Menu

العرب واللاعبون الإقليميون

د. موفق محادين

نشر هذا المقال في العدد 13 من مجلة الهدف الرقمية

كان الشرق الأوسط الكبير, بما في ذلك الأرض العربية وهضبه الأناضول والهضاب الإيرانية, مسرحًا لثلاث قوى تاريخية, تعاقبت عليه, هي العرب والإيرانيون والترك, بالاضافه للدخلاء والغزاة الأجانب؛ القدامى والرأسماليين.

ومن المؤسف أن العرب بعد مرحلتي محمد علي وعبد الناصر في مصر, ودخول الشام و العراق تحت الحصار والمؤامرات, فقدوا مكانتهم المحوريه المنبثقه من وطنهم التاريخي على مساحات واسعه من غرب آسيا وشمال إفريقيا، لكن المشهد العربي المذكور, لم يفسح المجال تمامًا للغزاة الرأسماليين وأدواتهم من قوى التبعية والرجعية, فقد شهدت العقود الأخيرة انبعاثات جديده لشركاء العرب في الإقليم والتاريخ؛ الإيرانيون والأتراك, ولم يعد بوجودهما حكرًا على القوى الاستعمارية. ولنا أن نقول أيضًا أن الكيان الاستيطاني العنصري الصهيوني, كاستطالة عضوية عسكرية عدوانية للإمبريالية البريطانيه ثم الأمريكية, صار جزءًا من الصراع على  المنطقة.

 فماذا عن هذا المشهد وموقع العرب فيه؟ وكيف يحددون تحالفاتهم في ضوء قانون التناقضات ومعادلاته الأساسية التناحرية والثانوية, كما في ضوء تعبيراته السياسية, العدو, الخصم, والصديق؟

العرب واللاعب التركي:

بالإضافة إلى التغلغل المبكر للجند الترك في البلاط العباسي منذ المعتصم فصاعدًا، مرورًا بسيطرة السلاجقة الترك على مقاليد الحكم في بغداد، فقد ارتبطت علاقة الأتراك بالعرب بما يمكن تسميته بنظرية المركز – المحيط كما صاغها سمير أمين، وكذلك توينبي؛ فحسب هذه النظرية، فإن المحيط الأقل تطورًا غالبًا ما يحل محل المركز في ذروة أزماته، وكما تمكّن العرب عندما كانوا محيطًا لامبراطورية في مجالها الحيوي الشرق أوسطي، انقلب الدور عليهم بعد ان صاروا مركزًا في دمشق وبغداد، وصار الأتراك البدو محيطًا لهم قبل أن يزيحوا العرب ويحتلوا مكانهم باسم الإسلام العثماني.

وفي الحقيقة لم تكن تلك المرة الوحيدة التي أظهرت أن لا مكان لزعامتين، عربية وتركية، في الوقت نفسه، فإما العرب وإما الترك، فقد أدى تحول طرق التجارة الشمالية إلى خسارة العرب لمركزهم، الذي انتقل إلى الترك بعد الدعم الكبير الذي تلقوه من المدن الإيطالية الصاعدة (جنوى والبندقية) التي لم تتورع أيضًا بفضل تركيبتها التجارية – الكاثوليكية؛ من انتظار سقوط القطسطنطينية الارثوذكسية والتواطؤ مع الأتراك، مقابل تسهيلات طريق التجارة الشمالي.

وبالمجمل وفي الخلفية السابقة للعلاقات العربية –التركية فقد ظل التأثير التركي تأثيرًا سياسيًا – عسكريًا مقابل التأثير الثقافي الإغريقي – الساساني ل إيران المغلوب من الترك في معركة كالديران شأنها شأن العرب في معركة مرج دابق 1576. إلى ذلك، وفيما يخص التأثيرات التركية اللاحقة على العرب وامتداداتها الراهنة، نلحظ قوة هذه التأثيرات في كل الخيارات السياسية التي قاربها العرب في الأزمنة الحديثة حتى يومنا هذا:

