Menu

مصطفى علي الزَبري (أبو علي مصطفي) في اللحظة الراهنة

د. وسام الفقعاوي

أبو علي مصطفى (1).jpg

نشر هذا المقال في العدد 17 من مجلة الهدف الرقمية

قد تكون الكتابة التي تتناول الأشخاص مهما كان دورهم أو وزنهم أو تأثيرهم مسألة إشكالية إلى حدود ما، خاصة أنه مهما بدا أن الشخصية التي سيتم تناولها في الكتابة متفق عليها، ستجد الاختلاف بشأنها يتأجج ويأخذ مناحٍ مختلفة؛ سواء من مواقع الاختلاف الموضوعي أو المفتعل. طبعًا مطلوب وفي كل الأحوال قراءة حدود الاتفاق والاختلاف بعين فاحصة ومدققة ناقدة، وعليه، يجب تجاوز الإرادوية والرغبوية أو إضفاء هالة من "القداسة" عن الشخص المكتوب عنه، رغم أنه في كل عصر هناك أنبياء، حملوا رسالة أمة بأكملها، وأعطتهم مكانة وحضور مختلف، ليس أقلها أن بعضهم مهر نبوته بالدم، وهل هناك ما هو أصدق من مسيرة "نبي" مُهرت بالدم، بقبوله ورضاه؟!

المسألة لا تتعلق بنبي قَبِل المشي على طريق من الأشواك، كي يُنبئ أمته بطريق خلاصهم فقط، بل مشى في الثورة ومعها، حيث فيها الأشواك والآلام والآهات وأوجاع الطريق، اللصيقة بالأحلام والآمال والطموحات وتحقيق الأهداف. لذلك عندما عَزمُت على الكتابة عن أحد أنبياء عصرنا غير المعصومين: أبو علي مصطفى ، فكرت مليًا قبل أن أبدأ، من أين وكيف أبدأ؟! هل أبدأ من أن أضيف له رثاءً؛ يصطف إلى جانب ما سبق من رثاء؟! أم أن مضمون الذكرى ودلالتها كما اللحظة الراهنة ودقتها وأبعادها يجب أن تتجاوز ذلك ذهابًا إلى صاحب الذكرى ذاته، من خلال: ماذا قال عن نفسه وعن مشروعه/حلمه الذي لم يكتمل بعد، خاصة أننا في أغلب الأحيان لا نتذكر كلمات أنبيائنا إلا بعد فوات الأوان أو عندما نغرق في "وحل" من الأزمات والانتكاسات والهزائم، لنعزي أنفسنا في الأغلب أو لنسقط عليها بعضًا من التراتيل المهدئة في زمن التوتر غير المجدي، إن لم تتحول كلماتهم إلى قبس في الواقع المُدرك؟!

هنا لم أتردد كثيرًا، بل وجدت من المجدي الغوص في العديد من كلمات صاحب الذكرى الميت شهيدًا على قيد مشروع/حلم لا يزال "قيد التنفيذ" المُتعثر بأداء منخفض المستوى، بكل مقاييس وحسابات الفكر والسياسة والتنظيم... وعليه، يحضر سؤال هل قرأناه "صح" أم أن العور أصاب عقولنا حد "العطب"؟

في محاولة الإجابة، سيحضر صاحب الذكرى مصطفى علي الزَبري "أبو علي مصطفى"، ليعطينا إجابات على أسئلة طُرحت سابقًا، لكنها لم تعطَ حق الفعل الذي لا يمكن أن يكون التبرير لعدم القيام بهذا الفعل، أن صاحب الكلمات/القول قد مات؛ لأنه حينها يجب أن يكون السؤال: هل نحن أحياء؟ لهذا اعتدنا أو درجنا – أن نستحضره – هو وغيره - قسريًا بمظاهر "طقوسية/احتفالية/مهرجانية".. لا تَذكُر من معاني ودلالات ذكرى الحضور الدائم سوى تاريخ قتله/اغتياله/استشهاده، دون الوقوف مليًا أمام سؤال: لماذا يستمر قتله/اغتياله؟! فهل خانتنا سطحية فراستنا وضيق أفقنا؟! لذلك أعلن "أبو علي" أننا لا زلنا في الجولات الأولى من الصراع رغم كل ما "مضى" من تضحيات جليلة وعظيمة..!

