Menu

الهوية الوطنية الفلسطينية: استعادة ما تمَّ تهميشه

وسام رفيدي

خاص بوابة الهدف

استكمالًا للمقالة السابقة المنشورة في الهدف حول الهوية؛ فقد كان لزامًا معالجة قضية مركزية إضافية، وهي سياسات الهوية، باعتبار الهوية تصنع صناعة من قبل المؤسسة المهيمنة.

إذا جاز لنا من الناحيتين المنهجية والواقعية أنْ نقر أنَّ هناك تراتبية في أهمية مقومات الهوية من حيث (دورها) في تشكيل الهوية، فربما كانت الذاكرة الجمعية ورؤية الشعب لدوره في التاريخ، من أهم مقومات الهوية. وبالقطع؛ فإنَّ هذين المقومين لا يمكن فصلهما عن دور المؤسسة المهيمنة على المجموعة البشرية، شعب كانت أو طبقة أو أي مجموعات عرقية وإثنية ودينية وتضامنية.

لقد أعاد العديد من المُنظِّرين من أمثال: بنديكت أندرسون، وإريك هوبسباوم، وعزمي بشارة، تشكل الهويات الحديثة إلى عامل مهم، وهو تطور الطباعة كصناعة، بما يعنيه ذلك من آلية، ازداد بسرعة فائقة طابعها الشعبي، في تشكيل الذاكرة الجمعية والرؤية الوطنية. بطبيعة الحال، فإنَّ هذا التطور الذي أسماه المنظرون الاجتماعيون بالرأسمال الطباعي لم يكن منفصلًا، بل كان نتيجة للثورة البرجوازية التي أنتجت الدولة الحديثة بهوياتها الوطنية المميزة والمنفصلة عن الهويات الأخرى، بمقومات الذاكرة والرؤية واللغة، ومجموعة الرمز المميزة لكل شعب.

لذا؛ تنتصب الدولة كأبرز مؤسسة في صناعة الهوية باعتبارها الوكيل السياسي للطبقة المهيمنة اقتصاديًا، والتي تسعى من موقع الهيمنة، لصوغ الهوية وفق رؤاها الطبقية. إذن؛ ليست المسألة، نعني صياغة الهوية، بمعزل عن الأيديولوجيا الطبقية للطبقة المهيمنة. وهذا ما يعيدنا لحقيقة ارتباط موضوع الهوية بالطبقة، والذي كنا أشرنا إليه في العدد السابق من دورية (الهدف).

في البدء كانت الكلمة، والكلمة هنا هي توجه الدولة لصياغة الهوية بمضامين محددة، ترغب في تضمينها للمقومين الأساس، الذاكرة والرؤية الوطنية. وهنا أبدع المفكر الماركسي "لوي ألتوسير" في الكشف عن دور الأجهزة الأيديولوجية للدولة في إعادة صياغة وعي العمال، في صياغة نظرية تمكننا من استخدامها لفهم دور الدولة في صياغة الهوية.

على الصعيد الفلسطيني؛ لعبت منظمة التحرير دور الدولة، باعتبارها كيانًا سياسيًا يمثل الشعب، انتزع دوره هذا عبر عملية النضال الشاق، عبر مؤسساتها وفصائلها وتعبئتها وخطابها وإعلامها ومنشوراتها، وجميع فعالياتها السياسية والثقافية والفنية، لعبت المنظمة دورها في تضمين الذاكرة الجمعية والرؤية الوطنية مضامين محددة كنتاج لسياسات محددة، "تحرير فلسطين، العودة، حقوق اللاجئين، الكفاح المسلح، كنعانية النشأة، تحرير الأسرى، البعد القومي للنضال، مفتاح العودة، وكوشان الطابو برمزيتهما"، كل ذلك وغيره الكثير غدا مضامين ثابتة في ذاكرة شعبنا ورؤيته للتاريخ والمستقبل.

