرًا إلى أنّ أعوامًا طويلة من المحاولات مرّت قبل أن يُفتح قسم من هذه المواد. وبما أنّ هذه المواد لم تُفتح إلّ في الأعوام الأخيرة فقد قرّرت أن تشملها على نطاق أوسع في هذه الطبعة العربيّة.

وبالإضافة إلى فوائد هذا الكتاب الجمّة، بالأساس من ناحية المعلومات الموثوق بها والواردة فيه نقلً عن مصادر أولى هي في متناول يدي المؤلفة، فإن استنتاجاته الفكرية ليست أقل أهمية واستبصارًا. وهي استنتاجات تحمل من الحدّة والوضوح قدرًا يعفينا من عناء التوسّع فيها. ويبقى في مقدمها الاستنتاج القائل إن الاستعمار الصهيونيّ الكولونيالي لفلسطين، في 1948 كما في 1967 وصولً إلى يومنا الراهن، لم يتم في الحيّز الجغرافيّ فحسب، بل أيضًا في حيّزيِّ الوعي والذاكرة. وضمن هذا السياق يُنظر إلى الأرشيفات الكولونياليّة، على غرار الأرشيف الإسرائيلي، بصفتها مواقع لإنتاج الرواية التاريخية، بواسطة منظومات محو وإخفاء.

وتشير المؤلفة إلى أنه على مرّ الأعوام، تراكمت محاولات لتحدّي الأرشفة والممارسات الكولونياليّة المتعلّقة بها، ولتشييد نموذج قُوامُه التفسير الما بعد كولونياليّ، وبالرغم من أنّ هذا النموذج ينطلق من داخل الأرشيف الكولونياليّ، فإنه يُنتج معرفة بديلة. فهذا نموذج يقرأ ما في داخل الطبقات الكثيرة- البادية والمستترة- في الأرشيف الكولونياليّ، ويُغيّر المعرفة عن الماضي، ويوفّر أدوات جديدة لمواجهة الراهن. وتحرص على أن تنوّه بأن توجهها ما بعد الكولونياليّ ينطلق من مناهضة معلنة للكولونياليّة {…}

אברהם ורד קלקיליה

أڤرَهام ڤيرد، “عملية انتقامية، عملية شومرون، مظلّيّون يجمعون مستندات في قلقيلية”، 11.10.1956. أرشيف الجيش الإسرائيليّ. 

نهب الصور ومجموعات الصور التي نُقلت إلى الأرشيفات العسكريّة

على أيدي أفراد وجهات مدنيّة حتى سنوات الخمسين

أمدخل

يتطرّق هذا الفصل إلى كيفيّة تذويت أفراد في ضمن المجتمع للرموز الخاصة بالأجهزة والمنظومات العسكريّة، وتملّكها بأنفسهم، وإلى كيفيّة تغلغل ممارسات القوى إلى داخل الحيز الخاص الشخصيّ والمدنيّ. وسيتمحور هذا الفصل حول الانضباط الذاتيّ لدى المواطنين اليهود/ الإسرائيليّين، والحياة في دولة ذات مميزات عسكريّة/ حربيّة وكولونياليّة جليّة، تسيطر على مناحي حياة كثيرة، مدنيّة وأخرى (يُنظر مثلا إلى سيلع 2007).

في الجزء الأول من الفصل سأتطرّق إلى أخذ الجنود للصور، ومن المرجّح أنّ ذلك جرى لدوافع ذاتيّة (النهب)، مع أنّ من الجائز أنّ قسمً منها قد أُخذ كغنائم، باعتبار ذلك جزءًا من النشاطات العسكريّة/ الاستخباراتيّة.[1]

ونقلت الصور (“تبرّعوا بها”) لأرشيفات عسكريّة بعد انتهاء الجنود من أداء خدمتهم العسكريّة وهي موجودة بعهدة الأرشيف حتى يومنا هذا. وسأتطرّق أيضًا إلى مجموعات الصور الفلسطينيّة التي وصلت إلى أرشيف الجيش الإسرائيليّ من جهات مدنيّة.

كانت مسألة النهب معروفة للسلطات الإسرائيليّة؛ وكانت أشهر الحالات المتعلّقة بسياق حرب 1948 تخصّ كتيبة پلماح هرئيل في لواء القدس . ويدّعي تسڤيكا درور أنّ الجيش والحكومة حاولا منع هذه الظاهرة، إلّا أنّهما لم ينجحا بذلك في حالات كثيرة (درور 2005 ، ٢٣٦- ٢٤٠). فعلى سبيل المثال، جاء في “أمر يوم”، وهي إضافة إلى “أمر يوم” رقم 12 الصادر عن مركز قيادة الهَچَناه في منطقة حيفا يوم 26.4.4: تعليمات التصرّف بخصوص العدوّ وممتلكاته:

{…} لا يحقّ لأيّ شخص أن يُرج ممتلكًا من ممتلكات العدو من دون إذن خاصّ من مركز القيادة البلديّ. وتشمل الممتلكات: الغنائم الحربيّة والممتلكات الخاصّة (أرشيف الهَچَناه، 80\460\5).

وقد نوقش الموضوع حتى في جلسات الكنيست. فمثلً، أنجز مئير چال عملً فنيًّا يستند إلى الأرشيف (سيلع 2013 ، 243) استخدم فيه تقريرًا قدّمه عضو الكنيست أمين جرجورة، عضو قائمة الناصرة الديمقراطيّة، يوم 14.11.49، حول النهب في قرية الجش:

“في أثناء عمليّة البحث سرق الجنود عدّة بيوت، وأخذوا نحو 650 ليرة إسرائيليّة ومجوهرات وأغراضًا ثمينة. وعندما أصرّ المنهوبون على تلقّي وصولات، أُخذوا إلى مكان بعيد وقُتلوا رميًا بالرصاص. واحتجّ أهل القرية على ما حصل أمام القائد في الموقع، الذي أمر بإحضار جثث القتلى إلى القرية. وقد وُجد أنّ إصبع أحد القتلى كانت مقطوعة: فقد أُخذت من أجل سرقة الخاتم” (سجلّات الكنيست، المجلّد ج، 37 المصدر السابق، مقتبس لدى سيجف1984، 85).

ومع ذلك يجب إجراء بحث معمّق للنشاطات التي اُتّذت لمنع أعمال النهب وفحص ماهيّة المنظومات التي سمحت بذلك. ويوجد في الأرشيفات الإسرائيليّة المختلفة توثيق واسع للنهب، وهناك أيضًا ملاحقة لها وتسجيلات مرتبة للأمور التي نُبت. ومن خلال معاينة أرشيف مكتب المسؤول عن الممتلكات العربيّة في لواء الشمال ليوم 30.9.48، نرى سجلّت مرتّبة للأغراض التي سُقت من البيوت ومن السكان الفلسطينيّين، تشمل اسم المُدّعي وعنوانه وماهية الدعوى (ماذا سُرق منه، وقيمة الغرض المسروق) (التصويرة رقم 40، يُنظر أيضًا إلى سيلع 2013، ١٤٢- ١٤٣). من بين الأمور التي بُلّغ عنها: الأثاث والممتلكات المنقولة، والملبوسات والبضائع المختلفة، وساعة يد ونقود ودراجة ناريّة وأثاث وموادّ بناء وأدوات فندقة وأغراض بقالة، وسيارة وملابس ودواليب وبضائع من المخازن وراديو وسرير وصناديق كاز ومكوى وساعة وچرامافون وماكنة خياطة وحاجيات كهربائيّة وسيارة شحن ومعدات تصوير وسجّادة فارسيّة وما شابه.