لذلك أدعوكم باسمه، لتتحملوا معي مشاق قراءة مطولة قليلًا لنبي ترجل ولم تَخُنه فراسته وشجاعته ونجابته وسعة أفقه وصدقه وانتمائه والتزامه الوطني والقومي... حد الشهادة.. وأبدأ بسؤال طرحه في حفل استقباله في بيت حانون، جاء فيه: "هل نبقي على هذا الحال في الوقت الذي يُنفذ عدونا مخططاته ضد شعبنا وحقوقنا الوطنية، وليس (الطرف الآخر)، أم علينا أن نتحد بمفاهيمنا نحو هذا العدو؟! مطلوب أن يسأل كل واحد منا نفسه هل نقبل هذا الوضع أم علينا أن نعيد النظر في هذا الحال؟! إن ما يجري باستمرار الحال الراهن لا يمكن أن يحمي القضية الوطنية، بل يبدد الوقت كما يبدد الأرض، لذلك ضعوا هذا السؤال على طاولة البحث حتى نُوحد الموقف والسياسة والتنظيم، يجب مصارحة الذات. لا بد من استخدام الوقت، ولا يجوز لنا بعد اليوم من هدر الوقت الذي يستخدمه العدو الصهيوني في تنفيذ سياسته وبرنامجه".

وحول المفاوضات والموقف منها، ففي كلمته في مخيم/معسكر جباليا، قال: "صدقوني إننا سندفع المزيد من حسابنا الخاص، ومن رصيد قضيتنا العادلة، من الأجدر بنا أن نقول للعالم، هذه مفاوضات لن تستمر ما دام العدو لا يعترف بحقوقنا. إن الزمن يعمل عكس صالحنا، إنه يسير لصالح حساب الإسرائيليين، فهم يطبقون برنامجهم على الأرض، نحن بحاجة على إحداث صدمة سياسية تعيد الاعتبار لقضيتنا، وأن تضع سياسة جيدة، ونقول للعالم: وهذا ليس مطلوبًا منا، فنحن لم نكن مع المفاوضات ولا مع أوسلو، مطلوب ممن أوجدوا أوسلو أن يقولوا للعالم: لقد حاولنا وقدمنا وتنازلنا وقبلنا باتفاق مجحف، ورغم ذلك عدونا يماطل ويرفض قرارات الشرعية الدولية ومنطق العدل الدولي".
وانطلاقاً من قناعته بترابط الوطني التحرري والاجتماعي الديمقراطي الذي لم نجد ممارسته طوال تجربتنا المنصرمة، يقول: "علينا ضرورة الربط بين النضال التحرري والنضال الاجتماعي، بمعنى كيفية تأمين قاعدة اجتماعية على أسس ديمقراطية، تمثل قاعدة فعل مادي للنضال التحرري".

