Menu

قراءة في الصراع على شرق الفرات وفيه

حاتم استانبولي

دمشق تنطلق من موقف مبدئي أن (العملية التركية) في الشمال السوري هي استمرارٌ للعدوان على سورية منذ 2011، التي كانت الأراضي التركية منطلقًا له وكانت تتساوق معها كل دول الخليج، وعقدت على أرضها العديد من المؤتمرات المعادية تحت عنوان (داعمي الشعب السوري) وشكلت الفصائل المسلحة لتغيير طابع الدولة والنظام.

ولكن صمود سورية وجيشها فرض واقعًا جديدًا على جبهة أعدائها، إذ بدأت ملامح التفتت والتشرذم تظهر بين مكونات خصوم سورية وتزداد يومًا بعد يوم بمقدار إنجازات الميدان السوري.

تركيا دخلت عفرين التي كانت اختبارًا أوليًا لردّات الفعل وسقفها ووصلت لنتيجة أن أي توسيع للعملية لن يخرج عن الصراخ الذي رافق دخولها لعفرين.

الجديد، هو أن الجامعة العربية عقدت وأخرجت بيانًا توقعته أنقرة وتعلم أنه لا يساوي الحبر الذي كتب فيه، أما مجلس الأمن فحسابات أعضائه تختلف عن حسابات دول الإقليم.

ترامب كان الأكثر وضوحًا، وصرّح بأن الأكراد لا يعنون له شيئًا سوى أداة تم استخدامها وفقدت مفاعيلها، وفي سياق المفاضلة بين حليف الناتو وأداة الميدان، اختارت أنقرة الحليف الموثوق والمجرب، والتعامل معها سيكون أكثر فائدة لشعاره أمريكا أولًا، ولاستثمار التواجد التركي في فرض شروط مادية على الأرض للضغط على دمشق وطهران وروسيا، التي لم ترفض العملية، ولكن رأتها من منطلق وحدة الأراضي السورية، وفي إطار الموازنة بالخطر عليها، ترى أن الأكراد بتعنّتهم وإصرارهم على فرض وقائع انفصالية على الأرض بدعمٍ إسرائيلي، ولوبياتهم في واشنطن، يشكّلون خطرًا أكبر على وحدة سورية من قوة غازية  تحكمها اتفاقيات دولية وإقليمية.

الاتحاد الأوروبي يحكم موقفه عنوان الهجرة، أي تداعيات العملية العسكرية على الحالة الإنسانية، في حين كان رد أنقرة واضح، وهو أن العملية العسكرية هي لكي تحول اتجاه الهجرة من الشمال إلى الجنوب، الذي وجد آذانًا صاغية عند بعض العواصم التي يحكمها اليمين الأوروبي، وستنخفض لغة ولهجة التهديد بمقدار تقدم الجيش التركي، وإذا ما أصرت أوروبا على مواقفها التي تراها أنقرة متناقضة مع بنود الحلف الأطلسي سيدفعها للتفكير بجدوى الاستمرار في عضويتها، خاصة إذا ما نفذت تهديداتها بتطبيق عقوباتها المعلنة، والتي ستواجه مع مثيلاتها الأمريكية بردة فعل تركية قد تصل إلى عضويتها في الحلف الأطلسي.

الدول العربية، منها من أعلن وبوضوح أن رفض العدوان مدخله إعادة سورية إلى مقعدها، والأكثرية التي تشكل قطيع ترامب ما زالت تنظر إلى أنقرة من موقع خطرها على نظمهم السياسية، بما تشكله من مرجعية سُنّية بأبعاد سياسية إخوانية وامتداداتها في النسيج الاجتماعي.

إسرائيل ترى أن سقوط الحلم الكردي يشكل صفعة لسياساتها بعد السقوط الداعشي، التي كانت تراه وتوظفه لتفتيت سورية ليكون مدخلًا إلى تفتيت المنطقة وفرض شرعية جيوسياسية جديدة.

أنقرة وبعد مرور الأسابيع والأشهر والسنوات على صمود سورية، والتطورات في المشهد الميداني، التي تعاطت واشنطن مع دمشق على أنها واقع لا يمكن تغييره بالأساليب السابقة، وتحولت للضغط الداخلي من خلال العمل لاقتطاع شرق الفرات التي فرضت عليه حمايتها، هذا الواقع الذي رأته انقرة على أنه يهدد أمنها القومي في عنوانٍ عليه إجماعٌ داخلي قومي، تعاملت معه بريبة، وبدأت باختبار الموقف الأمريكي، ووصلت إلى قناعة أنّ واشنطن تريد أن تفرض واقعًا جديدًا شرق الفرات لتستخدمه في الضغط المزدوج على كلٍ من أنقرة ودمشق، في حين تدرك أنقرة أن الورقة الكردية لها مفاعيل أكبر وأعمق في الداخل التركي عن السوري، لاعتبارات تاريخية ومكانية، وأنّ أكراد سورية بعدهم التاريخي كان شمالًا وسيكون مستقبلًا.

الأكراد قامروا بمستقبلهم ووضعوا قضيتهم في مزاد المساومات غير المشروعة، وأخرجوها من سياقها كجزء من قضية تحررية ديمقراطية حلها لن يكون إلا في إطار الحل الوطني الديمقراطي لشعوب الإقليم، وبعض فصائلها ترى أنه مناسبة لتصفية حسابات داخلية بين فصائلها.

وللأسف، فإن المدقق في مؤتمراتهم الصحفية يلحظ إصرارًا على رفع الأعلام الكردية وغيابًا للعلم السوري، في إشارة إلى أن المواقف المعلنة حول الأزمة السورية غير جدّية، والمدقق في مظاهراتهم في المدن الغربية يرى أنّه حل محل العلم السوري والعراقي العلمُ الإسرائيلي، ورغم محدوديته إلا أن مفاعيله المحلية ستكون كبيرة. لا يمكن تقييم السلوك القيادي الكردي سوى على أنه سلوك غبي سياسيًا، وضع الجماهير الكردية في مهبّ الريح وتركها في العراء عرضة للاضطهاد بكل أشكاله.

إذا ما نجحت أنقره، فإن توظيفها لعدوانها سيكون في عدة اتجاهات داخلية سورية، في إطار الحل الذي ستحكمه أستانا ودولها وبشراكة محتملة لدمشق.

أوروبا، للضغط بعنوان الهجرة، وإذا ما تزايدت الضغوط الأوروبية الأمريكية، وفي ظلّ إجماعٍ قوميّ داخليّ تركيّ، فإن خيار تركيا التحرر التدريجي من قيود الأطلسي محتملًا، خاصة وأن عضويته أصبحت تشكل عائقا أمام طموحات تركيا  الجيوسياسية، التي ستتصاعد كلما اقتربنا من تحررها من اتفاقية لوزان 2.

إيران ترى أن العملية التركية في الجوهر مصلحة إقليمية، وتراها مناسبة لفتح حوارٍ بين أنقرة ودمشق، وتنظر إلى أن الزمن لن يلعب لصالح العدوان التركي، وسيشكل استنزافًا له إذا لم يتجه إلى حل الأزمة مع دمشق .

مصطلح العدوان والتدخل الذي حكم المواقف، يحكمه المَثلُ القائل "عيني فيه وتفو عليه"، فيما تراه الشعوب أن "تفوه عليه" هو الأصحّ بحكم أن الحروب القائمة خارج حربها الوطنية في الدفاع عن سورية و فلسطين هي ليست حروبها.