Menu

"صاقل الماس".. ما جادت به ذاكرة زياد عبد الفتاح عن محمود درويش

يوسف الشايب

يبدو الإلمام بالحكايات المهمة، في كتاب زياد عبد الفتاح عن محمود درويش "صاقل الماس"، أمراً صعباً، فالاختيار ما بين رواية وأخرى من هذه السيرة الدرويشية الصادرة عن مكتبة "كل شيء" في حيفا، أمر عسير، لفرط حيويتها وطريقة صياغتها الآسرة، التي تقدّم وتؤخر الحكايات، ما بين أكثر من زمان، وإن كان لتونس السبق هنا جغرافياً حميمة للفلسطينيين، فتقدم جديداً عمّا كُتب سابقاً عن "لاعب النرد"، في مشهدية يُشهد لها.

البداية كانت من فيينا أو من تونس، الحقيقة من كلتيهما.. "رن جرس الهاتف، التقطت زوجتي السماعة، جاء صوتها ملهوفاً ومضطرباً، قبل أن أسالها وتجيب قائلة: محمود درويش في المستشفى في فيينا، فاجأته وهو هناك في الفندق أزمة قلبية، وهو الآن في العناية المركزة.. لقد اجتهدتُ أنك تريدُ الذهاب إليه.

أمامك حوالى تسع ساعات، وقد حجزت لك كي تذهب لتطمئن عليه، وتعود لتحلق بالطائرة التونسية الأخيرة القادمة من روما.. لم أكذب خبراً، وطرتُ إليه. ناقشت الطبيب، قال لي: صاحبك مات مرتين، توقف قلبه أول مرة لدقيقة، ومرة ثانية لدقيقتين. توقف قلبي أنا هذه المرة، قبل أن يواصل الطبيب قائلاً: لكنه سينجو، بل يمكنك القول إنه قد نجا (...) نصحني أن أمضي إلى بيتي، فأمامه ثلاثة أيام على الأقل قبل أن يغادر المستشفى".

يحك عبد الفتاح مصباح ذاكرته، فيتلبّسه المارد ليتابع "عدت إلى روما فإلى منزلي في تونس، حيث نمتُ نوماً عميقاً، لم تتخلله كوابيس ولا أحلام. عندما صحوت، كنا قرابة الظهر، نزلت إلى غرفة المعيشة، فوقعت على مشهد لم يخطر على بالي في صحو ولا في منام. كان مشهداً يخلع القلب. وجدتُ ابنتي ديمة، وكانت في الرابعة، ترتدي فوق ثوبها ملاءة بيضاء ناصعة البياض وتصلي" (...) "كنتُ أصلي "عشان عمو محمود درويش يخف! كيفو بابا"، لم أكن انتبهتُ إلى أن أطفالنا يكبرون، ولهم عواطف وأحاسيس، ويفكرون في غفلة منا!

عاد عبد الفتاح إلى فيينا بطلب من "أبو عمار" (...) "استقبلني الطبيب بابتسامة واسعة وهو يردد: الآن أستطيع أن أقول لك إن صاحبك غادر مرحلة الخطر تماماً، ولكننا سنحتفظ به ليومين آخرين، لأننا عندما رفعنا عنه الأجهزة، وقبل أن ننقله إلى غرفة أخرى، طلب من الممرضة على الفور أن تأتيه بسيجارة، وعندما رفضتْ بداً غاضباً وحانقاً، وكادت تنشب معركة، لولا أن صديقك قاس قدرته بقدرة الممرضة المتينة، فاكتشف أن المعركة لن تكون لصالحه أو حتى متكافئة، مستر محمود رجل عاقل، ولكنه لا يعرف كيف ومتى يتوقف!".

بعد أسابيع عاد درويش إلى تونس، وأقام لبعض الوقت في منزل عبد الفتاح.. "كنا أفردنا له جناحاً مستقلاً (...) وكان ينزل من جناحه صباح كل يوم، ليشرب قهوته مع أمي أم العبد، التي كانت ما إن تسمع حفيف خطوه في الطابق الثاني فوقها، حتى تقوم إلى المطبخ لتحضير قهوتهما. كان بخار القهوة يتسلل إليه وهو ينزل. يداعب خياشيمه فيغشاه الثمل.. كان يحب القهوة الصباحية حتى العشق والشبق، وأحياناً كان ينزل، وتكون الوالدة مشغولة بصلاة صباحية متأخرة، أو شؤون غيرها، فيطير من الفرح ويمضي إلى المطبخ مستعجلاً خشية أن تلحقه أم العبد، فتفسد عليه متعة صناعة القهوة، كان يحبها ويهواها. كان تحضير القهوة أحد طقوسه وعاداته الصباحية، وكان يعتقد أن تحريك القهوة ببكرجها من اليمين إلى اليسار، ثم من اليسار إلى اليمين مرات متساوية، ببطء وعناية، قبل أن تفور وتغلي، يُكسب القهوة نكهة لا تُضاهى!