وفيما يلي سأتطرّق إلى الأرشيفات/ الصور التي نُهبت من مصوّرين/ مصادر فلسطينيّة وهي موجودة في الأرشيفات العسكريّة في إسرائيل. وتتألف مجموعات المصوّرين الفلسطينيّين التي نُهبت على ما يبدو (بعضها موجود بأيدٍ خاصّة وبعضها ضاع)، من مجموعات حنّا صفيّة (نحو 4500  نيچاتيف نُهبت من استوديو المصوّر عام 1967 ولم يُعثر عليها لليوم)، ومجموعة خليل رعد (نُهب جزء من الأرشيف ونجا الجزء الثاني بفضل فطنة العائلة ونُقل إلى مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة ( Institute for Palestine Studies ) في بيروت في عام 1948)، ومجموعة هرنات ناقشيان  (Hrnat Nakashian)(صور التقطها في يافا بين 1945 -1948 ولم يُعثر عليها) (سيلع 2000 ، سيلع 2010).

وقد نُهب أيضًا أرشيف كريمة عبّود في حرب 1948 ، وهو محتجز لدى جامع فنون إسرائيليّ مستقلّ. وهناك أرشيفات مختلفة، نُبت على الأغلب، موجودة في أرشيفات مدنيّة إسرائيليّة، كما سبق أن أسلفت أعلاه، مثل المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة في القدس (سيلع 2012، يُنظر إلى التصويرتيْن 3- 4 أعلاه). وفي أرشيف الپَلماح كذلك أغراض نُبت من عبد القادر الحسينيّ، الأمر الذي يُستدلّ عليه من سجلّات الأرشيف. أحد هذه الأغراض هو “المصحف الذي وُجد على جثة قائد القوات العربيّة” (موجود في بيت عوزي نركيس)، رقم الصورة 601؛ الثاني، “آيات من القرآن وُجدت في جيب القائد عبد القادر الحسيني، رقم الصورة 9815، وردت من: عوزي نركيس: القدس؛ والغرض الثالث هو صورة بورتريه للحسيني وقد وُجدت الصورة في جيبه، رقم الصورة 9817، ووردت من: عوزي نركيس: القدس، التصويرة رقم 39  في الجزء الكَتالوچيّ. ويصف أوري ميلشطاين، بالتفصيل، عمليات النهب في منطقة القدس، وكيف “حمّلوا على الشاحنات بيانوهات وأريكات ذهبية وبوردو”، وكيف أُخذت من بيوت العرب أيضًا “الثلاجات والأقراص الدوّارة  (بيتيفونات) والسجاجيد الفارسيّة” وكيف “أتلفوا أعمالً فنيّة في الأديرة والكنائس” وكيف عُيّ چبريئيل (چابروش) راپاپورط “ضابطَ كتيبة للمشتريات” (النهب). “وقد أفرغت شاحنتيْن من البيانوهات والسجاجيد، وقالوا لي إنّ هذا مُعدّ للجرحى. أحضرنا الغنائم إلى كريات عنابيم ومن هناك إلى صرفند. وقد علمت أنّ جزءًا من الممتلكات المنهوبة وصل إلى عين حارود. وبعد الحرب سمعت أنّ أفرادًا أخذوا الممتلكات لأنفسهم”. وقال ضباط لواء هرئيل إنّ الممتلكات المنهوبة “التي أُخذت من العرب في القطمون زيّنت لسنواتٍ غرف الثقافة في الكيبوتسات، لكنّ الجميع التزم الصمت”. وقد أضافوا بأنّ “قائدًا رفيعًا في اللواء والذي كان فيما مضى برتبة جنرال في الجيش، أثّث صالون بيته بأفضل الأغراض التي نهبها من القطمون. والحديث عن عوزي نركيس، نائب قائد الكتيبة الرابعة (ملشطاين 2005). وهناك تصاوير أخرى من أرشيف الپَلماح وصلت هي الأخرى، على ما يبدو، في ملابسات مشابهة للنهب أو لجمع معلومات استخباراتيّة. وقد نُقلت صورة القاوقجي (التصويرة رقم  30 في الجزء الكَتالوچيّ) على يد موطكه بن تسور، الذي كان رجل استخبارات، وتصاوير أخرى نقلها جنود/ مدنيّون آخرون إلى أرشيف الهَچَناه. فعلى سبيل المثال، نقل ريئوبيني مئير الذي لم أستطع الوصول إليه، إلى الأرشيف نحو  15 صورة صُنّفت على أنّها “أفراد عصابات عربيّة” أو “أضرار سبّبها العرب” (يُنظر مثلً إلى التصويرة رقم 34 في الجزء الكَتالوچيّ).

بنهب مجموعات الصور

أفوتو رصاص- لمجموعة رصاص أهميّة لديّ كونها أول مجموعة صور فلسطينيّة منهوبة كشفتُ عنها في الأرشيفات الإسرائيليّة، ونشرت عنها في كتاب التصوير في فلسطين (سيلع 2000 ، ١٧٤- ١٧٥)، وهي المجموعة التي فتحت عينيّ على نهب الثروات الفلسطينيّة. وبعدها، بحثت عن موادّ في أرشيفات أخرى، ووجدت الكثير منها التي أخذت بالقوّة من مصوّرين أو جهات أو من أشخاص عاديّين (سيلع 2009)، وبمساعدة هذا الكُلّ نجحت في وضع تخطيط لتسلسل عمليات النهب والغَنْم. الصورة الأولى التي عثرت عليها في أرشيف الجيش الإسرائيليّ والتي كان من الممكن الاستدلال بواسطتها على النهب، كانت صورة من أرشيف الهَچَناه الذي يبدو فيها استوديو رصاص، وقد حملت- كما تقدّم-  النصّ: “الدكان التي “سُحبت” فيها هذه الصور واُلتقطت” (المصدر السابق، التصويرة رقم 41). وفي أعقاب ذلك بدأت بالبحث واكتشفت أنّ ثمة مجموعة كبيرة في أرشيف الهَچَناه من صور رصاص (2000). وبعد سنتيْن رُفع التقييد عن صور أخرى لرصاص في أرشيف الجيش الإسرائيليّ. ورغم مميزات التصوير التي تسمح باستنساخها ونشرها بلا حدود، فإنّنا لم نجد، ولا نعرف عن وجود نسخ إضافيّة في أرجاء العالم لصور رصاص. وعليه، فإنّ أعماله قد آلت إلى النسيان.

ستوديو رصاص

خليل رصاص، “الدكّان الذي (سُحبت) وصُوّرت فيه هذه الصور”، أرشيف “الهَچَناه” .سُلبت الصورة من أستوديو المصوّر مع أرشيفه. تُنشر الصورة بلطف من عائلة رصاص.

 

وُلد خليل رصاص[2] في القدس عام  1926 (التصويرتان رقم 41 أ و 41 ب)، لأب مصوّر، وهو إبراهيم رصاص (1900 – 1970،  التصويرة رقم 42). كان إبراهيم عصاميًّا ويملك دكانًا للتصوير في مأمن الله (ماميلا) اسمه “فوتو رصاص” (التصويرة 41 أعلاه والتصاوير 43 و 44). كان الدكان قائمً بجوار باب الخليل، وكانت هذه المنطقة مركزًا للكثير من محلات التصوير، من بينها رعد وكريكوريان وسويدس (وفي باب الخليل نفسه لمصورين مثل الأميركان كولوني)، لتشكّل هذه المنطقة مركزًا مهماً في توثيق التاريخ الفلسطينيّ (التصويرة رقم 45). تعلم خليل رصاص- وأخوه الصغير من بعده، وهيب- التصوير من والدهما. ويحمل ختم الاستوديو اسم الأب إبراهيم. وكان خليل قد بدأ التصوير وهو في سنّ الثامنة عشرة، أي في منتصف سنوات الأربعين من القرن العشرين. بعد عام1948، حين أصبحت المنطقة مشاعًا وفوضى، وأصبحت كل الكنوز الثقافيّة التي ظلّت في الأستوديوهات مشاعًا هي الأخرى، فتح رصاص الأب والابن دكانًا في باب العمود (دمشق).

