قرأت بعض التعليقات التي تتناول التناقض بين الإخوان واليسار، وتحديداً في الأردن، ما دفعني لأكتب في هذا الموضوع. فما هو الخلاف الجوهري بين اليسار وجماعة الإخوان المسلمين؟
أولاً اليسار كحركة تعبر عن مصالح تيار اجتماعي في الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة والمشاركة وله امتدادات تاريخية عميقة في الفكر الإنساني وظهر مع ظهور الملكية الخاصة وظهر وتبلور في ظل الصراع ما بين مصالح الفئات المُضطَهَدَةَ والمُضْطَهِدَةَ ،أي بين أصحاب رؤوس الأموال والعاملين.
فمثلاً، في روما القديمة كان الصراع بين العبيد والرومان المدعومين من الأحبار اليهود والذين كانوا يدعمون الاحتلال الروماني ومتحالفين معه . وبقي هذا التيار يصارع في كل المراحل التاريخية بشكل عفوي وبحركات تتكلل بالنجاح أحيانا وبالفشل أحيانا أخري فمثلا أهم ثورة في التاريخ القديم كانت ثورة العبيد في روما وسبارتاكوس هو أو ثائر مسجل وثورته هزت عروش روما وكانت السبب في سقوطها لاحقا وبقي هذا التيار يصارع ويبلور نفسه حتى الثورة الفرنسية حيث أصبح هذا التيار له مفكرين وقادة وقاعدة اجتماعية متبلورة وأخذ تسميته باليسار بحكم جلوس ممثليه على الجهة اليسرى من البرلمان الفرنسي وأصبح اليسار كاتجاه يؤثر بشكل ملموس في تطور الفكر الإنساني بل أن شعاراته في الحرية والعدالة والمساواة أصبحت هي شعارات الملايين التي تصدح في شوارع وميادين العواصم في جميع أنحاء العالم وأصبحت هذه الشعارات جزء من دساتير الدول ،هذه فقط لمحلة تاريخية للذين يظنون أن اليسار هو تيار سياسي نشاء في إحدى الزوايا المظلمة.
مرة أخرى أؤكد أن هذا التيار هو اجتماعي بالجوهر يعبر عنه حركات سياسية هنا وهنالك ونضوج الحركات في التعبير عنه أو عدمه لا يؤثر في فعل وتأثير هذا التيار الاجتماعي التقدمي.
والسؤال الأهم ما هو دور الدين في التاريخ؟
برأيي فإننا يجب أن نفصل بين تيارين الأول اليهودية من حيث المنشأ، وجوهرها الفكري حيث هو دين جاء محصوراً بفئة محددة ولخدمتها وهي رأس المال اليهودي، ودائماً وعبر التاريخ فقد كان يلازم السلطات الحاكمة منذ بدء نشوئه ومتحالف معها بدأ بروما وعندما اعتنقت روما المسيحية كفكرة للسيطرة على شعوب إمبراطوريتها تحالف رأس المال اليهودي معها وكذلك تحالف وخدم الإسلام عندما كان في أوج قوته حتى أنهم طردوا من الأندلس مع طرد المسلمين وفقط دخلوا في صراع مع نبوخذ نصّر كونه بالأساس لم يكن حاكما فقط بل كان فيلسوفا ووضع أسس الدولة القديمة. وهم حتى عصرنا هذا يتحالفون مع أقوى الدول الرأسمالية كونهم جزء ملازم لحركة رأس المال وتمركزه.
وهنا فإننا نرى بالمقابل أن شخصيات يهودية كانت مساهمة في نشأة الفكر اليساري ولكنهم كأفراد تخلوا عن يهوديتهم. أما عن المسيحية والإسلام فإن بداية ظهورهما وفي مرحلة الدعوة والتبشير فقد كانوا يعبرون عن النقيض للفكر اليهودي السائد والقوى الاقتصادية المسيطرة إن كانت روما في فلسطين أو الحلف القبلي الرأسمالي في الجزيرة العربية وبقي هذا الصراع قائما حتى أن أدركت السلطة الحاكمة في روما أنهم بهذا الفكر يستطيعوا السيطرة على شعوب مستعمراتهم وبدؤوا بدعمه وإنشاء الكنائس حتى جاء يوم أصبحت الكنيسة هي قوة اقتصادية وسياسية مقررة وأصبح البابا يتوج الملوك والإمبراطور.
وحدثت عدة حركات للوقوف في وجه سياسات الكنيسة الكاثوليكية أما عن الكنيسة الأرثوذكسية فلم تدخل في هذا وبقيت تعبر لحد ما عن الدين المسيحي بجوهره الإنساني وهذا جذر الموقف الإنساني لكنيسة الأرثوذكسية ومواقفها الوطنية في منطقتنا حيث هم الامتداد الطبيعي للمسيحية أما الكاثوليكية فهي امتداد طبيعي لروما القديمة المتحالفة مع رأس المال اليهودي ،وهنا فإننا نستطيع أن نستوعب جذر مواقف الكنيستين بالرغم من التطور الحاصل في بعض مواقف الكاثوليكية بعوامل ضغط تقدم الفكر اليساري بشكل عام.
