Menu

تقريرالطب والتعذيب في الكيان الصهيوني: علاقة فاسدة

بوابة الهدف - أحمد مصطفى جابر

منذ نشأة الاحتلال الصهيوني، دأبت المؤسسة الصهيونية على استخدام كل عناصر التجمع الاستيطاني في عملية قهر وإخضاع الفلسطينيين، وبالطبع بحكم طبيعة عملهم المتعلقة بالجسد والسيطرة عليه ومرضه وشفاؤه، تقويته وإضعافه، كان للأطباء الصهاينة دور أساسي ليس فقط في التغطية على التعذيب الذي يتعرض له الأسرى الفلسطينيين، بل أيضا في الموافقة على الأساليب الوحشية في الاستجواب وكتابة التقارير الطبية الكاذبة التي تخدم المحققين وأجهزة الأمن، كل هذا جعل للأطباء دورا أساسيا في مؤسسة الأمن الصهيونية وعنصرا من عناصر تعذيب واضطهاد الفلسطينيين.

وكما هو الحال دائما، فإن النظم المتوحشة، لاتأبه للعلم بحد ذاته ولا للقيم السامية التي ينبغي الاتصال بها دائما في الممارسة العلمية، بل يتحول إلى أداة فعالة في خدمة النظام، يصبح مجرد سلاح، سواء كان مهندسا معماريا يهندس أحياء الفصل العنصري، ويصمم خطوطها الفاصلة، أو عالم جيني، يبتدع الأساطير حول الفروق الجينية بين الشعوب، أو طبيب يتحول إلى سلاح للتعذيب والتغطية عليه، وهؤلاء يندمجون سريعا في البنية الوظيفية للنظام، حدث هذا في مختلف أنحاء العالم، ولم يكن هذا الفرع من العلوم المتصلة بممارسة مهنية بعيدا في يوم من الأيام عن التوظيف الأداتي لخدمة المؤسسة الحاكمة.

وبالتأكيد إن وجود آلاف الحالات من الممارسات الطبية الفاشية في الكيان الصهيوني والأدوار التي يقوم بها الأطباء الصهاينة، من السماح الطبي بالتعذيب، مرورا بالمشاركة المباشرة فيه، وتقديم الاقتراحات والأساليب إنما يعكس ليس فقط الفشل الأخلاقي والمعنوي والعملي للمؤسسة الطبية في الكيان الصهيوني، بل يعكس طبيعة هذا الكيان برمته.

والكذب الذي يمارسه الأطباء الصهاينة في تقاريرهم، ليس جديدا في الكيان الصهيوني وليس خاصا بهم، في دولة قامت على الأكاذيب، يكرس كل شيء لخمة بقائها والدفاع عن صورتها، بمزيد من الأكاذيب، تشارك فيها أعلى المستويات السياسية والعسكرية بما فيها المحكمة العليا، ففي العام 1993 مثلا، خرجت قضية كبيرة إلى الضوء، من ضمن آلاف القضايا التي لايصل شيء منها إلى خارج زنازين التعذيب، كانت تلك قضية الأسير حسن الزبيدي، الذي تبين أن الشاباك قام بتعذيبه بوحشية، ولكن يوسي بيليد قائد الجبهة الشمالية في حينه، لم يتردد بالتصريح "لايوجد تعذيب في إسرائيل، لقد خدمت لمدة 30 عاما في جيش الدفاع الإسرائيلي وأعرف ما أتحدث عنه".

بيليد طبعا يعرف ما يتحدث عنه، لكنه يكذب بوقاحة لايمكن العثور عليها إلا لدى أقبح أنواع الفاشيين، مثل نائب رئيس الشين بيت حاليا، وهو محقق سابق، إسحاق إيلان، الذي زعم أنه يجهل تماما ما حدث لسامر العربيد في التحقيق وأنه كما صرح على التلفزيون الإسرائيلي يشعر بخوف شديد من فكرة أن الشاباك كان مسؤولًا بطريقة ما عن حالة عربيد".