تحتفظ أرشيفات الجيش العسكريّة في إسرائيل بأعمال رصاص التصويريّة، ونحن ننشر بعضًا منها هنا، بحيث أنّ تحليل هذه الصور يشير إلى أنّه رافق القوى المقاتلة المختلفة في منطقة القدس وفي القدس ذاتها، ووثّق النضال والثورة الفلسطينيّتيْ. وقد خرج إلى جبهة النضال العسكريّ، وإلى مناطق بالغة الخطورة ووثّق المعارك والقتال. وفيما كان والده- وفق شهادة وهيب- مصوّر استوديو بالأساس وصاحب دكّان للتصوير انشغل في تصوير الناس وتفتيح الأفلام وطبع الصور، كان ابنه البكر خليل- وفقما تشير الصور- يمارس الجانب النشط من التوثيق. كان خليل شابًا وشجاعًا وانضمّ إلى القوات الفلسطينيّة التي كانت تقاتل في الجبال وفي مناطق صعبة لخوض المعارك، وحتى أنّه شوهد وهو يرافق قوات عبد القادر الحسينيّ. وحتى عام 1956 ، التقط خليل الصور في منطقة القدس، وبالأساس لصالح وكالة الأنباء Associated Press  ولصالح جريدة “الهلال” المصريّة، وتركّز في تصوير الوقائع والأخبار. وبعدها سافر إلى المملكة السعوديّة وعمل هناك مصوّرًا. عاد إلى القدس عام 1967 وفتح دكّانًا للتصوير في شارع الزهراء (المنطقة التي احتوت الكثير من محالّ التصوير وقتها). فاز استوديو رصاص بعطاء تصوير السيّاح في المسجد الأقصى ابتداءً من عام1959. في البداية كان إبراهيم من يلتقط الصور هناك، ثمّ استبدله خليل ومن بعده وهيب. توفي خليل رصاص عام 1974 وتوفي وهيب عام 2010.

في منتصف سنوات الأربعين، حين بدأ خليل رصاص نشاطه، كان هناك مصوّر آخر قد بدأ بتوثيق النضال العربيّ وهو علي زعرور. إلّا أنّ زعرور (فلسطينيّ من مواليد العيزريّة، 1901، وسأتطرّق إليه لاحقًا)، الذي كان في منتصف أربعينياته، ووفقًا للأعمال التي خلّفها، تركّز في توثيق المعركة على البلدة القديمة في القدس وجوارها، بين كانون الأول 1947 وكانون الأول 1948، وقد انضمّ إلى الفيلق العربي (الأردنيّ)، وصوّر بالأساس نتائج الحرب التي عاشها الفلسطينيّون إبان الحرب على البلدة القديمة: القتلى والدمار والأسرى واللاجئون والطقوس والمداولات حول اتفاقية وقف إطلاق النار.

ما يميّز أعمال زعرور أنّا أتاحت المجال– أوّل مرة- لمشاهدة توثيق للمعركة التي دارت على البلدة القديمة في القدس (وخصوصًا حول حارة اليهود) إبّان حرب 1948، من وجهة النظر العربيّة والفلسطينيّة. أمّا خصوصيّة أعمال رصاص فتتمثّل في أنّها لا تكتفي بتسجيل المعارك في داخل القدس، بل تفعل ذلك في الجبال المجاورة والمناطق الأبعد عن المدينة، أيضًا. وقد رافق المقاتلين الفلسطينيّين والقيادة الفلسطينيّة وصوّر بالأساس معارك السكّان المحليّين في القدس ومحيطها البعيد، ووفّر تمثيلً واسع النطاق للمقاومة الفلسطينيّة العسكريّة.

עמדה בחומות

رصاص، 1948. من كتاب التصوير في فلسطين وأرض إسرائيل في سنوات الثلاثين والأربعين (سيلع 2000). 

 

 

 

يهمّنا أن نقول إنّ أعمال رصاص وزعرور شكّلت تغييرًا مهماً في التصوير الفلسطينيّ. وحتى منتصف سنوات الأربعين، تركّزت غالبيّة التصوير الفلسطينيّ في توثيق المُعاش الفلسطينيّ اليوميّ: تصوير استوديو، تصوير عائلات، تصوير بورتريهات، تصوير تجاريّ، تصوير توثيقيّ للبلد بمناطقها وسكّانها، تصوير المناظر الطبيعيّة (الجغرافيا والناس في الطبيعة)، أو التصوير لصالح وكالات أنباء أجنبيّة ومحليّة (سيلع 2000 ، ١٦٣- ١٧٧). وعمومًا، يمكننا القول إنّ بدايات التصوير الفلسطينيّ تشكّلت مع أعمال خليل رعد عام 1891 في القدس، وبعدها بسنة مع بدايات أعمال داود صابونجي في يافا. وقد تجوّل رعد في فلسطين وأرجاء الشرق الأوسط والتقط صورًا لمواضيع شتّى، غالبيتها مخصّصة للمُعاش الفلسطينيّ (وقلّة منها للشرق الأوسط ولحياة اليهود): الحياة اليوميّة، صور العائلات والمناسبات، حفلات زفاف، أولاد وغيرها، بورتريهات، مناظر، صناعة وزراعة. وعلى حدّ علمنا، كان مصوّر الأركيولوجيا الأول (المصدر السابق، سيلع 2010). في سنوات العشرين نشأ جيل جديد من المصوّرين مثل كريمة عبّود، وهي المصوّرة الفلسطينيّة الأولى، وفاضل سابا وحنا صفيّة وإبراهيم رصاص، الذين واصلوا تصوير الحياة اليوميّة في فلسطين، وتركّزوا هم أيضًا في تصوير الاستوديو، والتصوير الخارجيّ وبعض المناسبات. من بينها مثلً المسيرات الوطنيّة، والمناظر، والأبعاد العائليّة واليوميّة والتجاريّة (المصدر السابق). وفي كانون الأول 1944 أسّس عدّة مصوّرين- من بينهم إبراهيم رصاص- نقابة المصوّرين العرب في القدس ومحيطها (Union of Arab Photographers of Jerusalem and Vicinity) بهدف “حماية مصالح المصوّرين وتحسين ظروف عملهم”.[3] وكان إبراهيم رصاص واحدًا من أعضاء الهيئة الإداريّة، ونحن نعرف أنّ هذه النقابة نشطت لعامينْ على الاقلّ.

وعشيّة أواخر سنوات الأربعين، وخصوصًا مع تعاظم الصراع وصولً إلى 1948، طرأ تغيير مهم وكبير على مواضيع التصوير الفلسطينيّ. فمصوّرون مثل علي زعرور وهرنات ناقشيان (الأرمنيّ، سيلع 2000) ورصاص، تركّزوا في توثيق الصراع على أبعاده المختلفة، وخصوصًا الثورة والمقاومة العسكريّة ونتائج الحرب كما عاشها السكّان الفلسطينيّون (الدمار والقتلى واللجوء وما شابه). نحن نرى أنّ هذا التغيير في طابع التصوير الفلسطينيّ أمر مهم، لأنّ الثورات السابقة (1921، 1929، 1933، 1936) حظيت بتوثيق طفيف من المصوّرين الفلسطينيّين ومن طرف جهات رسميّة فلسطينيّة (يُنظر إلى كتيّب ساروف المذكور أعلاه، والصادر في طبعة خاصّة). وحتى لو أنّ هؤلاء المصوّرين نشطوا بشكل مستقلّ وغير منظّم، فإنّ أعمالهم كانت من الأعمال الأولى التي عبّت عن النضال من المنظور الفلسطينيّ أيضًا. وقد تنامى هذا الوعي بموازاة بدايات الفوتوجورناليزم (التصوير الصحافيّ) الفلسطينيّ، بمعيّة تطوّر التصوير الصحافيّ في أرجاء العالم. وكان رصاص وزعرور شخصيْن صاخببن وشجاعين وفضوليين، ولم يخشيا الحرب والتقاط الصور في المناطق القتاليّة. وقد اختارا الكاميرا سلاحًا لهما، ووثّقا المعركة التي خاضتها الأمّة الفلسطينيّة بمساعدة الدول العربيّة المجاورة.

