المنحى الثابت لصعود الصراع الطبقي في الإقليم لم يتعثّر إلا حين بدأت الضربات تتوالى على المشروع الاشتراكي العربي. لم تكن البداية في عام 1967 مع الهزيمة العسكرية، بقدر ما كانت في النزوع الاجتماعي الاقتصادي المتأخِّر للتسوية مع أصحاب المشروع النقيض. وهو ما تُرجم مباشرة بعد عام 1967 لجهة استعادة العلاقة مع السعودية تحت شعار «التضامن العربي». الاعتقاد بأن توجُّه عبد الناصر للمصالحة هو نتيجة فقط للهزيمة يحمل في طيّاته إغفالاً متعمّداً للمضمون الاجتماعي الاقتصادي الذي يحمله كلٌّ من المشروعين.
الطفرة التي حدثت في أسعار النفط بعد وفاة الرجل لم تكن لتُحدِث كلّ هذا التحوُّل في موازين القوى في الإقليم لولا ارتباطها بصعود المشروع النقيض للاشتراكية العربية في المنطقة بقيادة السعودية، وبرعاية مباشرة من الولايات المتحدة الأميركية. المواجهة لم تحدث حينها ليس فقط بسبب وفاة عبد الناصر، بل أيضاً لأنّ البنية الاجتماعية الاقتصادية للمشروع كانت قد بدأت تتقوَّض وتنحسر لمصلحة الاتجاه الذي يقوده الغرب، والذي يقوم على جعل التراكم يحصل بدون قيادة الدولة الاشتراكية الوطنية، وبوجود كومبرادور جديد مستعدّ للانقلاب على عملية التنمية، حتى في ظلّ وجود الهيكل البيروقراطي نفسه الذي قاد عمليّة التحوُّل نحو الاشتراكية.
بنية الانقلاب على الاشتراكية
قبل حدوث الهزيمة في عام 1967 كان ثمّة صراعات سياسية بدأت تحدث داخل المعسكر الاشتراكي في كلّ بلد عربي على حدة. انعكس ذلك مباشرة على التصوُّر الموضوع للبناء الاشتراكي، فتراجعت وتيرة عمليات التأميم، ومعها تراخت قبضة الدولة على عملية التنمية، وبدأت تلوح في الأفق ليس فقط صراعات بين أجنحة المشروع الواحد، بل أيضاً معاودة صعود للفئات التي اندثرت مع الإقطاع السياسي. الهزيمة كانت الغطاء لحصول هذا التحوُّل على المستوى الإقليمي، ولكنها لم تكن السبب المباشر له، حيث اقترن حدوثها في الداخل مع تخلخل واضح في البنية الاجتماعية الاقتصادية التي أمّنت صعود المشروع الاشتراكي واستقراره. لم يكن التغيير الكبير في علاقات الإنتاج قد استقرّ بعد حين بدأت أكثر الدول الاشتراكية العربية في استعادة العلاقة مع كبار الملّاك وبقايا الإقطاع السياسي. إشراكُهم في العملية السياسية على ضوء الصراع الحاصل بين أجنحة الاشتراكية العربية كانت له انعكاسات كبيرة ليس فقط على التمثيل السياسي لقوى الإنتاج بل أيضاً على علاقات الإنتاج نفسها، وما إذا كانت ستستمرّ على حالها أم لا، في ضوء صعود القوى التي كانت تكبح تطوَّرها سابقاً. التصوُّر وفقاً للمنظور الاشتراكي العربي لم يكن يستثني تماماً ممثّلي هذه القوى من عملية الإنتاج الحاصلة، ولكنه كان يريد حصول هذه المساهمة بعد الانتهاء تماماً من تغيير قوانين الملكية، بحيث لا تكون معاودة انخراطها في الإنتاج على حساب الفلاحين مرّة أخرى، وبشكل يساعد على حدوث التراكم وفقاً للرؤية الاشتراكية التي تضع مصلحة العمّال والفلاحين في المقدمة، حتى في ظلّ الحاجة إلى الترسمل بعد دخول الاقتصاد مرحلة التصنيع الكبير (في مصر والعراق خصوصاً). عدم اكتمال التصوُّر في ضوء الصراع الحاصل على وجهة الاشتراكية قاد ليس فقط إلى حدوث خلل في بنية المشروع نفسه، بل أيضاً إلى ضمّ فئات محدَّدة من البورجوازية، وهي ليست تلك التي تُعرَف بالبورجوازية الوطنية والتي كانت ستقود التراكم لمصلحة الاشتراكية، بل نظيرتها الطفيلية التي لها مصلحة في إضعاف المشروع إلى الحدّ الأقصى، والإبقاء عليه كهيكل في أحسن الأحوال. هذه الفئة هي التي كانت تتقدّم في الهياكل السياسية والإدارية والاقتصادية للاشتراكية العربية في أواخر الستينيات من القرن الماضي، وهي التي سترجّح انطلاقاً من تأييدها لطرف اشتراكي دون آخر حسم الصراع لمصلحة خصوم الاشتراكية العربية في الإقليم عموماً، وفي كلِّ بلد عربي على حدة.