هذه الأكاذيب يقوم بتغطيتها أطباء المؤسسة الاحتلالية بكل وقاحة، فيتحول الإغماء الذي دخل فيه سامر العربيد نتيجة التعذيب الوحشي والاستثنائي، إلى مجرد أزمة قلبية طارئة، وتوعك بحسب التقارير التي تقدم للمحكمة العليا وتوافق عليها، ليس بسبب الجهل ولكن بسبب التواطؤ ودور هذه المؤسسة في حماية جهز الأمن وتوفير الفرص له لتحقيق غاياته وهذه المحكمة نفسها هي من سمحت للشاباك باستخدام وسائل استثنائية في التحقيق للحصول على معلومات، ولكن المعروف أن التحقيق الصهيوني، لايهدف فقط للحصول على معلومات، بل إخضاع الأسير الفلسطيني وإذلاله وتحقيق نصر شخصي للمحقق على الأسير وهذا هاجس دائم لكل المحققين الصهاينة، فقد أثبت العلم منذ القرن الـ18 عدم وجود أي صلة بين الألم وقول الحقيقة، وهذا أيضا أثبتته تجارب الصمود في المعتقلات الصهيونية، وتثبته أيضا حتى الاعترافات الزائفة نتيجة التعذيب، ولكن المحققين الصهاينة والشاباك يستمرون في ممارسة التعذيب وهم يدركون جديا حقائق العلم، لأن الغاية كما ذكرنا هي كسر السجين الفلسطيني وإخضاعه والقضاء على شخصيته.

وفي هذا المجال لايقتصر الأمر على الأطباء العاديين بل يتورط الأطباء النفسيون بشكل مباشر في عمليات التعذيب عبر تقديم التوصيات والنصائح لأفضل الطرق التي توصلت إليها الأبحاث العلمية لشل قدرة الأسير وإجباره على الاعتراف كما يدعون، وكسر إرادته.

بالنسبة للأطباء وتورطهم في التعذيب ومخالفة القيم السامية لمهنتهم، فقد سبق وأكدت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان "الإسرائيلية" كيف تعاون الأطباء في الكيان مع صناعة التعذيب في "إسرائيل" وتمكينها ومدها بوسائل وأساليب متنوعة.

الكشف عن دور الأطباء في عمليات الشين بات، جاء عام 1992، في مؤتمر طبي في تل أبيب "ضد التعذيب في إسرائيل" في ذلك المؤتمر تسربت وثيقة سرية تخص السياسة الطبية للشين بيت، وتم تسريبها بواسطة الصحفي ميكال سيلا، وفي تلك الوثيقة يسأل طبيب الشاباك عما إذا كان السجين المعني لديه أي قيود طبية تمنع عزله، أو ما يمنع تقييده، أو تغطية وجهه أو ما إذا كان يمكن إجباره على الدفاع عن نفسها. فترات طويلة من الزمن.

الشين بيت، سارع لنفي وجود مثل هذه الوثيقة، زاعما أنها مجرد مسودة تجريبية غير مستخدمة، كما قال في بيانه، ولكن بعد أربع سنوات ظهرت وثيقة أخرى مطابقة للوثيقة الأولى إلى النور، طلبت هذه الوثيقة من الأطباء التوقيع على التعذيب وفقًا لعدة بنود متفق عليها مسبقًا.

نُشرت الوثيقة الأولى، إلى جانب النتائج الأخرى، في كتاب بعنوان "التعذيب: حقوق الإنسان والأخلاقيات الطبية وحالة إسرائيل"، وبالتأكيد لا يمكن العثور على الكتاب في "إسرائيل"، بعد حظر بيعه، معتقدين أن منع الكتاب يقدم دليلا على عدم وجود تعذيب.

بالتأكيد، لايقتصر تورط الأطباء على أولئك المتعاملين مباشرة مع الشين بيت، ومع دائرة السجون الصهيونية ولكن الأطباء في غرف الطوارئ في جميع أنحاء "إسرائيل" يكتبون آراء طبية مزيفة وفقًا لمتطلبات جهاز الشاباك.