ب١. فوتو رصاص والإدارة الكولونياليّة

توجد في الأرشيفات العسكريّة مجموعتا أعمال كبيرتان لفوتو رصاص، ومجموعة أخرى صغيرة لصور التقطت في النصف الثاني من سنوات الأربعين. من المرجّح أنّ خليل التقط غالبية هذه الصور، مع أنّ من الممكن أنّ إبراهيم التقط صورًا لمدينة القدس، أيضًا.

مجموعة الصور الأولى التي وجدتها في أرشيف الهَچَناه نهبها من استوديو المصوّر ضابط في الجيش الإسرائيليّ اسمه عاموس فرايمن، لدوافع شخصيّة وليس لأهداف استخباراتيّة-عسكريّة. وهذا الأب العائد من المعارك أعطى الصور هديّة لابنه.[4] وقد عرضتُ هذه المجموعة عام 2000  (سيلع 2000 ، ١٦٣- ١٧٦). ومع أنّ هذه التصاوير لم تُنتج في المنظومات الإسرائيليّة، إلّا أنّها خضعت للإخفاء والمحو لخمسة عقود. صحيح أنّ الكتالوج يذكر اسم المصوّر، إلّا أنّه يُلطّف-كما تقدّم- عملية النهب (صورة “وُجد في فوتو رصاص”، التصويرة رقم 46). والصور الموجودة في سجلّات الأرشيف دُمغت بملكية الأرشيف بواسطة ختم، وكُتب بخط اليد أيضًا أنّ الحقوق على هذه الصور تعود إلى الأرشيف.

وهذا يدلّنا على أنّ الصور خاضعة ل”نظام الحقيقة” (A regime of truth)، وهو عريف يتبنّاه جون تاچ من فوكو، يقول إنّ التصوير (ومجالات أخرى) خاضع للسيطرة المؤسّساتيّة من خلال ممارسة القوة وتنظيم المعرفة  (regimentation) (Tagg 1988,3). بمعنى: أنّها تخضع للقانون الإسرائيليّ وموجودة في أرشيف الاحتلال. صور رصاص الموجودة في أرشيف الهَچَناه اُلتقطت في القدس، وفي مناطق بعيدة عنها أيضًا، والكثير منها لمقاتلين في الجبال في محيط القدس، ولعبد القادر الحسينيّ.

مجموعة الصّور الثانية موجودة في أرشيف الجيش الإسرائيليّ، وفُتحت كما أسلفنا عام 2002 ، ويُعرّفها الأرشيف على أنّها “غنائم” (باستثناء التصويرة رقم  112  في الجزء الكَتالوچيّ). لذلك نحن لسنا متأكدين من وصولها إلى الأرشيف من المصدر ذاته، الجنديّ الذي نهب الصور من استوديو المصوّر، أم من مصدر آخر. في عام 2002 سمح المستشار القانونيّ لوزارة الدفاع الإسرائيليّة باستخدام هذه الصور. وتشير سجلّات ووثائق الأرشيف إلى أنّ هذه الصور نجت من الحرق عام 1967، وهي حقيقة تدلّنا على إتلاف صور/ موادّ أخرى في ذلك الوقت.

وقد التقطت غالبية صور فوتو رصاص الموجودة في أرشيف الجيش الإسرائيليّ، في داخل القدس.

عدد آخر من صور رصاص مصنّف في أرشيف الجيش الإسرائيليّ على أنّها “وُجدت لدى أسير عربيّ”.[5] كان موشيه ريشكس ضابط صفّ في الپَلماح.[6] وهو يقول إنّه أخذ عدّة صور من جيب قتيل عربيّ في “باب الواد” مطلع أيار 1948 (يُنظر مثلً إلى التصويرة رقم 24 في الجزء الكَتالوچيّ).[7] وتصف الصور، التي نقل نسخًا منها إلى أرشيف الهَچَناه، القتلى والجرحى، إلى جانب المظاهرات وأعمال الشغب في القدس: “كنت ضابط صفّ وبحثنا عن معلومات استخباراتيّة في جيوب القتلى”، قال لي ريشكس. “ويبدو أنّ الجنديّ تباهى بها (بالصور، ر.س.). ولذلك حملها في جيبه”. “هل استخدمتم هذه الصور؟”، سألته:”اعتقدنا أنّ هؤلاء قتلى يهود وأنّ العرب ينشرون هذه الصور لإخافتنا”.

وفي سيرته الذاتية التي نشرها ريشكس يصف عملية النهب من الميت:

“هو انحنى (جنديّ آخر كان مع ريشكس- ر.س.) فوق رأس الميت ورفع الجزء العلويّ من جسمه للأعلى قعودًا. انحنيت أنا أيضًا وأمسكت برجليْه اللتين كانتا مفتوحتيْ، ضممتهما معًا وسحبتهما بقوة إلى الأعلى… ركضنا بسرعة، فيما كانت حمولتنا تتأرجح… لقد كانت (الجثة) تنزلق من يديّ نحو الأسفل؛ وأنا كنت أصارع بكلّ قوتي لإعادة رفعها إلى الأعلى… لقد أثارت جثة الميت اشمئزازي، وكنت أتقزّز وعلى وشك التقيؤ. أدخلت الجثة (إلى مخزن الثكنة…كان رأس الميت مائلً قليلً إلى الجانب وملقيًا إلى الخلف، وكأنّه مربوط إلى ثقّالة خفيّة… انحنينا وبدأنا نبحث في جيوب الوزرة المبللة بالدماء… وقد أثار الدم الذي التصق بأصابعي اشمئزازي. مددت يدي نحو بنطال القتيل وبدأت بمسح أصابعي به”  (ريشكس 1962، 107-105).

وتحمل غالبية الصور ختم رصاص.

أرسل ابن الضابط مجموعة الصور الأولى من أرشيف الهَچَناه إلى الجريدة العسكريّة الإسرائيليّة، بَمَحنيه، بعد نهبها بقليل. وبعد الحرب توجّهت الجريدة بدعوة إلى المواطنين الإسرائيليّين، عبر محطة الجيش الإسرائيليّ “چاليه تْساهل”، بإرسال صور من الحرب إليها. وقد نُشرت في عدديْن متعاقبيْ في حزيران 1949 تحت عنوان: “صور وخبايا بعدسات عربيّة” (“صور وقعت في الأسر”)(بَمَحنيه 40، 2.6.1949، وبمحنيه 41، 9.6.1949). ويشير استخدام كلمة “خبايا” إلى أنّ هذه الصور كانت مخفيّة. ومن المثير للاهتمام قراءة النصّ ووصف الصور في الصحافة الإسرائيليّة. فأولً، ما الذي يعنيه تعبير “صور وقعت في الأسر”؟ هل مصطلح “الأسر” يمنح شرعية للنهب؟ ثانيًا، الخطاب الذي استخدمته الجريدة لوصف الصّور هو خطاب المحتلّ، الذي يغيّر معانيها الأصليّة الفلسطينيّة، ويشحنها بمضامين مخالفة لجوهرها وماهيتها. تحت الصورة التي تصف فلسطينيّين يقفون على خرائب بيت آخر كُتب: “في عمليّة توغّل شجاعة لخلية الهَچَناه إلى منطقة عربيّة، فُجّر وانهار على رؤوس ساكنيه- رؤساء العصابات ومُنظّميها- فندق سميراميس الشهير. العرب يقفون حائرين ومهزومين على تلّ الخراب (بمَحنيه 41). وتورد توصيفات الصور شروحات للعمليّات “الشجاعة” التي قامت بها قوّات الهَچَناه اليهوديّة، فيما يُوصف المقاتلون الفلسطينيّون والعرب ب”العصابات”. ويصفهم التقرير كذلك في لحظات الحضيض، يقفون “حائرين ومهزومين… على تلّ الخراب”. من الواضح أنّ رصاص لم يلتقط هذه الصّور من أجل الترويج للرواية الإسرائيليّة، وأنّ الجريدة تُغيّر معانيها ومضامينها كي تلائم الرواية الإسرائيليّة.

קאוקג'י-1936

مصوّر غير معروف، فوزي القاوقجي، 25.5.1948. “تمّ تلقّيها من: موتكا بن تسور”، أرشيف “البلماح”. 