أدوات الانقلاب
طبيعة مشروع عبد الناصر والاشتراكية العربية عموماً كانت من النوع الذي يترك مخارج للفئات التي تضرَّرت مباشرة من قوانين التأميم والإصلاح الزراعي. استثناء هؤلاء من التمثيل السياسي المباشر في المؤسّسات التي أفرزتها الثورات لم ينسحب على حضورهم في المشهد العام، فظلّوا في أكثر من بلد عربي فاعلين في مجالات يُسمح لهم بحضور متفاوت فيها، بحسب رؤية كلّ نظام أو سلطة لطبيعة هذا الحضور وحدوده. هذا سمح بتعزيز الطابع الديمقراطي للثورات، على اعتبار أن إسهام هؤلاء هو جزء من الحراك العام الذي أعقب صعود الطبقات الاجتماعية بالشكل الكبير الذي حصل. لكن المشكلة أن وجودهم في المشهد لم يكن دائماً تعبيراً عن هذا الهامش المُتاح لمعارضة الاشتراكية، بل بدا في ظلّ عدم تبنّيهم الكامل لها بمثابة نتوء يمكن له أن يتمرّد في أي لحظة، ويبدأ في قضم التجربة من الداخل. وهو ما تأكّد لاحقاً حين تدخّلوا في الصراع الداخلي بين التيارات الاشتراكية الحاكمة، لدعم الطرف الذي يريد كبح جماح الاشتراكية، لتتناسب مع التوجّه الاقتصادي الريعي الذي كان قد بدأ في الصعود إقليمياً، بقيادة السعودية. الاشتراكية التي كان يقودها عبد الناصر في مصر والإقليم عموماً لم تكن فقط نقيضاً للنموذج الريعي الذي مثّلته ولا تزال السعودية، بل كانت أيضاً بمثابة طريق مختلفة للتطوّر الرأسمالي/اللارأسمالي نفسه. الثورة التي حرّرت الفلاحين والعمّال والفئات الاجتماعية المهمّشة في مصر و سوريا والعراق بعد تبنّيها للاشتراكية، انتقلت لاحقاً إلى التصنيع، وكانت في طريقها إلى إحداث تراكم شبيه بذاك الذي حصل في دول جنوب شرق آسيا إبّان صعودها الاقتصادي الكبير في الثمانينيات من القرن الماضي. حتى الصين التي كانت محاصَرة غربياً وممنوعة من الترسمل أخذت طريقاً مشابهاً بعد انتقال السلطة من ماو إلى دينغ سياو بينغ، وهو ما جعلها لاحقاً في موقع القيادة الفعلية للرأسمالية الآسيوية بدلاً من اليابان وكوريا الجنوبية وباقي الدول الرأسمالية الحليفة للولايات المتحدة. عدم السماح لمصر أو العراق أو سوريا بسلوك هذا الطريق كان بسبب التصوُّر الأميركي لشكل التطوُّر الرأسمالي/اللارأسمالي في الإقليم، والذي يجب أن يبقى في إطار من التبعية الكاملة، وحتى لو لم تكن ثمّة تبعية كما هي الحال في كلٍّ من الدول الثلاث فإن الفئات التي تعارض حصول التطوُّر بقيادة الاشتراكية العربية ستكون هي الأداة ليس فقط لمواجهة المشروع من الداخل، بل أيضاً لإنهائه. وليس من قبيل المصادفة أبداً أن تحصل الطفرة الكبيرة في أسعار النفط في بداية السبعينيات من القرن الماضي بوجود هذه الفئات على رأس السلطة في الدولة التي كانت تقود التحوُّل الاشتراكي الكبير في المنطقة (مصر). وهي حين لا تحضر مباشرةً هناك كما هي الحال في سوريا والعراق يكون ذلك تعبيراً عن حضور موازٍ في الاقتصاد والاجتماع وحتى في الثقافة، وهو اتجاه لا يقلّ عن الحضور السياسي المباشر، بل ربما يتخطّاه في ملاقاة التوجُّه الريعي، إن لم نقل في تبنّيه كبديل من الاشتراكية.
