Menu

الدولة شكلها ودورها ووظيفتها

حاتم استانبولي

مفهوم الماركسي للدول.jpg

نُشر هذا المقال في العدد 13 من مجلة الهدف الرقمية

تاريخيًا خضع مفهوم الدولة إلى رؤيتين مثلت الاتجاهين الرئيسيين للفلسفة؛ المفهوم الهيجيلي للدولة، والمفهوم الماركسي للدولة، اللذان عكسا الرؤيتان المثالية لدى هيجل، والمادية لدى ماركس، هاتان الرؤيتان اللتان تعتمدان على الخلفية المعرفية لكل من هيجل وماركس. وفي السياق هذا، فإن مثالية هيجل هي اعتماد الفكرة المجردة (الوعي) كمنطلق للمعرفة، في حين أن مادية ماركس هي النشاط المادي للإنسان والتفاعل مع محيطه الاجتماعي والبيئي، من أجل تحقيق الشروط المادية لاستمراره من تأمين حاجياته؛ من طعام وملبس ومسكن، وفي سياق تأمين هذه الحاجيات المادية تتطلب الحاجة لتطوير وسائل إنتاجها وتقسيم العمل، الذي ينعكس في تطور وعي الإنسان، هذا التطور خلص الإنسان من بدائيته، حتى وصل إلى إنساننا المعاصر. أي أن مفهوم الوعي عند ماركس هو انعكاس لتطور الواقع المادي من خلال تفاعل الإنسان معه.

إن أحد أهم المراجع الفلسفية لمفهوم الدولة الرأسمالية وضحه الفيلسوف هيجيل في كتابه: أصول فلسفة الحق، ويتمحور مفهوم الدولة على مبدأ الحرية وملكيتها التي يعتمد تحقيقها على الاستخدام المتبادل بين الأفراد، أي بمعنى إذا أراد أن يحقق الفرد مصلحته عليه استخدام فرد آخر، والفرد الآخر يحقق مصلحته نتيجة استخدامه لفر آخر.

أما عن المجتمع وتشكله، يتم من خلال العائلة وتفككها إلى عدة عائلات؛ من خلال الزواج، ويتوسع عبر متتالية عددية، ينتج عنها مجتمع مدني تنتقل فيه الثروة ورأس المال من خلال هذا التوزيع، الذي يتطلب تنظيمًا يحدد حقوق الملكية الخاصة وأهمية حمايتها في نظام (دولة)، يقوم على بناء فوقي يحقق مصالح رأس المال وحق الملكية العائلية وثرواتها وتوارثها للسلطة التي تعتمد رأس المال وامتلاكه معيارًا للسلطة. أي أن العلاقات بين الأفراد والمجموعات تعتمد على حق حرية الملكية التي تشرع ملكية كل شيء حتى البشر، وهنا يفهم تشريع الرق واستخدامهم في عملية الإنتاج الاجتماعي؛ كأداة للإنتاج في مرحلة محددة من التطور الإنساني وقانون حماية الملكية وشرعنة القتل، إذا تم الاعتداء عليها، وأحقية امتلاك السلاح الفردي للدفاع عن الملكية الفردية، هذا القانون الذي ما زال سائدًا في بعض الولايات الامريكية. وحديثًا فإن مصطلح الأمن القومي يعبر عن أحقية الدول القوية في فرض سلطتها على الدول والمجتمعات الفقيرة؛ لخدمة مصالح الدول المتقدمة ورفاهية مجتمعاتها.

تطور صيغة العلاقات الإنتاجية وتراكم الثروة وتمركزها وترافقها مع الثورة الصناعية ومتطلباتها؛ من مواد خام وأسواق، انعكست في تطور خصائص الدولة الرأسمالية التي ترتكز على أساس حرية التملك بالمفهوم الأوسع -الملكية الخاصة- هذا المفهوم الذي يتطلب من الدولة حمايته من خلال سن القوانين التي تحمي الملكية الخاصة وثرواتها، وفي سياق تمركز رأس المال تكتسب الدولة فائض للقوة الداخلية التي من خلالها تسعى لفرضها على الدول الأخرى، وهنا فإن الدولة الرأسمالية دائمًا ما تلجأ إلى حل أزماتها الداخلية عبر الحروب الخارجية التي من خلالها تريد تعميم قانونها الخاص ومفاهيمها على الدول الأخرى، وتتعامل مع الدول التابعة على أساس ملكية خاصة لها، وما نراه من ممارسات وتدخلات وفرض عقوبات اقتصادية على الدول والشعوب والأفراد؛ إلا تعبيرًا عن الجوهر المعرفي لمفهوم الدولة الرأسمالية ودورها. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هو دور الدولة القائمة في ظل المرحلة الإمبريالية؟

تحولت الدولة إلى أداة تخدم مصالح الشركات والبنوك التي أصبح لها دورًا أوسع، إلى حد ما مستقلاً عن نظام الدولة التي تحولت وظيفتها كحافظ للأمن المجتمعي وأداة تنفيذية للمصالح العليا للشركات الإمبريالية القابضة ومؤسساتها المالية، وتحمي مصالح الشركات العابرة وتخوض حروبها وتحدد علاقاتها بناء على مصالح الشركات العابرة وأسواقها .