وعلى صعيد آخر، تمَّ إعادة إنتاج/إظهار الركائز الأساسية لمقومات رمزية هوياتية تشكَّلت قبل العام 48، سواءً كنضالات شعبية من نوع ثورة العام 36، أو رموز ثقافية وفنية، أو تعبيرات حضارية مختلفة على مختلف الصعد. ويبدو أنَّ الرموز حازت على قصب السبق بتلك السياسة التي لم تقتصر على دور المنظمة بإبرازها بل تجاوزتها لدور شعبي مؤسساتي وقاعدي، رموز من نوع الدبكة والأغنية الشعبية، وأنواع الرقص المختلفة، والكوفية، وأنواع الطعام...إلخ من رموز، هي الأبرز في التعبير عن الهوية على المستويين الرسمي والشعبي.

ومع ذلك؛ فالسياسة الرسمية ذاتها، وبعد توقيع اتفاقية أوسلو، وانتقال قيادة المنظمة لموقع الموظف في خدمة المستعمر، خاصة على المستوى الأمني، اعتمدت مضامين جديدة باتت تلحق الضرر بمقومات الهوية، انطلاقًا من أنَّ أوسلو ليس فقط اتفاقية سياسية أمنية مذلة مع المستعمر بل واتفاقيات اقتصادية، أنتجت خيارات وقيم جديدة، فإنَّ سياسة فريق أوسلو المهيمن على المنظمة اعتمدت منهجين أساسيين في التعامل مع مضامين الهوية:

  1. شطب مضامين رئيسة من مقومات الهوية الوطنية من نوع: شطب مقولة الكفاح المسلح كمقولة وممارسة، بل واتخاذ موقف عدائي منها، يصل حد ملاحقة المقاومين لتحويلها لفعل على الأرض، والعبث بالجغرافيا السياسية للوطن الفلسطيني بالتنازل عن فلسطين التاريخية، واعتبار فلسطين الضفة والقطاع بما عناه ذلك من شطب وحدة الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، والاعتراف بشرعية المشروع الصهيوني في فلسطين بما عناه ذلك من التسليم المذل بصهيونية منطقة الـ 48، وتحويل التطبيع مع الصهاينة لسياسة رسمية تحت الشعار المضلل والبائس (الاشتباك السياسي!!!) لدرجة إفراد لجنة متخصصة للتطبيع على مستوى اللجنة المركزية لحركة فتح، وأخيرًا شطب مقولة التحرير بمقولة الدولة، بما يشبه وضع العربة قبل الحصان!
  2. اعتماد النهج الاستخدامي لرموز الهوية ومقوماتها لخدمة الكيان الهزيل: سلطة أوسلو، باعتبار (ولاية) السلطة السياسية، معدومة السيادة بكل الأحوال، هي (دولة) منتظرة على فلسطين التي غدت حصرًا الضفة والقطاع. لذلك؛ نرى اندلاقًا على التأكيد على رموز عديدة هوياتية من نوع الكوفية التي باتت وشاحًا يلتف حول رقبة مسؤولي السلطة، ومن نوع الأنشطة الفنية والثقافية التي يراد لها تأكيد وطنية مطعون بها من قبل الجماهير. لذلك؛ يبدو من (الطبيعي) أنْ يعيّن ياسر عبد ربه في يوم ما على رأس الهيئة العليا لإحياء ذكرى النكبة، وهو ذاته الذي وقف مع أبي مازن خلف اتفاقية "أبو مازن/ بيلين" التي حوّلت المطلب الوطني بحق العودة للاجئين، وتنفيذ قرار 194 لمطلب (حل عادل متفق عليه لقضية اللاجئين)! تمامًا مثلما غدا من (الطبيعي) أنْ تلتف الكوفية حول رقبة مَنْ يتعاون أمنيًا مع أجهزة المخابرات الصهيونية! كما يجري الإشادة بالنضال الفلسطيني قبل العام 48، وبالرموز الثقافية والفنية لشعبنا قبل العام ذاته، فيما يجري الاعتراف بشرعية دولة إسرائيل!