اتحاد الكتاب

وتحدث عبد الفتاح عن نيّة درويش، قبل دخوله إلى المستشفى في فيينا، عدم العودة إلى رئاسة اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين، على عكس رغبة "الختيار"، فهرع عبد الفتاح مبعوثاً، وليس زائراً هذه المرّة، كما اكتشف درويش، فصارحه برغبة في التجديد له، خاصة في ظل حصار المنظمة وعرفات، وحيث كان "الكل يتربص بنا ويشحذون سكاكينهم"، وبعد سرد حول استنباط درويش ما قاله أبو عمار لزياد، وكأنه كان معهما، خاطبه بأن "طمئن أبو عمار، وقل له إن محمود درويش لا يخذل شعبه ولا مرّة واحدة".

في صنعاء حيث كان المؤتمر، كان أبو عمار في انتظار عبد الفتاح، ومعه أبو جهاد وأبو الهول وهاني الحسن.. "أدركتُ بعد مدى ما يعقدونه عليّ من رهان لإنجاح التجربة، ولم أشهدهم من قبل وهم يتسابقون للفوز بشرف حضورهم.. شاركت في المؤتمر العام للكتاب والصحافيين منذ الولادة والتأسيس والنشوء، ولم يكترثوا كثيراً أو قليلاً إلا ياسر عرفات ، الذي أدرك خطر الدور الذي يمكن أن يصعد به الكتاب والصحافيون والمثقفون"، ومع ذلك نجح المؤتمر، رغم ترنحه بين أكثر من خذلان، وهو ما تحدث فيه الاثنان لاحقاً.

معين بسيسو

وتطرق عبد الفتاح إلى رد فعل الرئيس الشهيد ياسر عرفات حين وردته برقية تفيد بوفاة الشاعر معين بسيسو في لندن، وكيف قطع زيارته إلى السنغال، أما محمود درويش فأصابه "قلق، وقال حانقاً: كيف يموت هذا الزوبعة العاصفة الإعصار! كنتُ مرشحاً أكثر منه. ألم أمت في المستشفى قبله، ونجوت، ألم يقل لك الطبيب في فيينا بأنني متّ مرتين وعدت؟ لماذا لم يعد مثلي! كان يحب الحياة أكثر منّا جميعاً، فلماذا يغدر بها، ويفارقها؟!".

الخروج من بيروت

ومع تقليب صفحات "صاقل الماس"، تتعثر على حكاية درويش والخروج من بيروت كما يرويها عبد الفتاح.. "كنا خرجنا من بيروت قبل شهور، والتقينا مثلما كنا نلتقي في كل مرّة، أتفقده ويفتّش عني، في كل يوم من أيام الحصار، فلا نهدأ حتى نلتقي (...) ذهبنا نفتش عن محمود درويش، أنا ورفيقي ومرافقي وسائقي أحمد سعيد عيد، الذي كان مسلحاً بمسدس وبرشاش كلاشينكوف أخمص حديد، شجاعاً ومقداماً ولا يهاب.. لم يطل بنا الوقت، فلقد كنا نحفظ مزاجه وعاداته. لم يهبط طوال الحصار إلى ملجأ قط.. رحنا نمسح شوارع بيروت شارعاً وزقاقاً، نتفقدها ونفتش في كل زاوية وعطفة فيها. صاح أحمد سعيد فجأة: ها هو، إنه هناك في آخر الشارع، وانطلق نحو قبل أن يغيب في شارع آخر، لم أره على ذلك النحو من الغيظ والحقد والغضب، كما رأيته في تلك اللحظات".

وسرد عبد الفتاح كيف حاصر جنود الجيش الإسرائيلي البناية التي يقطنها في بيروت، وكيف ساهمت جارته سهى في تهريبه، بعد أن أخفى أي أثر لساكن في شقته، وأطفأ النار على قهوة كان ينوي ارتشافها في صباحه ذاك، سهى التي أخبرت عبد القادر غوقة سفير الجماهيرية الليبية "العظمى" فوق العادة في لبنان، وهو من عشاق درويش وشعره.. "لم تمضِ ساعات حتى كانت سيارة السفير الفارهة، التي تحمل علم الجماهيرية الليبية تمرق بمهابة وأناقة، شوارع بيروت الغربية، عابرة الحواجز الإسرائيلية إلى بيروت الشرقية، مجتازة كمائن القوات اللبنانية، وحواجز الكتائب والمليشيات، وكل حواجز أخرى إسرائيلية، عُبّدت لها وأمامها الطريق".

كان السفير يرافقه في السيارة التي أقلته إلى طرابلس، وأمنت له سيارة أخرى تذهب به إلى دمشق، التي بدأ فيها فصل جديد من حكاية درويش وعبد الفتاح، حيث كان كل منهما يبحث عن الآخر.

وما زال متسع للحديث

الحكايات كثيرة، ومتشعبة، منها اهتمامه بالنسخة الأولى من مسابقة "سوبر ستار" وتصويته للمغنية الأردنية ديانا كرزون، ومنها عشقه الكبير لكرة القدم وتحديداً مارادونا، هو الذي كتب عنه مقالاً في "اليوم السابع" التي كانت تصدر في باريس، كما عشق المنتخب الفرنسي، وشجع فريق "بالستينو" في تشيلي، فيما لم تكن ترق له المباريات العربية، فهو، كما قال عبد الفتاح، لم يكن قد شهد أو عاصر محمد صلاح، و"ريتا" التي هي "اسم شعري لصراع الحب في زمن الحرب"، كما وصفها درويش (...) درويش الذي قال: "أنا موظف لدى الشعر".