 التسارع في التطور الرأسمالي كانت له تاثيرات عميقة على الدول والمجتمعات التي خضعت للاستعمار المباشر، الذي قوض التطور الطبيعي للتشكيلات الاجتماعية وأنتج صيغة الدول والنظم الكمبرادورية في الدول والمجتمعات الفقيرة، ودعمت تحالف يعتمد أبعادًا مختلفة؛ منها القبلي أو العائلي أو الطائفي، وحاصرت وانقضت على كل محاولات التطور الطبيعي للدولة الوطنية.  

التطور في شكل وجوهر الملكية فرض وقائع على شكل العلاقات الرأسمالية في مرحلتها الأعلى؛ الإمبريالية، والتي أصبح لرأس المال المالي دورًا محوريًا في السيطرة على مناحي وسائل الإنتاج وأدواته، ومع الثورة في وسائل الاتصال والتقدم في البرمجة الرقمية والاستثمار فيها (استثمار عامل السرعة الذي يحقق تفوقًا زمنيًا)؛ لتكون أساسًا للتبادل التجاري، واعتماد الصناعة على استخدام الروبوت ليحل محل العامل الغير مؤهل علميًا سيدفع الدول المتقدمة إلى تصعيد المواجهة في مجال التقدم التكنولوجي، ويخلق تحديات جديدة سيلجأ لحلها من خلال الحروب وفرض الخاوات على الدول الغنية التابعة، على سبيل المثال ثمن الحماية لدول الخليج . وما نشهده من حرب بين أكبر اقتصاديات العالم الصين وأمريكا هو انعكاس للصراع على السيطرة والنفوذ العالمي، ويكسبها طابعًا أيديولوجيًا؛ بحكم الخلفية المعرفية للنظامين المتصارعين.

ولكن ماذا عن الدول الفقيرة؟

هذه الدول التي لم تتطور، نتيجة لتطور متطلبات حاجيات المجتمعات وتشكيلاتها الاجتماعية؛ هذه الدول ونتيجة للاستعمار المباشر خضعت لنظم تم تشكيلها من خارج سياق التطور التاريخي، وفرضها الاستعمار المباشر لاخضاعها لسيطرة رأس المال ولفكرة الملكية الخاصة له، وانتقلت ملكية هذه الدول بانتقال قوة مراكز رأس المال.

الفارق الكبير في التطور بين الدول والمجتمعات أصبح يشكل عاملاً معيقًا لإمكانية تطور الدول الفقيرة  ومجتمعاتها، ويبقيها خاضعة لشروط الدول المتقدمة التي تراها في إطار الملكية الخاصة لها، ولهذا فإن النظم التي تدير المجتمعات الفقيرة؛ من أجل توظيف إمكانياتها ومواردها الطبيعية لخدمة استمرار وتطور الدول الاستعمارية ورخاء شعوبها، هي نظم تابعة، ودول تخضع لقانون الملكية الخاصة للدول الاستعمارية التي تعتبر أنها تملك هذه النظم والشعوب ومواردها وتخضعها لقوانينها الخاصة وتفرض شروطها عليها.

الولايات المتحدة كدولة هي التعبير الأبرز عن الدولة الرأسمالية في مرحلتها العليا؛ الإمبريالية التي تقدس الملكية الخاصة، فهي تعمل على ثلاث جبهات:

الجبهة الأولى: أيديولوجية أعلنها ترمب في الدورة ال 74 للأمم المتحدة، على أن النظم الشيوعية هي الخصم الأبرز والخطر الداهم على الولايات المتحدة.

الجبهة الثانية: هي جبهة الخصوم التي تريد واشنطن اخضاعها لشروطها وللقانون الأمريكي (لخدمة شعار أمريكا أولاً)، الذي تريده واشنطن أن يكون معيارًا للعلاقات بين النظم الرأسمالية والصاعدة، وناظمًا لإعادة ترتيب العلاقات بين الدول، بما يهدف لسيطرة تامة ومطلقة على النظام الرأسمالي، وبهذا الصدد فهو يعمل على تشجيع تفتيت التكتلات الاقتصادية الرأسمالية؛ كالاتحاد الأوروبي الذي تراه الإدارة الأمريكية تحديًا وخصمًا تنافسيًا على قيادة النظام الرأسمالي، واتباع سياسة موازية لدعم الاتجاهات الأكثر يمينية في تحالف دول البركس الصاعدة؛ لسحبها من هذا التحالف واجهاضه (البرازيل والهند).

