ربما لشعورنا الدائم بالخذلان، يخرج بعضنا بين الحين والآخر بتصريحات غير موفقة كأن يقول أحدهم "موقف أوروبا تجاه خطة الضم... لغة باهتة وأقرب إلى التواطؤ" أو يجعل آخرون من مسألة تمويل الاتحاد الأوروبي قضية وطنية على قدر من الأهمية والخطورة. الواقع، أننا في عالم شديد البؤس والظلم ولسنا في حاجة لصناعة مزيد من الأعداء، فلدينا الكثيرين، هذه المقالة محاولة لفهم مواقف الاتحاد الأوروبي تجاه المسألة الفلسطينية من منظور تاريخي وعملي.
نبذة
عاشت أوروبا انشقاقات كبرى منذ الإمبراطورية الرومانية، تارة بين شرق يوناني وغرب لاتيني، وتارة أخرى بين شرق شيوعي وغرب رأسمالي. ظهرت فكرة أوروبا الموحدة خلال القرن 19، مستوحاة من الأفكار الليبرالية للثورتين الفرنسية والأمريكية.
فور انتهاء الحرب العالمية الثانية تشكل مجلس أوروبا (1949) لبناء السلام؛ ركز المجلس على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. تعود أصول الاتحاد الأوروبي، إلى الجماعة الأوروبية للفحم والصلب (1951)؛ الجماعة الاقتصادية الأوروبية (1957). يضم الاتحاد في عضويته 27 دولة، ويتكلم 24 لغة، عدد سكانه 450 مليون نسمة، والناتج المحلي الإجمالي لدوله 15.5 تريليون دولار (2019).
يمتلك الاتحاد نفوذًا وتأثيرًا خارج القارة العجوز من خلال: السياسة الخارجية المشتركة، المساعدات الإنسانية من خلال "ECHO" وأيضًا التعاون الدولي وشراكات التنمية، وأخيرًا عضوية الناتو، والمساهمة في بعثات السلام (قوات الأمم المتحدة).
اليسار الأوروبي
لفترة طويلة اعتبرت الأحزاب الشيوعية الاتحاد الأوروبي بمثابة محاولة برجوازية للتضحية بالمصالح الوطنية من أجل حماية مصالحها الطبقية، وفي أجواء الحرب الباردة اعتبره البعض "أداة" تستخدمها القوى الغربية في مواجهة مد "الاشتراكية" الذي لا يقاوم؛ بعد انهيار الاشتراكية اختلف الخطاب نبرة ومضمونًا.
حلت "الأوروبية"، محل "الأممية" وراح اليسار يطالب الاتحاد بإضفاء مزيد من الطابع الاجتماعي والديموقراطي على سياسته. طرح الحزب الشيوعي الفرنسي برنامجه الانتخابي في الانتخابات الأوروبية 2019 بوصفه بديلًا لسياسة ماكرون، واستعادة أوروبا من أجل الناس وليس أوروبا من أجل المال؛ التشغيل من أجل حياة كريمة، إعلان الطوارئ بخصوص تغير المناخ، والدعوة لتبني نموذج زراعي وصناعي جديد، إنهاء العقوبات على روسيا، خروج فرنسا من حلف الناتو. كان المأخذ الأساسي لليسار على الاتحاد انحيازه لليبرالية الجديدة، علمًا أن اليسار ذاته يتحمل المسؤولية، فقد فشل أثناء وجوده في السلطة، في ترك بصماته المميزة، وظلت أجندة السياسة اليسارية راسخة بقوة في منطق الدولة الوطنية. ومن المفارقات، أن اليسار الأوروبي في حالة من الانحسار على وجه التحديد، بينما تعمل "الظروف الموضوعية" لصالحه.