 

 

 

ونرى أنّ التقرير “في الطريق إلى الاستقلال، حرب القدس، صور من الجانب العربيّ” (بمَحنيه 37، 10.5.1951) يستخدم هو الآخر صور رصاص التي نُهبت/ غُنمت. ورغم أنّ ختم المصوّر يظهر على الجهة الخلفيّة للصور، إلّا أنّ التقرير لا يشير إلى اسم المصوّر ويشطب دوره فيها. زدْ على ذلك أنّ الصور أُخضِعت هنا أيضًا إلى توصيفات الرواية الإسرائيليّة من خلال قلب معانيها الأصليّة. وفي السنوات الأولى على وجود إذاعة “چاليه تْساهل” بُثّتْ زاوية باسم “غدًا في بَمَحنيه”، وهناك استعرضوا العدد الذي من المفترض أن يُنشر في الغداة، إلى جانب الردود والتعليقات على الأعداد السابقة. وفي بثٍّ يومَ 16.5.1951 دعا المراسل الجمهورَ إلى مواصلة إرسال الصور من الألبومات الشخصيّة: “مؤخرًا، وبعد استراحة، تعود بَمَحنيه إلى نشر زاوية “تلك الأيّام”، وهي الزاوية ذاتها التي تُنشر فيها الصور التي يرسلها القراء إلى الجريدة، وهي صور تعيدنا من مرّة إلى أخرى إلى ذكريات قديمة- طازجة، لفترة النضال على استقلالنا، ونضال السلاح العبريّ والقوّة العبريّة المستقلّة، وذكريات بدايات حرب التحرير” (نصّ البثّ، أرشيف الجيش الإسرائيليّ والجهاز الأمنيّ 553\54، 154). ويجسّد التقرير أيضًا كيف قامت جهات مؤسّساتيّة وإعلاميّة، وصُنّاع السياسات، بمحو مسألة النهب وطمسها: “لدى الكثير منّا ذكريات مخبّأة، وهذه الذكريات موجودة بين صفحات الألبومات وفي الأدراج والمغلّفات، وبين أكوام الأوراق، وفي جيب المعطف أو في دفتر الملاحظات”. ويطمس التقرير التاريخ الأصلانيّ من خلال استخدام الخطاب الصهيونيّ: “استقلالنا”، “السلاح العبريّ” ، “قوّة عبريّة مستقلّة” و “تحرير”. ومع أنّ هذه الصور اُستخدمت في الأصل لتوصيف البطولات الفلسطينيّة وقوّة نضالها، إلّا أنّ النشر الإسرائيليّ لم يُبقِ على أيّ ذكر لهذه البطولات، بل شُحنت بسياق ومعانٍ جديدة. على خلاف ذلك، استخدمت جريدة “المصوّر” التي صدرت في شباط-آذار 1948  صورًا لعدّة مصوّرين، منهم رصاص، لوصف المقاومة الفلسطينيّة. ونشرت الجريدة تقريرًا مصوّرًا يصف المقاومة الفلسطينيّة في صفد وطولكرم ونابلس، من وجهة نظر متعاطفة.

وأفردت الجريدة مساحةً لتوصيف أفعال القاوقجي ومقاتليه ضدّ البريطانيّين وضدّ اليهود منذ 1936. وفي التقرير عدّة صور لرصاص توثّق مخلّفات الهدم في بيوت يهوديّة في شارع بن يهودا في القدس، إلى جانب صور لمصوّرين آخرين أثناء النشاطات الميدانيّة والتدريبات. وتحظى الصور بأهميّة كبيرة في التقرير وهي تُعظّم هالة المقاتلين وأفعالهم.

ب٢. مصوّرون مجهولون

ثمّة صور أخرى تصف المقاومة الفلسطينيّة: في التدريبات وفي المهام، وصور البورتريهات، ونتائج الدمار في الصراع، وغيرها، وهي موجودة في الأرشيفات الإسرائيليّة. وتوثق الصور مناطق مختلفة في البلاد: القدس ويافا ورام الله وقلقيلية واللد، وقد اُلتقطت بين السنوات 1933 – 1948، ونحن لا نعرف أسماء مُصوّريها.

وتوجد أيضًا صور لمُصوّرين معروفين من يافا، مثل ستوديو الحمراء، وستوديو فينوس (للمصور ناقشيان) و Photo Chamakian. كلّ هذه الصور تُتيح لنا المجال للتأمل البصريّ في نطاق وحجم المقاومة الفلسطينيّة، وفي الحياة الفلسطينيّة قبل 1948 وفي بدايات التصوير الصحافيّ الفلسطينيّ. وما يثير الاهتمام بشكل خاص تلك اللحظات التي بدأت فيها ترجمة الوعي الفلسطينيّ إلى عمل فعليّ في مجال التوثيق والعلاقات العامّة، وبدء المصوّرين الفلسطينيّين بإدراك قوّة الكاميرا في الإعلام الجماهيريّ، وفي خلق وعي والتجنّد لصالح الفكرة الفلسطينيّة (سيلع 2000). وبما أنّ جنودًا يهوداً قاموا بغنم ونهب الكثير من أرشيفات التصوير، فإنّ بدايات المقاومة الفلسطينيّة، التي تتزامن كما تقدّم مع بدايات التصوير الصحافيّ، موجودة بالذات، وبشكل واسع، في الأرشيفات التي ترمز أكثر من غيرها للاحتلال.

مثال آخر نجده في ألبوم صور من نهاية الفترة العثمانيّة وخلال الحرب العالميّة الأولى، يصف الحرب من الزاوية التركيّة. وقد نهب جنديّ إسرائيلي كان يخدم في الخدمات الإخباريّة الألبومَ من بيت عائلة نشاشيبي، بعد معركة القطمون.[8]

كان ذلك الجنديّ هو شراچا پيلد الذي ذكرته أعلاه، وحتى أنّه أطلعني على إذن الدخول “الدائم”  إلى المنطقة المحتلّة، والذي حصل عليه من الحاكم العسكريّ جنوبيّ القدس، لغايات “إدخال وإخراج الأغراض والمستلزمات” (الملحق رقم 6). ورغم أنّنا نعرف هوية الجنديّ، إلّا أنّ موقع الأرشيف على الانترنت يكتب: “أحضره جنديّ مجهول”. الألبوم غاية في الجمال، وهو يحوي صورًا بجودة عالية، غالبيتها لمُصوّري الحيّ الأميركيّ الذي سكنه في تلك الفترة أميركيّون عملوا لصالح الحكومة التركيّة (Gruödahl 2005, 218) وتصف الصور مناظر مهمة في تاريخ البلد في فترة الحرب العالميّة الأولى، وبلدات سكنها فلسطينيّون قبل الحرب: بئر السبع والقدس والعريش وغزة. ويبدو أنّ أحد أفراد عائلة النشاشيبي اقتنى الألبوم من الأميركان كولوني. وبعد نهبه نقله الجنديّ  (“تبرّع به”) إلى الأرشيف بعد فترة قصيرة على انتهاء حرب 1948.

ج. علي زعرور والإدارة الكولونياليّة

قُمت في السابق بعرض أعمال المصوّر الفلسطينيّ علي زعرور (1901-1972) في معرض وفي كتاب التصوير في فلسطين (سيلع 2000)، وكانت هذه المرة الأولى التي تُنشر في كتاب. وقد اطّلعت على أعماله أوّل مرة قبل ذلك بعام، حين عرضها عامي شطاينتس في معرض (1999) وفي مقالة (2000) “حيز من المسافات”.[9] وفي أعقاب ذلك التقيت بزكي زعرور، ابن علي زعرور، ورأيت النيچاتيڤات الأصليّة والصور المطبوعة التي تملكها العائلة والتي اُلتقطت حول حرب 1948 في القدس، وبحثتُ أعماله. بعد ذلك بسبع سنوات، اكتشفت في أرشيف الجيش الإسرائيليّ نحو 400 صورة أصليّة لزعزور، مرتّبة في أربعة ألبومات فخمة صُوّرت أثناء الحرب.