أما عن الإسلام فلم يخرج عن هذا الصراع فقد كان معبرا عن مصالح الفئات الأكثر تضررا في الجزيرة العربية ودخل في صراع مع تحالف القبائل الأكثر غنى ونفوذ في الجزيرة حتى أصبح قوة فرض نفسه على تحالف القبائل وأقروا المساومة التاريخية بينهم على أبواب مكة وأطلقت المقولة أن من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن وهذا بالجوهر هو مساومة أعطت المسلمين السلطة السياسية في المدينة وأبقت على السلطة المالية والاقتصادية بيد تحالف القبائل واستمر هذا الصراع طيلة مرحلة الخلفاء الراشدون بين الجوهر الأخلاقي للفكر الإسلامي وموقفه لجانب الفقراء والضعفاء وبين تحالف قبائل قريش وأبرز تعبير عن ذلك كان في مرحلة الخليفة عمر بن الخطاب والذي بحكم قوته استطاع أن يضع بعض الأسس لهذا الموقف.
أما في مرحلة علي فقد كانت يرى تحالف قرش أن استلام علي يعني تقويض كل إمكانيات عودتهم للحكم بحكم موقفه المتشدد ضد تحالف قبائل قريش فكان يجب خوض الصراع معه منذ البداية وعدم إعطائه أي مشروعية مطلقة حتى انتهاء الصراع بانتصار تحالف رأس المال القريشي وإنهاء جوهر النظام السياسي القائم على المشورة والشورى وترسيخ نظام سياسي ملكي وراثي وأبقوا على الدين كواجهة للاستمرار في السيطرة على مقاليد الحكم وتوسع سلطتهم.
هذة لمحة تاريخية مقتضبة عن الأديان وموقعها في خريطة الصراع الاجتماعي.
أود أن أقول أن الرسل عيسى ابن مريم ومحمد كانا من حيث تصنيفهما وموقعهما في خريطة الصراع الإنساني يساريين بحكم وقوفهما مع المستضعفين في الأرض وصراعهما مع روما وحلفائهم الأحبار اليهود وتحالف قبائل قريش مع حلفائهم من بني قريظة، يقيم ضمن مقاييسنا الآن على أنهم في صراعهم الدنيوي كانوا يساريين.
وأردت أن أقول أن المسيحية والإسلام وتأثيرهم في حركة التاريخ لا يمكن قراءتها بمعزل عن القوانين المحركة له وهنا يخطئ البعض في التعاطي مع دور الدين وأهميته في كونه جاء بالأساس لنصرة المظلومين ..والموقف من أي حركة دينية ينطلق من هذا المفهوم ولذلك عندما نحاكم أي حركة سياسية تأخذ من الدين كوسيلة للتعبير فإن سؤالنا يجب أن يكون ما هو البرنامج الذي تعبر عنه باختصار فإن جماعة الإخوان المسلمين مطالبة بالإعلان عن برنامجها الذي يوضح دورها وموقعها في عملية الصراع الاجتماعي ولا يمكنها أن تدعى وراثتها لكل هذا الإرث التاريخي للإسلام بما له وما عليه وهي حركة نشأت في نهاية الربع الأول من القرن الماضي وإلا فإننا نكون قد ظلمنا الإسلام كدين وكحركة اجتماعية سياسية ولا يمكن اختصار الدين الإسلامي بشخص أو جماعة واعتبار أن الموقف من الشخص أو الجماعة هو موقف من الإسلام فهذا ينم عن سطحية وعدم فهم جوهر الأديان أقصد المسيحية والإسلام ودرهم.
أمّا عن إخوان الأردن وطرح أن الإسلام هو الحل هذا يعني أولا عدم اعترافهم بإسلامية الدولة الأردنية وأنهم هم المعيار والناظم للإسلام وهذا بحد ذاته يحمل بجوهره رؤية تمييزية وتؤدي لبروز النزعات التكفيرية واستعمالهم الإرهاب كوسيلة للوصول للحكم وهذا ما حدث حيث خرجت من رحم الجماعة كل الحركات التكفيرية إن كانت في الأردن أو مصر حتى أن مرسي والمدقق في آخر خطاب له تكلم وبصراحة أن بديله هو الفوضى ولإرهاب.
إن الجماعة لا تستطيع أن تصادر كل هذا لإرث الإنساني وتصبح الحكم والحاكم للإسلام وبذلك تكون قد صادرت الإرادة الإلهية في الحساب.
وهنا فإن الموقف من الجماعة ومرسي وأردوغان ليس موقف من الإسلام فأكثريتنا ولدنا بأسر إسلامية وجدت جذورها قبل الجماعة ٠٠٠ والمواقف المتخذة من القوى والشخصيات الوطنية والقومية واليسارية هو من السلوك السياسي للجماعة وموقعهم في لوحة الصراع الاجتماعي والسياسي ٠٠٠٠وأود مرة أخرى أن أؤكد أن الحركات السياسية التي تتخذ من الدين كواجهة للكسب السياسي تخضع لذات القوانين الاجتماعية والاقتصادية والقانونية وهي لا تعمل خارج هذه المنظومة ويوجد بينهم منافقين وفاسدين وصالحين كما في بقية الحركات السياسية ولكنا نحاكم المحصلة العامة فإننا نرى أن حركة التاريخ الإنساني دائما كانت تتقدم لصالح الشعارات الإنسانية التقدمية التي اصطلح عليها يسار وهو يعكس موقف وفعل مارسه سيدنا عيسى ومارسه سيدنا محمد ولذلك فإننا دائما يجب أن نحاكم الأفعال ونتائجها ونحاور بحضارية.
لأشخاص تصيب وتخطئ أما حركة التاريخ فهي دائما لصالح التقدم الإنساني والأخلاقي وكل الأمثلة الملموسة تشير إلى ذلك.