ما بعد كورونا
تفيد استطلاعات للرأي أن أزمة كورونا (التي جاءت في أعقاب الأزمة المالية، وأزمة اللاجئين، والطوارئ المناخية)، وعلى عكس التوقعات، زادت من التأييد لبقاء أوروبا موحدة. لقد غير الوباء الطريقة التي ينظر بها الأوروبيون إلى العالم، وتاليًا، إلى دور الاتحاد الأوروبي. أدرك القوميون أن التعاون الأوروبي هو السبيل الوحيد للحفاظ على دولهم، كما رأى المؤيدون للاتحاد أنه في عالم محصور بين صين بينغ وأمريكا ترامب، فإن أفضل أمل لأوروبا يكمن في الحفاظ على قيمها وتعزيز "سيادتها الاستراتيجية" بدلاً من الاعتماد على المؤسسات العالمية المتعددة الأطراف. أوروبا في حاجة للاتحاد لمواجهة الصين والولايات المتحدة وعمالقة التكنولوجيا الرقمية (فيسبوك وهواوي) والحد من انتشار الشعبوية. ربما ساعد كورونا في علاج الفيروس السياسي؛ فالشعبوية تتراجع. الأوروبيون في حاجة إلى الاتحاد خوفًا من فقدان السيطرة في عالم خطير، يميلون نحو تعزيز السيادة الوطنية، ولكن في إطار أوروبا "الضرورة وليس الاختيار".
الموقف من فلسطين
منذ أزمة السويس وحتى أوائل سبعينيات القرن الفائت أهملت أوروبا الغربية البعد السياسي للمسألة الفلسطينية، لكن موقفها اتسم بالتحول التدريجي حتى وقع اعترافها بالحقوق المشروعة للفلسطينيين (1973)، وبحق تقرير المصير بمشاركة المنظمة من خلال التفاوض (إعلان البندقية 1980)؛ تبنت أوروبا مقاربة حل الدولتين واعترفت ب القدس عاصمة لنا (2009). يرى البعض أن سياسات أوروبا تبدو غير متسقة تجاه المسألة الفلسطينية، فهي تدين الممارسات الإسرائيلية، لكنها في ذات الوقت تعزز علاقات التعاون والشراكة مع إسرائيل.
في الواقع، وبالرغم من كل الشكوك، ومنذ بيان البندقية لعب الاتحاد الأوروبي دورًا مناصرًا للفلسطينيين على أكثر من مستوى وصعيد (رغم الانقسامات الداخلية وتصعيد خلافات الأعضاء وممارسة الضغوط الإسرائيلية والأمريكية). فقد أدان بناء المستوطنات، ووسم منتجاتها؛ شكلت بلدانه ملاذًا آمنًا لكثير من أبناء الشعب الفلسطيني بعد حرب بيروت 1982، والانتفاضة الفلسطينية (1987)؛ قدم الدعم السخي في جميع المراحل ما ساهم في تعزيز الصمود وتيسير الخدمات وتطوير البنى التحتية وخلق فرص العمل وبناء وتطوير المؤسسات؛ شارك في اللجنة الرباعية وطور موقفًا مميزًا تجاه فكرة الدولة، وخاصة التشديد على أن الإطار القانوني يتمثل في قرارات الأمم المتحدة (242، 338، 1379)؛ اعترف بالمنظمة ودعم السلطة وشكل عونًا دائمًا لها، وفتح قنوات اتصال مع حركة "حماس".
لا زال الاتحاد الأوروبي يمثل الداعم الأكبر للفلسطينيين اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا، وقد عبر عن رفضه لمخطط الضم وشكك في جدوى صفقة القرن، لكن إسرائيل لا تألوا جهدًا في سبيل إضعاف الموقف الأوربي أو تحييده، وهي تستغل علاقاتها الاقتصادية وجماعات الضغط اليهودية وتأثير الولايات المتحدة لضمان أن يبقى موقف الاتحاد الأوروبي ضعيفًا وغير مؤثر؛ موهمًا نفسه بعكس ذلك من خلال "استراتيجية الزعيق".
يربط البعض قدرة الاتحاد على اتخاذ موقف موحد تجاه القضية بعدة عوامل؛ الهولوكوست والإحساس بعقدة الذنب والرغبة في التكفير أو استجابة للابتزاز، صعود اليمين، الارتباط باتفاقات اقتصادية وأمنية استراتيجية، وأيضا المقايضة التاريخية (حل المسألة اليهودية في أوروبا مقابل رأس حربة استعمارية في المنطقة).
