في أعقاب حرق عائلة دوابشة والخشية من انفجار انتفاضة فلسطينية جديدة، صرخ كثيرون في الحلبة السياسية والأمنية الإسرائيلية مطالبين بملاحقة المتطرفين اليهود.
وبالرغم من أن هذه ليست المرة الأولى التي يتعالى فيها مثل هذا الصراخ، فإن حكومة اليمين، التي كثيرا ما كان المتطرفون أداتها الخفية، اضطرت الى إعلان إجراءات ضدهم، واستخدمت في هذا السياق الاعتقال الإداري بحق أحد قادة المتطرفين وتدابير إبعاد إدارية عن الضفة الغربية بحق 11 مستوطنا آخر.
وسرعان ما تبين أن «الملاحقين» من المتطرفين اليهود ـ على قلتهم ـ ينالون الدعم من جهات معروفة، من بينها حركة «السنهدرين الجديدة»، التي ترعى «صبية التلال»، وهو الاسم الذي تطلقه إسرائيل على سوائب المتطرفين المستوطنين الذين يمارسون التنكيل والحرق والهدم بحق الفلسطينيين.
وإسرائيل التي طورت أساليب قمع الفلسطينيين، وعملت على طول سنوات احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة بمنطق «تجفيف منابع» نضالهم، كانت لا تتورع عن حظر تنظيمات وإغلاق مؤسسات ومصادرة أملاك. ولكن مثل هذه الأساليب لا تجد من يتبعها تجاه المتطرفين اليهود برغم كل الإعلانات حول التعامل مع «الإرهاب اليهودي» بالأساليب نفسها للتعامل مع «الإرهاب العربي». فجهاز «الشاباك» الإسرائيلي صنّف كل فلسطيني على أنه «إرهابي محتمل»، وأدرجه ضمن تصنيفات تتعلق بمكان السكن والعائلة والعمر، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث مع المتطرفين اليهود الذين يعيشون، غالباً، في مستوطنات أيديولوجية محددة الهوية والتوجهات.
والأدهى أن هذه المستوطنات التي بنيت بقرارات حكومية إسرائيلية وتمول، ولو جزئيا، من خزينة الدولة، لها جهات داعمة سواء في الأحزاب الصهيونية ذاتها، أو في الشتات اليهودي وخصوصا في الولايات المتحدة. كما أن مرجعية هذه المستوطنات، وتحديدا الأشد تطرفا، معروفة على الصعيدين الديني والسياسي. ولكن السلطات الإسرائيلية لا تلجأ البتة لملاحقة هذه المرجعيات.
ويشرح غادي غبرياهو في «هآرتس» في مقالته بعنوان «بإلهام من نظرية الملك» أن «صبية التلال» وجماعة «شارة سعر» يعملون بإلهام من كتاب «نظرية الملك» الذي ألّفه الحاخام يوسف أليتسور. وقد شكّل الكتاب برنامج عمل «التنظيم السري» اليهودي الذي عمل من دون إزعاج في الثمانينيات في عهد مناحيم بيغين. وفقط بعد ارتكاب «التنظيم السري» جرائم مفضوحة ضد الفلسطينيين في الضفة، قررت الحكومة الإسرائيلية محاكمة أفراد هذا التنظيم من دون أن تلاحق أنصاره ومرجعياته بل سرعان ما أفرجت عن المحكومين بعفو رئاسي.
وأشار غبرياهو إلى أن «عصابات الارهاب التي تسمى «شارة سعر» تعمل بإلهام من هذا الكتاب ومن مقال «كفالة متبادلة»، اللذين صدرا في النصف الثاني من العام 2009، وأن أول مسجد تم احراقه، من بين 43 مكان عبادة للمسلمين والمسيحيين، اضرمت فيه النيران في كانون الاول العام 2009.