وقد خضعت هذه الصور للرقابة في الأرشيف مع وصولها، ولم يُرفع التقييد عنها إلّا عام 2002 (هي ومجموعة كبيرة من الصور الأخرى من حرب 1948، كما تقدّم أعلاه). وقال لي زكي زعرور إنّ الألبومات كانت مرتّبة في الأصل في ألبوم واحد سميك، كان يحوي أفضل أعمال زعرور من الحرب، وكان بحيازة عائلة المصوّر حتى عام 1967. وبعدها وصل هذا الألبوم، كما نورد هنا، إلى جهة إسرائيليّة مدنيّة، نقلته إلى أرشيف الجيش الإسرائيليّ. وقد وُزّع الألبوم السميك على أربعة ألبومات أصغر وأعاد أرشيف الجيش الإسرائيليّ توضيبه وتحريره.

ينحدر أصل عائلة علي زعرور (التصويرة رقم 47أ)[10] من قرية العيزريّة (التصويرة رقم 47 ب)، وهو ابن لعائلة فلّاحين ورُعاة. لم يكن يحبّ الحياة في القرية وانتقل إلى القدس ليعيش فيها حياة مدنيّة. وفي القدس التقى المصوّر حنانيا وتعلّم منه أصول التصوير الفوتوغرافيّ. كان استوديو حنانيا، الذي لا نعرف عنه إلّا النزر اليسير، قائمً عند باب الخليل خارج السور، وهي منطقة تركّزت فيها-كما أسلفنا- محال كثيرة للمصوّرين غير اليهود (يُنظر إلى التصويرة رقم 45 أعلاه)، وكان مركزًا للتوثيق البصريّ الفلسطينيّ. ومن المرجّح أنّ زعرور تأثّر بذلك.

بين الأعوام 1936 – 1942 التقط علي زعرور الصور لصالح البريطانيّين في منطقة القدس، وبين الأعوام 1942 – 1945 في منطقة غزّة. ويقول زعرور إنّه بعد وفاة حنانيا عام 1944، حصل على الدكان من أرملته لأنّ الزوجيْ لم يُنجبا الأولاد.[11] وبدأ علي زعرور العمل لصالح وكالة الأنباء Associated Press ولصالح الفيلق العربي (الأردني) قرابة عام 1947< وقد كان مصوّر الجيش الأردنيّ في زمن ولاية الملك عبد الله، الأمر الذي مكّنه من التنقّل والتصوير بحريّة.[12] وبعد  1948 نقل زعرور محلّ التصوير إلى داخل البلدة القديمة، وما زال موجودًا لليوم ويديره أحفاده. وبدأ علي زعرور بتصوير السيّاح في كنيسة المهد بعد عام  1956، الأمر الذي واصله ابنه وأحفاده.[13] وبعد احتلال الجيش الإسرائيليّ للبلدة القديمة عام 1967، واصل زعرور العمل لصالح وكالة الأنباء [14]AP وفي التصوير السياحيّ. وتوفي علي زعرور يوم 1 نيسان 1972.

צלחה

مصوّر غير معروف، رجال النجّادة من قرية صالحة، بين نهاية 1947 وبداية 1948. أُخذت الصورة كغنيمة من مكتب رشيد الحاجّ إبراهيم “ملفّات العرب في إسرائيل حتّى نَيْسان 1948″، أرشيف الجيش الإسرائيليّ. عُرضت الصورة للعِيان في تشرين الثاني 2002، بالخضوع إلى رأي المستشار القانونيّ للأرشيف “السماح باستخدام موادّ غنيمة”. 

 

 

 

ج١. الألبومات

في عام 2007 أجريت بحوثًا على ملفات في أرشيف الجيش والجهاز الأمنيّ، كانت مصنّفة تحمل عنوان “القدس”،  ومُصنّفة بأنّها “مصادر عربيّة”. وقد تبيّنتُ بعد فحص الصور بدقّة بأنّ هذه نسخ مكرّرة للصور الأصليّة، وتعرّفت ببعضها بكل تأكيد على أنّا صور لزعرور سبق أن عرضتُها أو رأيتها قبل ذلك بسنوات (2000).

وفي أعقاب ذلك توجّهتُ إلى مديرة أرشيف التصوير وطلبت فحص ما إذا كانت الصور الأصليّة، التي أُعدّت لها النسخ، موجودة في الأرشيف كما كنتُ أفترض.

وبعد عمليّة طويلة ومعقّدة من الاستجوابات والطلبات المتكرّرة، “عُثر” على صندوق يعلوه الغبار وعليه عنوان مُلصق باسم “أورشليم”. وجدت في داخل الصندوق أربعة ألبومات بتجليد يدويّ وفي داخلها الصور الأصليّة لعلي زعرور.[15] كانت الصور بقياس 13×8 سم، وحملت ختم زعرور، وطابقت بشكل كبير النيچاتيڤات الموجودة لدى زكي زعرور. ويبدو أنّ الألبومات التي في الأرشيف قد أعيد توضيبها على يد الموظّفين هناك، وأعيد ترقيمها بعد محو اسم المصوّر، واُستخدمت لوصف الرواية الإسرائيليّة للحرب التي دارت في القدس.[16] ويدلّنا فحص الألبومات على أنّها نُقلت إلى معاينة/ فحص الجنود اليهود الذين حاربوا عام 1948 في البلدة القديمة، كي يقوموا بفحصها وتثبيت تفاصيل مُكمّلة للموجودة. وقد فُحصت الألبومات، على ما يبدو، لأنّها تصف المعركة في حارة اليهود. وفي أعقاب ذلك كتب الجنود (أو موظفو الأرشيف أيضًا) على الصور معلوماتٍ بالعبريّة، وألصقوا وريقات على الصور أو أجروْا تعديلات على قائمة بخط اليد كانت مرفقة بالصور. الجنود الذين سجّلوا الملاحظات وقّعوا بأسمائهم بجانب الملاحظات.[17] وبذلك صارت هذه الصور رمزًا لاستكمال عملية احتلالها. ومن خلال تجربتي، فإنّ حقيقة قيام الأرشيف بالبحث في هذه الصور ليست أمرًا شائعًا. فالأرشيف الإسرائيليّ -عمومًا- لا يجري أبحاثًا على المواد الفلسطينيّة ولا يهتمّ بفحص السياق الذي التقطت فيه.

ويهمّنا هنا القول إنّ اهتمام الأرشيف بها كان اهتمامًا صهيونيًّا تمامًا، وأيّ معلومات أخرى، مثل هوية المصوّر وسياق التصوير والمدارك والمعتقدات التي سعت الصور لعكسها، وغيرها، لم تُبحث وشطبها الأرشيف. فعلى سبيل المثال، حقيقة وجود أختام على الجهة الخلفية للصور لم تدفع موظفي الأرشيف إلى ذكر اسم المصوّر في كتالوج الأرشيف. زدْ على ذلك أنّ النقش العبريّ بواسطة قلم الحبر على الصور الفلسطينيّة[18] هو أكثر من فعل رمزيّ، وأنّ الخطاب الصهيونيّ الذي أُخضِعت له هذه الصور يشير، ثانية، إلى كيفيّة إخفاء التاريخ الأصليّ واستبداله بتاريخ المحتلّ (Sela 2017). صحيح أنّ زعرور حضّر قائمة كتالوجيّة لأعماله، إلّا أنّ جزءًا صغيرًا منها بقي وصمد أو اُستخدم في أرشيف المحتلّ. ويبدو عنوان “أورشليم” الذي وُضع في داخل الصندوق الجديد، وكأنّه مأخوذ من ألبوم قديم.[19]

ويشير فحص كتاب أرشيف الجيش الإسرائيليّ إلى ورود الألبومات في نيسان 1977  كتبرّع من “صندوق أورشليم”. وقد نقل الصندوق إلى الأرشيف في ذلك الوقت صورًا أخرى لفلسطينيّين، مثل الصدامات القوميّة في يافا عام 1933. وكان أحد أفراد عائلة زعرور أعطاها هديّة إلى تيدي كوليك، رئيس بلدية القدس الغربيّة وقتها، وقام هو بدوره، على ما يبدو، بتسليمها إلى “صندوق أورشليم”. وتقول رواية أخرى إنّ أحد أفراد العائلة أعطاها لصديق في الطالبيّة وهو نقلها إلى تيدي كوليك أو مباشرة إلى “الصندوق”.[20] ومن الأرجح أنّ كوليك هو من نقل الألبومات إلى “صندوق أورشليم”، إذا تذكّرنا كيفية استخدام كوليك والصندوق لها، كما سنوضح لاحقًا.