اتسم عقد الثمانينيات بكسوف الدور الأوروبي فيما يتعلق بالصراع، كانت رياح التغيير ليست في صالح الفلسطينيين، بينما انحازت تاتشر إلى الولايات المتحدة ورفضت أي مبادرة أوروبية تتعارض معها، واصلت فرنسا ميتران لعب دور محدد ومحدود. شكلت الانتفاضة 1987 تحولًا هائلًا على صناع الرأي والسياسة في أوروبا. مع اندلاع الانتفاضة الثانية، ووصول شارون إلى الحكم، وإعلان الحرب على الإرهاب في أعقاب أحداث سبتمبر 2001 تجاهل الأمريكيون السلطة الفلسطينية ورئيسها ما شكل خلافًا مع الاتحاد الأوروبي. في مواجهة سياسة شارون المدعوم من الرئيس بوش الابن، وقف الاتحاد الأوروبي عاجزًا حتى عن انقاذ المرافق والبنى التحتية التي مولها هو نفسه من التدمير، وأيضًا ترك عرفات يلقى مصيره منفردًا.
في السنوات الأخيرة، بدا أن الاتحاد الأوروبي يظهر بوصفه فاعلًا سياسيًا، وليس مجرد داعمًا ماليًا في إطار التسوية المتعثرة. تبنى أوباما تقريبًا موقف الاتحاد الأوروبي من القضية الفلسطينية، ومع ذلك، ظل عدم التوافق بين الخطاب الأوروبي والممارسة باديًا للعيان وقويًا. مع فوز ترامب بات الأمر ينذر بتعميق التباينات بين الطرفين.
ومع كل ما سبق؛ لماذا علينا أن نهتم بموقف الاتحاد ونحرص عليه؟
(1) سيكون لسياسة ترامب عواقب وخيمة؛ إنه يخاطر بتفاقم الصراع في الجوار المباشر لأوروبا ويقوض المعايير الدولية المعمول بها والقانون الدولي.
(2) تتعالى الأصوات داخل أوروبا تدعو إلى "دور سياسي للاتحاد الأوروبي في عملية السلام يتناسب مع دوره الاقتصادي"، وأن على أوروبا أن تتحرك فورًا لمعالجة التدمير المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.
(3) الصراع الممتد في المنطقة يهدد مصالحها؛ من حيث الفوضى وانقطاع إمدادات الطاقة والتطرف والإرهاب داخل أوروبا وبالطبع تدفق اللاجئين، وذلك كله مع إقليم تجمعه تاريخيًا مع أوروبا علاقات اقتصادية وثقافية وسياسية متعددة الوجوه.
(4) لن يتمكن الاتحاد الأوروبي من مواصلة دعمه التقليدي لإسرائيل طالما تمارس العنف والعنصرية وتنتهك حقوق الفلسطينيين وتتنصل من الالتزامات، لأن ذلك يعد انتهاكًا كاملًا وفظًا لقيم الاتحاد المعلنة والقانون الدولي. تنامي المشاعر الشعبية التي تنتقد بشكل متزايد سياسات إسرائيل.
(5) إن الفشل في ترجمة الخطاب إلى عمل لا ينبع من عبث الخطاب، ولكن من القيود المؤسسية، والاختلافات الهيكلية، كما يفسر بالأولويات المتباينة لكل دولة وطبقًا لذاكرتها التاريخية. سوف يظل للخطاب تأثيره الذي لا ينكر! تفهم إسرائيل ذلك جيدًا.
(6) فرصة لبناء إجماع أوروبي حول الاعتراف بدولة فلسطين؛ سيكون لذلك تأثير كبير. ينظر للاتحاد الأوروبي باعتباره مقياسًا للشرعية الدولية، باعترافه بمقدور الاتحاد أن يضفي الشرعية على دولة إسرائيل داخل حدود 1967 بينما ينزع الشرعية عن الاحتلال. الاعتراف يرسل إشارة إلى إسرائيل أن عليها أن تدفع مقابل المنح وتمويل الأبحاث. الاتساق والامتثال مع جميع سياسات وإعلانات بناء الدولة السابقة، مما يساعد على إعطاء سياسات المساعدة هدفًا سياسيًا وإطار عمل. أخيرًا الاعتراف واجب أخلاقي، في إطار العدالة والحقوق والقانون الدولي