  1. خيار الصراع من أجل الملكية الدستورية في البلدان الملكية، الذي بدأ في تركيا كما إيران، ووصل ذروته في مرحلة عبد الحميد الثاني الذي قاوم هذا الخيار، وكان أول تعبير عربي له في مصر منذ ثورة 1919 وحتى تموز 1952، وقد أخفق هذا الخيار تمامًا وها هو يعود في كل البلدان العربية الملكية؛ سواء التي تسلحت به (قريش مقابل الجيش)، أو تلك التي جاءت من خارج قريش مثل السعودية.
  2. مقابل قريش كان خيار الجيش، الذي في بدأ تركيا بحركة الاتحاد والترقي، وما عرف بالانقلاب العثماني 1909، وتكرس عبر مصطفى كمال أتاتورك وإلغاء الخلافة نهائيًا 1923، وكان أول تعبير عربي لهذا الخيار هو محاولة انقلاب بكر صدقي في العراق في إطار الصراع بين الملك غازي ونوري السعيد، قبل أن يتواصل هذا الخيار في سوريا في سلسلة من الانقلابات العسكرية 1949 (الزعيم، الحناوي، والشيشكلي) بظلال فرنسية وأمريكية وبريطانية، ذات صلة بأكثر من موضوع، ومن ذلك أنابيب التابلاين.
  3. وكانت حركة الضباط الأحرار ونجاحها بزعامة عبد الناصر في مصر في تموز 1952 التعبير الأبرز عن هذه الظاهرة، بل إن هناك من شبه عبد الناصر بمصطفى كمال على أكثر من صعيد. ولا تزال صورة العسكر في بلادنا تقارب عند الباحثين بالمنظور الكمالي.
  4. لخيار الإسلامي بشقيه المحافظ والمعتدل وبتقاليد الميليشيات التكفيرية المسلحة أيضًا، فما نعرفه أن آخر سلاطين بني عثمان تلقوا دعمًا قويًا من القناصل الأجانب خلال الحرب العالمية الأولى، مقابل تحالف الألمان مع الاتحاديين الأتراك، ثم دعم موسكو البلشفية لأتاتورك، وهو ما أسس لعلاقات وثيقة بين (الحزب الديموقراطي) الذي هزم جماعة اينونو وأتاتورك بعد الحرب العالمية الثانية، وبين العواصم الأطلسية، وقام الحزب بزعامة عدنان مندريس الذي اتخذ من الإسلام غطاءً له بتبني مشروع حلف الأطلسي الجنوبي (حلف بغداد)، وسلّم تركيا لرجال البنك الدولي، وضباط القاعدة العسكرية الأمريكية  الوليدة (أنجرليك). وبين انقلاب وانقلاب أتاتوركي، كان ورثة الحزب الديموقراطي: أمثال أوزال ثم أردوغان يواصلون سياسة اللعب بالإسلام ضد خصومهم العلمانيين. ويساعدنا التمعن في هذه المحطات الإسلامية التي حكمت تركيا (مندريس، أوزال، واليوم أردوغان) على أن هذه الطبعة من إسلام الأطلسي تسللت إلى المشهد العربي بالاسم نفسه (النهضة)، كما عند جاسم بن سلطان في الدوحة، والغنوشي في تونس، وظلالها داخل جماعة الإخوان المسلمين هنا وهناك.

أما بشأن الجماعات أو الميليشيات التكفيرية المسلحة التي تأسست بتسهيلات تركية أردوغانية فدونها تاريخ، القريب منه، خلال محاولات حكومة مندريس المتأسلمة فرض حلف بغداد على سوريا ورفض رئيسها لذلك، وكان ابن البرجوازية الشامية، السنية ذي الأصول التركية، شكري القوتلي؛ ومن مفارقات تلك السنوات في خمسينيات القرن الماضي استخدام الاأراك للتكتيك نفسه مع سوريا برئاسة الدكتور بشار الأسد؛ إذ قامت الأجهزة التركية قبل نصف قرن تقريبًا بتدريب جماعات إسلامية مسلحة، كما بتدبير انشقاق صغير في الجيش السوري في إدلب باسم الجيش الحر.

أما التاريخ البعيد فتمثل في تنافس المخابرات الأوروبية على إنشاء جماعات إسلاموية مسلحة خلال الحرب  العالمية الأولى بأسماء: مثل جيش الخلافة، جيش محمد ومجموعة كردية صغيرة باسم نور الدين زنكي.