قصة نادر قمصية التي ترويها الطبيبة روشانا مارتن إحدى مؤسسي منظمة أطباء من اجل حقوق الإنسان في "إسرائيل" هي نموذج على هذا التواطؤ، وهو شاب من بيت ساحور تعرض للتعذيب الوحشي على يد الشاباك بعد اعتقاله من منزله في 4 مايو 1993، ونقل إلى مركز سوروكا في بئر السبع حيث تم تشخصيه بإصابته بالنزيف نتيجة تمزق كيس الصفن، وقد أكد قمصية أنه تعرض للاستجواب والركل في خصيتيه، ولكن بعد عشرة أيام، أحضر قمصية إلى طبيب المسالك البولية نفسه لإجراء فحص طبي، وبعد أن تلقى الأخير مكالمة هاتفية من الجيش، كتب خطابًا بأثر رجعي (كما لو كان قد كتب قبل يومين)، دون إجراء فحص إضافي للمريض، حيث قال إنه "وفقًا للمريض، فقد سقط على الدرج قبل يومين من وصوله إلى في هذه المرة، كان التشخيص "ورم دموي سطحي في منطقة كيس الصفن، والذي يتوافق مع كدمات محلية استمرت بين يومين وخمسة أيام قبل الفحص". اختفى خطاب أخصائي المسالك البولية الأصلي، الذي كُتب بعد الفحص الأول، من ملف قمصية الطبي.

تؤكد مارتن في مقال كتبته مؤخرا أن جمعية الأطباء في "إسرائيل" رفضت التجاوب مع طلبات تحديد وملاحقة الأطباء المتورطين مع الشاباك، وكذلك أجهضت إمكانية التبليغ عن مساهمات الأطباء في التعذيب برفضها منح غطاء قانوني لأولئك الذين يريدون التبليغ بدافع ضميري عن تورط زملائهم.

بالعودة إلى وثيق الشين بيت، فإنها في الواقع تعكس فقط بعض الأساليب التي يمارسها المحققون مع الأسرى في غرف الاستجواب، حيث صرح العديد من الأسرى باستخدام أساليب ضدهم لم يتم العثور عليها في الوثيقة والتصاريح القضائية، أو تجارب أسرى آخرين، عموما الوثيقة على منع النوم، وتتيح للمحققين تعريض السجناء لدرجات حرارة قصوى، وضربهم، وربطهم لساعات طويلة في أوضاع مؤلمة، وإجبارهم على الوقوف لساعات حتى تنفجر الأوعية الدموية في أقدامهم، وتغطية رؤوسهم لفترات طويلة من الزمن، وإذلالهم جنسياً، وكسر معنوياتهم عن طريق قطع علاقاتهم بالعائلة والمحامين، لإبقائهم في عزلة حتى يفقدون عقلهم. وهذا كله يتم بموافقة طبيب الشين بيت الذي يشرف على التعذيب ويفحص الأسير المعذب ويكتب تقريره الطبي بالتواطؤ مع المحقق.

هذا الأمر ليس جديدا لكنه كما أٍلفنا يعود اليوم للظهور بقوة أكبر ربما، وكانت هيئة شؤون الأسرى والمحررين في فلسطين قد بينت تفاصيل كثيرة في تقرير صدر عام 2017، واتهمت فيه أطباء يعملون لصالح مصلحة السجون "الإسرائيلية" ولدى الأجهزة الأمنية ومعسكرات الجيش، بـ «تعذيب الأسرى الفلسطينيين والضغط النفسي عليهم وإهمالهم صحياً» وتركهم «فريسة لشتى الأمراض التي تتفاقم في أجسامهم، وعدم التزامهم آداب مهنة الطب وأخلاقها والمواثيق الدولية والإنسانية». وقال تقرير الهيئة إن «إفادات الأسرى أثبتت الشراكة بين الأطباء والمحققين في ممارسة التعذيب، وعدم معارضة ممارسته، عندما قدموا تقارير تشير إلى تحمّل الأسرى التعذيب والإرهاق البدني والنفسي، وكذلك الامتناع عن التدخل لتقديم علاج للأسرى الجرحى والمصابين الذين يتم استجوابهم في غرف التحقيق». وأضاف أن "الأطباء لم يعارضوا عملية المساومة التي يقوم بها المحققون مع الأسرى على العلاج في مقابل الاعتراف، ما يؤكد التواطؤ الطبي في التعذيب".