وبين التأكيد على مقومات الهوية بهدف تعزيزها أمام هجمة الصهاينة على مقوماتها، وهي هجمة تعبيراتها باتت معروفة، كخطوة مهمة للنضال من أجل تحرير فلسطين، وبين النهج الاستخدامي لرموز ومقومات الهوية في مشروع الاستسلام أمام المستعمِر بَونٌ شاسع، وأدوار مختلفة للمؤسسات الرسمية والشعبية. هنا يتجلى التناقض بين دور المؤسسة الرسمية في (صناعة) هوية مهشَمة ومشوه في مقوماتها، ومهمِشة لفاعليها، وهذا يتبدى أكثر ما يتبدى في الكتاب المدرسي، وخاصة كتب التاريخ، وبين دور المؤسسات والتجمعات والأُطر الشعبية التي تسعى للحفاظ على مقومات الهوية كحافز للنضال التحرري.

وإذا كان من الصحيح أنَّ التاريخ بدا دائمًا وكأنَّ مَنْ يكتبه المنتصرون، ولكن من الصحيح أيضًا إعادة النظر بتلك المقولة. انتصر المستعمِر في أوسلو، بحيث اعتبر بيرس أوسلو الانتصار الثاني للمشروع الصهيوني بعد تأسيس كيانهم، وفوق ذلك نجح في فرض مفردات خطابه على فريق أوسلو في قيادة المنظمة (الإقرار بشرعية كيانهم، اعتبار الكفاح المسلح إرهابًا، التفاوض كطريق أوحد....)، ولكن بالمقابل؛ فمقومات الهوية تجد مَنْ يحميها ويعززها. على المستوى الشعبي، كأفراد ومؤسسات وقوى ثورية حية، هناك الفعل البديل المقاوم والمشتبك، مع كل المآخذ على مداه وتأثيره حتّى اللحظة في المستوى الرسمي، فعل يسعى لوضع مقومات الهوية مكانها الصحيح، وتعزيز الهوية كعامل مهم في معركة تحرير فلسطين.

وعود على بدء، ولأنَّ الهوية تصنع، فمهمات كبيرة تنتصب أمام المؤسسات الشعبية والقوى المخلصة للأهداف التاريخية بالتحرير؛ لتعزيز مقومات الهوية الوطنية، مثل: مناهضة التطبيع دون مواربة، وفضح القائمين عليه سواءً جهات رسمية أو أفراد أو مؤسسات، فتحويل الصراع لحوار مطلب صهيوني بامتياز يلحق الضرر بالمكون الثقافي الأهم في الرؤية الوطنية لشعبنا. فالمشروع الصهيوني إذ يستهدف الوجود الوطني برمته، فعلى الفعل الوطني استهدافه لا محاورته؛ الأمر الذي يعني تعزيز الرؤية الوطنية ب فلسطين التاريخية كوطن للشعب الفلسطيني بديلًا لمقولة أوسلو: فلسطين الضفة والقطاع.

من جهة أخرى، فالنضال ضد التأثيرات الليبرالية الجديدة المحملة على أكتاف السياسة الرسمية الفلسطينية والمنظمات غير الحكومية يغدو هدفًا مهمًا لتعزيز الهوية؛ لِمَا لتلك التأثيرات من تداعيات سلبية، وأيضًا على المكون الثقافي للرؤية الوطنية، فمفردات "التعايش، الحوار، سلمية (النضال)، (حضارية) النضال الشعبي"، كلها مفردات هدفها تدجين الوعي الوطني وخصي إرادة المقاومة. وأخيرًا، ينبغي الإشارة لخطورة الخطاب الديني، باعتباره هكذا، على الهوية الوطنية، فالقوى الإسلامية، مقاومة كانت، كحماس والجهاد الإسلامي، أو مهادنة ومستنكفة عن النضال ضد المستعمِر، كحزب التحرير، تحمل في مضمون خطابها خطرًا جوهريًا على الهوية الوطنية، إذ إنَّ البعد الديني في الخطاب هو على النقيض من الخطاب الوطني، باعتبار الأخير، ولكونه يجمع كل مكونات الشعب، فهو علماني بالضرورة، فيما الخطاب الديني مفتت ومجزّأ بالضرورة.

هنا بالذات، ينبغي توجيه السياسة الوطنية في قضايا الهوية ليس فقط ردًا على سعي الصهاينة للمس بها وتحطيمها، بل وضد السياسة الرسمية لفريق أوسلو بخصي مقومات الهوية.