5- بالإضافة للخيارات السابقة؛ الجيش وقريش، بما فيها الملكيات الدستورية، لم تغب ظلال تركية أخرى، هي الظلال الأتاتوركية عن بعض القوى والتيارات في الأوساط العلمانية والقومية. صحيح أن الوسط القومي العربي تحرك بتفاعل الشرط الموضوعي للنهضة القومية مع الثورة الألبانية القومية والتأثيرات الإيطالية، ورياح القومية الألمانية (اللغوية)، وخريجي التراث الفرنسي المحمول بخليط من الهوى الشرقي السان سيموني ومحفل الشرق الأعظم ومصالح الشركات؛ إلا أن ردة الفعل العربية على سياسات التتريك لعبت دورًا حاسمًا في كل ذلك، بل إن المثقفين العرب المترددين بين الحكم الذاتي واللامركزية العثمانية وتعبيرها (مجلس المبعوثان)؛ حسموا خيارهم لصالح الاستقلال القومي الناجز عن الاستعمار العثماني، وكان ملاحظًا في الوقت نفسه أن ردة الفعل المذكورة عند بعض الأوساط القومية اكتست شيئًا ما من التجربة الأتاتوركية (دور الجيش، اللغة، رأسمالية الدولة عبر القطاع العام، علمانية بدرجة أقل).

العرب واللاعب الإيراني:

بخلاف العلاقة العربية – التركية التي قامت على الاغتصاب السلجوقي للبلاط العباسي، ثم على الاستعمار العثماني للعرب في إطار نظرية المركز الحضاري والمحيط البدوي والاستحواذ الأخير على المركز، كما حدث مع الجرمان ضد روما؛ فإن العلاقة العربية – الإيرانية مرت بمرحلتين، قبل الإسلام وبعده: الأولى، عندما تقاسمت إيران واليونان ثم روما الشرق السوري العراقي و مصر الفرعونية، ولم يحدث الصراع بين مراكز وأطراف، بل بين مراكز حضرية، بينها حضارات الشرق العربي القديمة.

الثانية، عندما انطلقت موجات القبائل الإيلافية – الصحراوية تحت راية الإسلام، واقصت المراكز واحدًا بعد الآخر، وهو الإقصاء الذي أخذ بعدًا سياسيًا، فيما حافظت الثقافات الحضارية السابقة على مكانتها داخل السلطة الإسلامية نفسها. وكما أخذت هذه السلطة  الكثير من الهللينية وفلسفة الإغريق، وخاصة في مرحلة المأمون، فإن الشعوب الإيرانية المغلوبة سياسيًا، واصلت حضورها ثقافيًا في محطتين كبيرتين متناقضتين:

- الأساليب الكسروية الساسانية، وخاصة عند ابي جعفر المنصور وبناء بغداد، وفق كتاب (الفكر اليوناني والثقافة العربية).

- المحطة الإسلامية؛ عبر عشرات العلماء والفلاسفة، وبضمنهم عدد معروف من النحويين وأرباب اللغة.

وبالمقابل، فإن فكرة ولاية الفقيه التي شكلت الإطار المرجعي للدولة الصفوية، وهي دولة تعود إلى عائلة تركية (صفي الدين الطوسي) فكرة عربية تراوح تنسيبها بين عدد من الفقهاء، أبرزهم على الكركي (كرك البقاع اللبناني التي تعود جذورها كما أوساط شيعية واسعة في لبنان إلى قبائل عاملة اليمنية التي كانت تعيش في الأردن، ومنها أخذ جبل عامل اسمه).