وقال تقرير الهيئة إن هناك تجاهلاً منهجياً مقصوداً من الأطباء الإسرائيليين لحاجات السجناء من العناية الصحية أو النظافة أو الطعام، و»عدد منهم يلتزم الصمت خلال إساءة معاملة المرضى، كالتعرض للضرب والقمع بالغاز والقهر النفسي بالحرمان من الزيارات، ويقومون بإخفاء المعلومات عن سوء معاملة الأسرى». وأوضح أن «الأطباء يخفون نتائج تشريح جثامين الشهداء الأسرى، ولا يسلمونها إلى الجهات الرسمية الفلسطينية، إضافة إلى إخفاء معلومات عن أخطاء وتجارب طبية ارتكبت في حق الأسرى خلال علاجهم"

وأضاف أن «الأطباء يتساوقون مع الموقف السياسي للحكومة الإسرائيلية وأجهزة الأمن الإسرائيلية في حالات كثيرة، مثل تقديم تقارير برفض الإفراج المبكر عن أسرى مصابين بحالات صعبة وخطيرة، والادعاء بأن حالتهم الصحية جيدة، إضافة إلى وضع عقبات كثيرة أمام إدخال أطباء (فلسطينيين أو أجانب) لإجراء الفحوص اللازمة لهم». وأشار إلى «مجموعة من الظواهر تؤكد تواطؤ أطباء السجون ومراكز التحقيق وتقصيرهم في المسؤولية عن العناية بالحالات المرضية الصعبة، ومنها سقوط شهداء في صفوف الأسرى تبين أنهم عانوا من أمراض عدة، لم يتم الكشف عنها خلال وجودهم بالسجن، من بينهم الشهداء ميسرة أبو حمدية وفادي الدربي وزهير لبادة وياسر حمدونة ومحمد الجلاد وأشرف أبو ذريع وزكريا عيسى وغيرهم".

واعتبر التقرير أن «الأطباء يخالفون معاهدة جنيف لعام 1949 وقوانين الحد الأدنى المعيارية لمعاملة السجناء للأمم المتحدة لعام 1955، وتتعلق بالملجأ والطعام والنظافة والعناية الطبية المقدمة للسجناء، ووثيقة نقابة الأطباء العالمية (1956) التي أكدت أن المهمة الأساسية لمهنة الطب هي حماية الصحة وإنقاذ الحياة".

ربما يكون معروفا أيضا أن إعلان طوكيو 1956 جاء ليكون دليل الأطباء المتعلق بالتعذيب والمعاملة أو العقوبة الوحشية أو غير الإنسانية أو المذلة في المعتقلات والسجون، فقد نص على: "يجب على الطبيب عدم تشجيع أو التغاضي عن المشاركة في أي تعذيب أو أية إجراءات وحشية أو غير إنسانية أو مذلة، مهما كان الذنب الذي اقترفته الضحية"؛ وبذلك فإن "إعلان طوكيو" قد أبطل الشراكة غير الشرعية بين الطب والتعذيب. وفي عام 1982 أعلنت الأمم المتحدة مبادئ متعلقة بالأخلاقيات الطبية، ودور الطاقم الصحي، وخاصة الأطباء في حماية السجناء والمعتقلين من التعذيب والمعاملة غير الإنسانية؛ كما تبنت ذلك العديد من الجمعيات والنقابات الطبية العالمية.