 الجبهة الثالثة: تقوم على أساس سياسة مزدوجة اتجاه الدول الضعيفة التابعة بدعم استمرار بقاء النظم الكمبرادورية التابعة من جهة، وزيادة الضغوط؛ من أجل تغيير وإسقاط النظم المتمردة، والتي تريد بناء مجتمعاتها خلافًا للرؤية الرأسمالية الأمريكية.

أما عن دور الدولة في الصين وكوبا وكوريا الشمالية التي تعتمد الخلفية المعرفية الماركسية؛ فإن دور الدولة يعمل على أساس ملكية الدولة لوسائل الإنتاج وأدواته وتقسيم العمل، وتوظف كل إمكانيات الدولة لخدمة المجتمع بكل فئاته، وتقر مبدأ أن الشركات الخاصة والعامة تعمل لصالح الدولة التي تتحمل الفاتورة التعليمية والصحية، وتعطي الملكية الخاصة حيزًا في إطار ملكية الدولة الأشمل (برجوازية الدولة)، ولكن لا تعتمدها كأساس للبناء الاقتصادي، ودور الدولة يقوم على حل التعارضات الداخلية استنادًا لمصلحة الأكثرية الشعبية.

وتقوم علاقاتها مع الدول الأخرى على أساس الاحترام المتبادل، ولا تفتعل الحروب لحل تعارضاتها إن كانت داخلية أو خارجية، وتلجأ لحلها باعتماد مبدأ المساعدات الإنسانية؛ من خلال مشاريع البناء التي نراها تعمل في إفريقيا والدول التي تطلب مساعدة الصين. إن الخلاف الصيني الأمريكي يعكس التناقض بين مفهومي الدولة لدى هيجل وماركس.

مفهوم الدولة الرأسمالية (هيجل)، الذي يرى أن حل التناقضات التي تطرأ داخل إطار الدولة، يحل من خلال الحروب الخارجية غن كانت عسكرية أو اقتصادية، أو حروب بالوكالة عبر القوى الرجعية التي تستخدمها لتقويض وتفتيت المجتمعات؛ لإدخالها في صراع مع ذاتها، وفي الوقت ذاته، تقوم بسرقة معلنة لمدخراتها ومواردها.

المفهوم الماركسي للدولة الذي يرى فيه إنجلز أن (الدولة شيء أنتجه المجتمع في مرحلة معینة، والدولة هي الاعتراف: بأن المجتمع قد أصبح مصابًا بتعارض لا حل له)، أي أن الدولة ضرورة لحل التعارضات الداخلية في المجتمع. كما أشار أيضًا أن (الدولة لم توجد منذ الأزل، بل أصبحت الدولة ضروریة لتقسیم العمل) في كتابه أصل العائلة والملكية الخاصة. وفي الإطار هذا، ظهر شكل ثالث للدولة يجمع بين المفهومين، كما تظهره الدول الاسكندنافية التي تجمع بين شكلي تقسيم العمل الرأسمالي بمضون اجتماعي اشتراكي، يعطي أهمية للبعد الانساني لوظيفة الدولة. هذا الشكل الثالث الذي يعطي أهمية للملكية الخاصة، لكنه في إطار ملكية الدولة التي تعطي أهمية قصوى للقانون، الذي يعكس مصلحة الفرد في إطار المصلحة الجمعية للمجتمع ويقسم العمل ومردوده طبقًا لقانون يحمي الحقوق الديمقراطية الأساسية الإنسانية؛ في حق المأكل والمسكن والتعبير عن الرأي كحقوق مكفولة بالقانون، هذا القانون الذي يعطي حق لكافة القوى الاجتماعية بأن تشارك في السلطة عبر نظام انتخابي يؤمن المشاركة الجمعية في إدارة المجتمع والدولة.