ظلّت هذه الألبومات في أرشيف الجيش الإسرائيليّ نحو ثلاثة عقود يعلوها الغبار، من دون أن تُنشر أو يُعثر على أصحابها، صمّاء تخضع للرقابة ولقوانين الأرشيف العسكريّ الإسرائيليّ الصارمة. ولم تُفتح الألبومات لمعاينتها إلّا عام 2002، وحتى عندها تحت تقييدات معيّنة. فمثلً، إبقاء الرقابة على صور القتلى، وشطب اسم المصوّر، واستخدامها هي وتفسيراتها وفق السياقات الإسرائيليّة.

وقد أغلقت الألبومات للمعاينة عام 2007، بعد أن “اكتشف “موظّفو الأرشيف هويّة أصحابها. وأعاد الأرشيف الألبومات إلى عائلة زعرور، بعد أن طالبت بالحصول عليها.

ج 2. الحرب على التمثيل البصريّ للقدس

كانت معركة القدس أطول معارك عام 1948 وامتدّت على عام كامل تقريبًا (كانون الأول 1947- كانون الأول 1948). وحظيت القدس بمكانة كبيرة لدى العرب والفلسطينيّين ورأوْا فيها حلبة الصراع المركزيّة. لذلك، ومنذ الشهور الأولى، بدأوا بتركيز قوات كبيرة من فلسطين في المدينة، وبالأخصّ من جبل الخليل والدول العربيّة الأخرى، وخصوصًا من مقاتلي الفيلق. وقد التقط زعرور الصور في القدس على طول فترة الحرب، ووثّق المعركة بأكملها تقريبًا. وممّا اكتشفته حتى الآن، يتّضح أنّ زعرور صوّر الحرب بالأساس من اخل مدينة القدس.

كانت المعركة على القدس معروفة حتى عام 2000 ، وهي السنة التي عرضت فيها أعمال خليل رصاص وعلي زعرور، من خلال نوعي توثيق أساسييْن: الأول، توثيق لحظة الأحداث الذي أنجزه المصوّر الويلزي John Phillips، والثاني استعادة للمعركة على البلدة القديمة في القدس، والواردة لدى جاك پادروا (Padwa) في فيلم Hill 24 Doesn’t Answer، الذي أُنتج بمساعدة الجيش الإسرائيليّ عام 1955. والمصدران يعتمدان على الرواية الإسرائيليّة.

في أيّار 1948 ، رافق المصوّر جون فيليبس من صحيفة Time-Life قوّات الفيلق العربيّ الذي كان عبدالله التلّ يقوده في البلدة القديمة (تحت قيادة قائد الفيلق العربيّ، الجنرال البريطانيّ غلوب باشا)، إلى الحرب التي دارت على شرقيّ المدينة وبالأساس على حارة اليهود في البلدة القديمة. كانت الحارة محاصرة وتحصّن فيها مقاتلون يهود.[21]

وكان الملك عبد الله يضع القدس في أول سلم اهتماماته، ولذلك فإنّ مخططات الهَچَناه باحتلال المدينة القديمة والهجمات على طول خطّ التّماس بين شرقيّ المدينة وغربها بين 13 – 18 أيار، دفعت بالملك إلى العمل (موريس 2006 ، 159 – 177) وضُمّ فيليبس إلى الفيلق بسبب علاقاته الطيّبة مع الملك عبد الله، وارتدى وقتها زيّ الفيلق الرسميّ. للمرة الأولى منذ شباط لم يكن عليّ أن أخاف من أن يحاول مسلم مسكون بالمخاوف قتلي، كلّما هممت بالإمساك بالكاميرا. كنت أرتدي زيّ الفيلق وعاملني الناس باحترام لأنّهم ظنّوني ضابطًا بريطانيًّا في الجيش العربيّ (فيليبس، 1977).

ومكّنه هذا من توثيق المعارك مع قدرة تنقّل عالية ومن دون خوف، ومن منظور الفيلق. ورغم ذلك، وخلافًا للجنرال غلوب باشا البريطانيّ الذي كان يقود قوات الفيلق الأردنيّ ونُظر إليه كنصير للعرب، اختار فيليبس التضامن مع الجانب اليهوديّ.

ويوضح تضامنه مع المقاتلين المحاصرين في حارة اليهود في مقدّمة كتابه إرادة الحياة: “الناس يفترضون ضمنًا أنّني يهوديّ، لأنّني صوّرت بالكاميرا التي أحملها صورًا غاية في التماثل” (المصدر السابق). وهو يقول إنّه “لم يكن بوسع أيّ مصوّر يهوديّ أن يلتقط هذه الصور، لأنّه كان سيفقد حياته جراء ذلك. وحقيقة كوني أنجلو-سكسونيّ أبيضَ وبروتستانيًّا لم تكن عونًا لي أيضًا. لقد نجحتُ بتصوير هذه الصور الواردة في الكتاب لأنّني كنتُ أتجوّل بزيّ الفيلق العربيّ ليس إلّا {…} لقد عرفتُ أنّ صوري عن معاناة حارة اليهود، في حال العثور عليها، سيُلقى بها إلى سلة النفايات فورًا. وأنا لم أكن راغبًا بذلك؛ فقررت تهريبها إلى خارج الشرق الأوسط. كانت تلك مخاطرة، لكنّني قرّرتُ أن أختبر حظّي” (المصدر السابق).

في يوم 21 أيلول 1976 افتتح في متحف إسرائيل بالقدس معرض جون فيليبس إرادة الحياة- القدس القديمة من العزل إلى الانبعاث، وكان مرفقًا بكتاب (كتبت مقدّمته چيلدا مئير، وكتب تذييله تيدي كوليك). نُظّم المعرض بمبادرة من تيدي كوليك وبدعم “صندوق أورشليم”. الصور التي اختيرت والتوصيفات التي كتبها فيليبس عنها في المعرض وفي الكتاب المرفق، عكست كلّها – كما تقدّم-  تضامنًا مكشوفًا مع الجانب الصهيونيّ.

وفي مقابل فيليبس، كان علي زعرور فلسطينيًّا والمصوّر الرسميّ للجيش وللملك الأردنيّ. وعلى غرار فيليبس، ارتدى زيّ الجيش الأردنيّ، وهكذا تمكّن من الوصول إلى المعارك التي دارت بين الفيلق الأردني وبين الهَچَناه والجيش الإسرائيليّ، ومن ضمن ذلك الأحداث والمعارك في البلدة القديمة في القدس.