وتصف مقالة «كفالة متبادلة» للحاخام يوسف اليتسور بشكل مفصل استراتيجية «شارة سعر»: «اذا غاب الهدوء عن اليهود ـ يجب أن يغيب عن العرب ايضا؛ اذا انتصر العرب بسبب العنف ضد اليهود ـ اليهود ايضا سينتصرون بسبب العنف ضد العرب... يمكن استغلال قوة النساء، الاولاد والشيوخ لاغلاق شارع معين ـ في هذا الوقت السماح بعمل أكثر فظاظة نحو جهات معادية في ذلك الشارع؛ يمكن القيام بأفعال صامتة وعميقة بالتوازي مع أفعال تخلق الفوضى في الميدان».
ويشير غبرياهو إلى أن المقالة تحرض ضد الجيش الاسرائيلي والشرطة، وتحث القرّاء/ المستوطنين على الحاق الضرر بممتلكات العرب وأرواحهم رداً على دخول «مصادر معادية» مثل مراقبي الادارة المدنية الى يتسهار.
ويبيّن أنه منذ كانون الاول العام 2009 تعمل عشرات الخلايا من «شارة السعر» من دون ازعاج من أحد، وأنهم أحرقوا ودنّسوا المساجد والكنائس والأديرة واقتلعوا آلاف اشجار الزيتون وأحرقوا السيارات وألقوا الزجاجات الحارقة على المنازل وأضروا بالابرياء، وكما شهدنا مؤخرا ـ قتلوا.
ويوضح غبرياهو أنه برعاية الكتب والمقالات ومواقع الانترنت والـ «فايسبوك»، نشأت ثقافة تستبيح دماء وممتلكات العرب. وبرعاية هذه الثقافة تم ضرب مئات العرب في القدس وتل ابيب وطبرية وغيرها. ويعدد أنماط الارهاب اليهودي من سنوات الخلايا السرية اليهودية ضمن قائمة جزئية: باروخ غولدشتاين، يغئال عمير، عصابة بات عاين، يونا ابروشمي، عامي بوبر، عيدن نتان زاده، آشر فيسغان، يعقوب تايتل، يوسف بن دافيد واثنين من الفتيان ترعرعوا في بيت أحد الحاخامات المعروفين في القدس (قتل الشاب محمد أبو خضير).
وفي كل حال فإن حركة «السنهدرين الجديدة» التي ترعى «صبية التلال» وجماعات «شارة سعر» معروفة بتطرفها ليس فقط ضد الفلسطينيين وإنما أيضا ضد رجال الشرطة والجيش. وسبق لها أن أصدرت فتوى تبيح مهاجمة رجال الشرطة إذا جاءوا لإخلاء بؤر استيطانية غير مرخصة. وجاء في فتوى أصدروها في العام 2011 أن «التوراة تفرض على كل ابن لإسرائيل أن يتمسك بأرض إسرائيل وأن يعارض اقتلاعه بالتضحية بنفسه وبكل ثمن، مثل التضحية في مواجهة الأغيار».
وفي موجة الإبعادات الأخيرة قررت محكمة «السنهدرين الجديدة» في نداء للمتطرفين أن «تعزز روحكم وتقليص أسفكم لما أنتم عليه من التزام باحترام السماء واحترام شعب إسرائيل التضحية من أجل قداسة الشعب والأرض».
والمهم أن الحاخامات الذين وقعوا على هذه الفتاوى معروفون بانتمائهم إلى الصهيونية الدينية الشريكة في الائتلاف الحكومي، بالرغم من أن بعضهم كان ينتمي في الماضي إلى حركة «كاخ». وفي كل حال فإن «الشاباك» الإسرائيلي يعرف أن من ينفذون عمليات «شارة سعر» يخرجون من مستوطنات معينة بينها «تلة البلاديم»، ولكنه لا أحد يفعل شيئاً، فالمتطرفون اليهود لديهم من يحميهم ويرعاهم في الحلبة السياسية وفي المؤسسة الأمنية أيضا.
المصدر: السفير