 الشكل الرابع، الدولة الاستثنائية (إسرائيل) التي كان إنشائها ضرورة رأسمالية إمبريالية؛ من اجل أن تحقق دورًا في تقويض إمكانيات التطور الديمقراطي في منطقة تكتسب أهمية قصوى للنظام الرأسمالي، وأهمية خاصة لرأس المال (اليهودي) المالي، الذي لعب دورًا في تأسيس المنظومة المالية التي تحولت وظيفة الربا؛ من خاصية يهودية إلى خاصية ربحية عامة، تشكل محورًا لاستمرار ربحيته في نظام مالي بنكي، أعطى مشروعية للربا التي أخذت شكل فوائد تحقق القيمة المضافة، ولكن بدون أن تتحمل عبء قوى الإنتاج ووسائله، وأعطت مدخلاً لتراكم وتمركز رأس المال في إطار المنظومة البنكية التي أصبحت تتحكم في مصائر الدول والشعوب، وارتبطت مصالحها بالمنظومة العالمية لرأس المال، وتعمل على تنفيذ سياساتها، وأصبحت المنظومة البنكية المحلية تحظى بقوة مادية أكبر من قوة الدولة في الدول الفقيرة، وأصبحت وسيلة لإفقار المجتمعات والدول النامية. هذه الدولة الاستثنائية التي أخذت طابع استعماري إحلالي قائم على أساس فكرة رجعية تستخدم الفكرة الدينية كمعيار وناظم لعلاقاتها الداخلية والمحيطة، وهي في الجوهر خطوة رجعية للوراء، في سياق تطور الدولة الحديثة القائمة على أساس العقد الاجتماعي بين القوى الاجتماعية وقواها؛ بغض النظر عن دينها أو جنسها أو لونها أو قوميتها أو اثنيتها.

أما الشكل الخامس للدولة، فهي التي تعاني منها المجتمعات الفقيرة، هذه الصفة التي كان سببها الاستعمار المباشر، الذي أنتج نظمًا سياسية تابعة له؛ ليستمر في نهب ثروات هذه المجتمعات. هذه النظم التابعة التي شكلت عاملاً معيقًا للتطور التاريخي للمجتمعات التي تعاني من حالة الفقر والتخلف، وأدخلتها في صراع بين مكوناتها لتبرير بقاء سلطتها. تلك الدول أخضعها الاستعمار لمنظومة مصالحه القومية، ويقدم لها الحماية طالما هي تخدم مصالحه، ولا تعير أي اهتمام لممارسات نظمها اتجاه مجتمعاتها، وهنا تظهر الازدواجية في معايير القيم الديمقراطية التي تستند إليها النظم الرأسمالية التي (تقدس) نسبيًا؛ قيم الحرية والعدالة لشعوبها، وفي الوقت ذاته، تستخدم هذه المعايير بشكل سياسي لخدمة مصالحها، فتراها تدعم نظم عائلية وقبلية وطائفية للنظم التابعة لها، وبذات الوقت تقوم باستخدام مؤسساتها المالية للسيطرة على المجتمعات؛ من خلال سياسة دعم لإبقاء الدول والمجتمعات الفقيرة في حالة موت سريري، ومن جهة أخرى، تدعم القوى اليمينية الأكثر رجعية في عملية مزدوجة للضغط على حلفائها وتابعيها وتفتيت مجتمعات خصومها.

إن سياسة إغراق الدول التابعة بالمديونية هي سياسة واعية لإبقاء حالة التفتت والتشرذم المجتمعي لمجتمعات لو تركت تتطور بعيدًا عن تدخلات قوى الاستعمار المباشر وغير المباشر، لكان شكل الدولة وطنيًا بامتياز يخدم مصالح مجتمعات المنطقة. إن استمرار شكل الدولة ودور نظمها الكمبرادوري التابع، هو التحدي الأبرز الذي يجب أن تواجهه القوى المجتمعية؛ عبر الخروج من حالة المراوحة والجمود والبقاء على هامش الفعل اليومي، والخروج من المراوحة يتطلب شجاعة ثورية، تعلن ان بقاء المجتمعات أسيرة لقوانين رأس المال ومؤسساته النقدية ومديونيتها التي تخرق مجتمعاتنا بسياستها الاقتصادية التي أدخلت المجتمعات والدول في دوامة عبثية، لا تستطيع الخروج منها؛ إلا عبر عمل جمعي تُحقق فيه مصالح المجتمعات التي تربطها مصالح اقتصادية وسياسية مشتركة، على سبيل المثال (بلاد الشام والعراق) أو مجتمعات شمال إفريقيا ( مصر وليبيا وتونس والمغرب وموريتانيا) التي تحقق وحدتها تكامل اقتصادي وسياسي واجتماعي خروجًا من أزماتها البنيوية التي نشأت نتيجة لسياسات سايكس بيكو.

بالنتيجة؛ على النظم أن تعكس المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لشعوبها، لا أن تعكس المجتمعات حاجيات بقاء استمرار النظم الكمبرادورية.