وفي كل الأحوال لم تتمكن كل الدول المماثلة في إيران من لعب دور كبير في الشرق العربي بحضور السلطنة العثمانية القوي، بل إن معظم العائلات الإيرانية الحاكمة حتى سقوط الشاه؛ من الصفويين إلى القاجار تعود إلى جذور تركية تنتمي مذهبيًا إلى الشيعة، وفق تأويلات عربية لولاية الفقيه. أما الحضور السياسي الإيراني في المنطقة، فقد ترافق مع الأزمنة الحديثة وانحسار الاستعمار العثماني بعد قرون من الفساد والاستبداد. وفيما قامت جمهورية علمانية في تركيا بقيادة أتاتورك على بقايا السلطنة بدعم الأسطول الروسي بعد ثورة أكتوبر بقيادة لينين ، فقد فشلت كل محاولات المكلية الدستورية في إيران وآلت السلطة إلى جنرال سابق في الجيش الروسي القيصري، والد شاه إيران الأخير، الذي وضع الخليج كله تحت سيطرته، وأقام علاقات وثيقة مع الأمريكان والعدو الصهيوني، وشكل مع السادات في مصر تحالفًا عسكريًا امتد إلى إفريقيا هو (حلف السافاري). هكذا شكلت إيران الشاه مع العدو الصهيوني وتركيا في عهودها المختلفة ومنها تيار مندريس – أوزال – أردوغان المتأسلم، مثلثًا إقليميًا ضد كل شعوب المنطقة، وخاصة العرب.

انطلاقًا من ذلك، لم تكن الثورة الإيرانية التي أطاحت بالشاه، عملاً محليًا قوض المصالح الأمريكية – الصهيونية في طهران وحسب، بل محطة حاسمة في خلخلة المثلث اللاقليمي المذكور برمته، وأيًا كانت الملاحظات التي تساق ضد إيران، من معسكر الأعداء أو الأصدقاء أو الخصوم، فإن السمة الأساسية لإيران بلا شاه، هي سمة التناقض مع المعسكر الإمبريالي – الصهيوني، مما يشكل إضافة عملية لرصيد المقاومين والوطنيين العرب (سوريا-المقاومة، واللبنانية بقيادة حزب الله، والمقاومة الفلسطينية، وحركة التحرر العربية).

العرب واللاعب الصهيوني:

ابتداءً، فإن أخطر ما يواجه العرب مع اللاعب الصهيوني هو محاولات إضفاء شرعية تاريخية على احتلاله للجغرافيا.. ولا يجري ذلك بسوء نية دائمًا؛ فالاخطر هو ما يجري بحسن نية، وذلك عندما يحال الصراع مع يهود الكيان الحالي إلى قرون سابقة، وهو الأمر الذي يغفل المعطيات التالية:

1- أن غالبية اليهود الذين احتلوا فلسطين العربية، هم من اليهود الخزر الأتراك الذين أقاموا كيانًا في القرن الثامن حول بحر الخزر؛ مستفيدين من تحول طرق التجارة الدولية آنذاك، ثم تشتتوا بعد هزيمتهم على يد الأمراء الروس والهجمات المغولية، وذلك بحسب المؤرخ اليهودي، كوستلر. وبالتالي لا تربطهم أية علاقة بالعرب الذين تهودوا في شبه الجزيرة العربية و اليمن ثم الهلال الخصيب، فهم يهود عرب، كما المسلمون والمسيحيون العرب.

2- أن الكيان الصهيوني الاستيطاني الذي اخترعته المتروبولات الرأسمالية الأوروبية شرق المتوسط، موضوع تناقض تناحري بهذه الصفة؛ من تجلياته الغنتاج المتبادل بينه وبين التبعية والطائفية والتخلف  والتجزئة، وبالتالي وبالإضافة لعدم شرعيته التاريخية والجغرافية فوجوده يتناقض مع كل شعوب المنطقة وخاصة العرب، وليس مع الفلسطينيين وحدهم الذين كانوا الضحية الأولى له.

وأكثر من ذلك، اذا كانت الصناعة الإمبريالية لهذا الكيان قد استدعت في البداية تقسيم الهلال الخصيب وفق اتفاقية سايكس –بيكو، فإن محاولاته عبر سيناريوهات مؤتمر هرتزليا (2000-2018) لتجديد نفسه، تستدعي تفكيك الشرق برمته إلى كانتونات طائفية تتقاطع مع المشروع العثماني الأردوغاني لتقسيمها إلى ولايات عثمانية، وهو المشروع الذي أسقطه الجيش السوري والمقاومة.