الريع «كقدَر» اقتصادي
حين حصلت الطفرة النفطية، وبدأت اقتصادات دول الخليج بالصعود واستقطاب العمالة العربية كانت هذه الفئات تتهيَّأ لإحداث تغييرات بنيوية في الاقتصادات الاشتراكية بغية ربطها نهائياً بالتوجُّه الريعي. لم تنحصر التبعية للريع بالعلاقة مع الحكومات فقط عبر المساعدات والهبات وتنفيذ الإملاءات السياسية والاقتصادية، بل بدأت تأخذ منحىً أكثر خطورة بكثير، مع التوجُّه إلى تفكيك البنية الاقتصادية- الاجتماعية لهذه الدول، وجعلها فقط مصدراً للعمالة إلى الخليج. تم بموجب هذا الأمر التخلّي عن البنية الصناعية التي قادت التحوّل في جلّ هذه الدول، فبيعت المصانع للقطاع الخاصّ، أو لمستثمرين عرب على صلة بالبنية الريعية، وبدأت الاقتصادات الاشتراكية الرئيسية تشهد تحوّلاً واضحاً نحو قطّاع الخدمات الذي يُعنى ليس فقط بخدمة التدفّقات النفطية، بل أيضاً بتجيير كامل البنية الاقتصادية في الإقليم لمصلحة الريع. أثّر ذلك على مجمل العملية الإنتاجية التي كانت في الحقبة الاشتراكية تشهد ترابطاً كاملاً، ابتداءً بالإنتاج الزراعي، مروراً بالتصنيع، وليس انتهاءً بالتبادل التجاري، وهي سلسلة معمول بها في كلّ الاقتصادات، ولكنها في التطبيق الاشتراكي كانت تقود التراكم لمصلحة الفئات الشعبية في الداخل، ودول العالم الثالث الحليفة في الخارج. تفكيك هذه السلسلة عزل الطبقات صاحبة المصلحة في التحوّل الاشتراكي عن العملية الاقتصادية التي صُمِّمت أساساً لإخراجها من حلقة النهب المفرغة، وأعاد الاعتبار إلى التوجّه الاقتصادي الذي يخدم الأقلية، ولكن ليس في الداخل هذه المرة، وإنما في الإقليم، حيث يقوم الريع النفطي بتوجيه السياسات الاقتصادية الأساسية داخل كلّ دولة لتتناسب مع نمط التراكم الذي يقوم عليه. الثروة هنا تتراكم في اتجاه مناقض لذاك الذي كانت تقوده الاشتراكية العربية، حيث لا وجود لفئات اجتماعية عريضة يتمّ الدفاع عنها في وجه الناهبين، وتتبنّى في المقابل المشروع وتتحوّل إلى قاعدته الاجتماعية، وليس ثمّة بالإضافة إلى ذلك صعود لطبقات اجتماعية في ضوء الصراع الحاصل. الريع في معظم دول الخليج حينها لم يكن لمصلحة أيٍّ من الفئات الاجتماعية العربية سواءً تلك التي تقيم هناك بحكم الجنسية، أو التي تعمل فيه، بل كان في جزئه الأكبر متعارضاً مع مصلحة سّكان الخليج، على اعتبار أنهم بقوا خارج الأطر التي تقوده سياسياً واقتصادياً، وحتى اجتماعياً. الاستفادة الوحيدة التي حصلت منه هي في توفير فرص عمل لفئات عريضة من العمّال والكوادر البيروقراطية العربية، ولكن ذلك لم يكن بدون ثمن، وهذا الثمن يتم دفعه حتى اليوم عبر مضاعفة تركيز الثروة في الخليج العربي لمصلحة أقلّية من سكانه، وعلى حساب أكثرية الفئات الاجتماعية العربية، وهو ما قامت الاشتراكية العربية للانتهاء منه على صعيد الإقليم عموماً، وفي داخل كلّ دولة على حدة، ولكنها ضُربَت في مقتل، عبر استبدال الريع بها، وإجبار غالبية الفئات الاجتماعية العربية على سلوك هذا الطريق الذي قادها سابقاً، وسيظلّ يفعل، إلى حتفها.
* كاتب سوري