والتقط زعرور وفيليبس صور الأحداث في تلك الساعات الحاسمة. وكانت الصور التي صوّراها، في كثير من الأحيان، متطابقة أو متشابهة جدًّا. وعلى ما يبدو، فإنّما كانا يعرفان بعضهما البعض،[22] الأمر الذي لم يمنعهما من إنتاج مواقف مختلفة. كان فيليبس كما أسلفنا ميالً للجانب اليهوديّ/ الإسرائيليّ رغم أنّه نشط تحت رعاية الأردنيّين ومن داخلهم، وصوّر العرب وهم يسرقون بيوت اليهود، والصورة الشهيرة لصرخة الفتاة اليهوديّة، وفظائع الجرحى اليهود، والعجز الذي ساد في الجانب اليهوديّ، وغيرها. لكنّه في مقابل ذلك لم يَخشَ الكشف عن أضرار الحرب التي لحقت بالفلسطينيّين، ومن ضمنها صور الجثث (وهي صور خضعت لرقابة أرشيف الجيش الإسرائيليّ)، واللاجئين والنضال الفلسطينيّ. وفي معرض إرادة الحياة عُرضت كما أسلفنا صور التقطها فيليبس من المعارك في حارة اليهود في البلدة القديمة عام 1948 ، وإلى جانبها صور حارة اليهود المتجدّدة وصور لأشخاص ظهروا في صور عام 1948، بعد أن عُثر عليهم وصُوّروا مجدّدًا. وفي هذه الفترة لم ينشر العاملون في “صندوق أورشليم” حقيقة أنّهم يملكون صورًا من تلك المعارك بعينها، التقطتها عدسة المصوّر الفلسطينيّ علي زعرور. وبعد عدّة شهور على ذلك، نقل أفراد “الصندوق” صور زعرور إلى أرشيف الجيش الإسرائيليّ.[23] وبما أنّ كوليك وأعضاء “الصندوق” بادروا لتنظيم معرض عن المعارك في القدس من المنظور اليهوديّ/ الإسرائيليّ، فمن الجائز أنّم توجّهوا إلى زعرور واشتروا منه الألبوم وهم يعملون على تحضير المعرض (أو أنّم طلبوا أن يجري تجهيز الألبوم خصيصًا لهم). ومع ذلك، فإنّهم لم يعرضوا صور زعرور التي كانت بحوزتهم والتي تصف تلك المعارك من الجانب الفلسطينيّ. وقال أعضاء في “الصندوق” إنّهم سلّموا الصور إلى أرشيف الجيش الإسرائيليّ وهناك دُفنت لنحو ثلاثة عقود، حيث اُستعبدت ورُهنت، على غرار كنوز فلسطينيّة كثيرة أخرى، بموجب نُظم الأرشيف الكولونياليّ والتفسيرات القانون الإسرائيليّ (Sela 2017).

 

* صدر الكتاب عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية “مدار” في أيار 2018. 

 

[1] ملابسات أخذها القضائيّة غير واضحة تمامًا، ولكن من الواضح أنّا أُخذت من مصدر فلسطينيّ بالقوّة.

[2] المعلومات الواردة هنا عن رصاص مستقاة من لقاءين مع وهيب رصاص يوم 17.4.1999 ويوم 3.3.2000، ومن محادثات ومراسلات مع أفراد عائلة آخرين، جرت خلال تشرين الأول 2017 ، ومن سيلع 2000 ، 2009.

[3] Palestine Post, 14.12. 1944. يظهر اسمه في التقرير كإبراهيم الرصاص. أكد أفراد العائلة بأنّ الحديث يدور عن المصوّر ذاته.

[4] من مقابلة مع چدعون فرايمن، ابن عاموس فرايمن، 16.2.2008. وشهد چدعون أيضًا: “عندما كان العرب يهربون من “ماميلا”، ذهب أبي إلى المركز التجاريّ وأحضر كومة من الصور.كنت وقتها في الحادية عشرة من عمري”.

[5] في المقابل، ووفقًا لشهادة الجندي الذي سلّمها للأرشيف، موشيه ريشكس، فإنّ الصور “وُجدت” لدى قتيل عربيّ”.

[6] الاقتباسات الواردة من دون إحالة، من محادثة مع موشيه ريشكس، 3.3.2008.

[7] في 13 أيّار جُرح ولذا فإنّ الحادثة وقعت قبل ذلك.

[8] لقاءات مع شراچا پيلد، 3.3.2008 و 8.5.2017.

[9] غاليري عامي شطاينتس، أيار- حزيران 1999 ، ستوديو 2000.

[10] يعود مصدر المعلومات عن علي زعرور إلى اللقاءات الكثيرة التي أجريتها مع ابنه، زكي زعرور، بين السنوات 1999 وحتى 2008 ، وإلى شطاينتس 1999.

[11] الحقائق بخصوص حنانيا ليست واضحة بما يكفي. كڤوريك كاڤديان (Kahvedjian)، ابن المصوّر إيليا كاڤديان الذي كان ناشطًا في القدس منذ سنوات الثلاثين وصاحب استوديو للتصوير، يدّعي أنّ أباه بدأ في نهاية سنوات العشرين بالعمل لدى حنانيا، وفي 1940 اشترى منه الدكّان (سيلع 2000 ، ١٧١- ١٧٢). لم ينجب حنانيا الأولاد ولم أستطع تبيّن معلومات بشأن ذلك.

[12] بعد مقتل عبدالله وتتويج الحسين ملكًا على الأردن عام 1952 ، قللَ من العمل معهم.

[13] قال زكي إنّه هو بنفسه من قام بتصوير السياح في الكنيسة، وعمل في الاستوديو بين الأعوام 2000-1956.

[14] لم أجد مرجعًا لذلك.

[15] باستثناء تلك التي خضعت لرقابة الأرشيف ومُنعت معاينتها. نحن نتحدّث أساسًا عن صور قتلى يهود/ إسرائيليّين، يمنع القانون الإسرائيليّ معاينتها أو الكشف عنها.

[16] الترقيم على الجهة الخلفيّة للصور مطابق للترقيم على النيچاتيڤات لدى زعرور، ويختلف عن الترقيم الذي ثبّته موظفو الأرشيف أسفل الصور.

[17] عُثر على عدّة أختام في الألبوم: دوﭪ شطايچر رحمه الله، فيما سبق شيئون، زوج ياعيل ديان، رجل اسمه أرييه (من دون اسم عائلة)، أو الاختصار: م.ط.

[18] التسجيل الأصليّ والإضافات والملاحظات محفوظة لدى المؤلّفة.

[19] يقول زكي زعرور إنّ لون الألبوم الأصليّ كان أسودَ. وإلى جانبه أوراق توضيحية مطبوعة على آلة طابعة، ضاعت في معظمها.

[20] تقول رواية أخرى إنّ الألبوم غُنم من بيت زعرور (عتسمور 2008)، لكنّ زكي زعرور فنّد هذه الرواية (من لقاءاتي مع زكي زعرور، وكما هو مبيّ في الحاشية رقم 128 أعلاه، ولدى كارپل 2008).

[21] عشية 13 أيار غادر البريطانيّون البلدة القديمة وبدأت معارك ضارية بين المقاتلين اليهود والمقاتلين العرب. في ليلة 18 – 19 منه حاول مقاتلون من لواء “هرئيل” اقتحام حارة اليهود من باب النبي داود واحتلال البلدة القديمة. وحتى ذلك الوقت شارك في القتال جنود غير نظاميّين، وعرب وفلسطينيّون من جيش الإنقاذ وأفراد تنظيم “الإخوان المسلمين”. في 19 أيار بدأ جيش الفيلق العربيّ بالتوجّه إلى القدس وانضمّ إلى القوات غير النظاميّة وقوات الفيلق التي كانت مرابطة على أسوار البلدة القديمة. واستمرّ القتال نحو 10 أيام. وبين 19 – 28 أيّار صدّ رجال الفيلق كلّ المحاولات اليهوديّة لاختراق الأسوار وهكذا حسموا المعركة تدريجيًّا. في 28 أيار رضخ المقاتلون الإسرائيليّون ووقعوا على كتاب استسلام. كانت حارة اليهود خاضعة للحصار طيلة شهور ستة تقريبًا (فيليبس 1976 – 1977، 16، 22؛ أرنڤلد 2004، 242 – 173؛ أرنڤلد 1993، 23 وموريس 2006، ١٦٩- ١٧١).

[22] زعرور التقط صورة يظهر فيها فيليبس.

[23] في محادثات أجريتها مع أشخاص من “الصندوق” في كانون الثاني- شباط 2008 ، ادّعوا أنّ لا معلومات لديهم بخصوص تاريخ ألبومات زعرور وكيفية وصولها إليهم، ولماذا قرّروا تسليمها إلى أرشيف الجيش بعد معرض فيليبس، ولماذا لم يعرضوا الصور التي في الألبومات إلى جانب صور فيليبس، وغيرها.