وفي ضرورة الربط بين التكتيكي والاستراتيجي، حيث أن تجربتنا أوصلتنا إلى أن ما أسميناه تكتيكًا – وهو ليس كذلك – انتهك الاستراتيجية حد الاهتراء، لهذا يقول: إن "توحيد مفهوم الربط بين المرحلي والاستراتيجي ضرورة لا بد منها؛ فمثلًا الحديث عن فلسطين في حدود 67 أو غيرها، هل هذا كافٍ للتعبير عن طموح الشعب الفلسطيني؟ نحن لا نرى أن الدولة الفلسطينية تنتهي عند حدود 67 حتى لو أُعلنت على أراضي تلك الحدود كاملة، هي حسب المفهوم الإسرائيلي مختلفة عما نفهمه، فإن هذا لا يعني إلغاء الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وإلّا فعلى ماذا كنا نناضل قبل عام 67؟!".     
وحول أهمية ومكانة ووظيفة ودور منظمة التحرير الفلسطينية، وفي كلمته التي ألقاها في مخيم/ معسكر خان يونس، قال: "نحن لنا عنوان هو منظمة التحرير الفلسطينية، نعتبرها المرجعية الفلسطينية، نعتبرها العنوان الذي جرى تغييبه عن الحياة السياسية، ونعتقد بضرورة إعادته إلى دوره وإعادة مكانته ليستطيع تجميع الشعب الفلسطيني وتوحيده. ولا يظن أحد أنه يمكن أن يكون أي عنوان آخر بديلًا عن منظمة التحرير الفلسطينية، مهما كانت المساومات أو التخلي عن برنامجها وميثاقها... واقترانًا بهذه النقطة نرى من حق المواطن الفلسطيني أن يتساءل عن أسباب هذا التهميش؟ وعن أي منظمة تحرير تتحدثون؟     
نحن نقول لا بد أن نميز بين منظمة التحرير الفلسطينية كعنوان والمؤسسات التي يجب إعادة بناءها بشكل يعيد الثقة للشعب الفلسطيني، كي تتوفر الإمكانية لإعادة بناء البيت الفلسطيني على أسس سياسية وتنظيمية جيدة".
أما حول البعد القومي للقضية الفلسطينية وفي إطار تشخيص لواقع النظام الرسمي العربي وما هو المطلوب في هذا الجانب، وتحديدًا الشعبي منه، وفي مقابلة مع الكاتبة والأديبة الفلسطينية دنيا الأمل إسماعيل، يقول: "أُدرك أن النظام الرسمي العربي ليس نظامًا واحدًا مُنسجمًا، ففيه فريق يُحبذ أن نعفيه من المسؤولية أمام جمهوره، وتبريره أننا نحن أصحاب القضية، قد قبلنا بهذا الوضع، فلماذا هو يتحمل المسؤولية، وقد سمعنا كلامًا من هذا القبيل، وهو في حقيقة الأمر كان يتمنى أن يحدث ذلك لِيُعفى من مسؤولياته تجاه فلسطين. وهناك فريق راضٍ عما يحدث، من منطلق أنه هو نفسه قد دخل التسوية، ويريد للكل أن يكونوا مثله، فلماذا يعزف هو منفردًا، في حين بالإمكان وجود فرقة تعزف معه لحن التسوية. وهناك فريق ثالث غير راضٍ عما يحدث، لكنه لا يعبر عن عدم رضاه بفعل مضاد، ويتحدث بلهجة سلبية... رغم ذلك التشخيص، يجب الربط بين الوطني والقومي، واعتبار أن بُعدنا القومي يشكل ركيزة إستراتيجية في الصراع مع العدو الصهيوني، ولا يجوز أن تُقاس الأمور على شكوى هذا النظام أو ذاك، والتركيز على البعد الشعبي العربي الفعّال، لقد كان معنا آلاف المقاتلين العرب، الذين قاتلوا معنا في مرحلة الكفاح، وقد استشهد منهم من استشهد وأسر من أسر".   
وحول أهمية التنظيم والتخطيط المفقود في واقعنا القائم، وفي كلمته أمام الأطر النقابية في قطاع غزة، قال: "أنا أعتقد أنه إذا لم يرتقِ العامل الفلسطيني إلى مستوى القدرة على التخطيط والتنظيم من خلال المؤسسات الفلسطينية الفعّالة، فلا يعتقد ولا يظن أحد أنه مهما حَسُنت النوايا سنحقق إنجازات وطنية كُبرى، فالمسألة ليست بتعداد الشهداء وتعداد الأسرى، بل يجب أن تتطور لحد بناء بُنية سياسية تنظيمية كُبرى على مستوى الوطن الفلسطيني والوطن العربي. لماذا أقول ذلك؟ لأن لا أحد يقدر أن يخفي أننا نعاني من واقع فشل أو هزيمة أمام المشروع الصهيوني، وعلينا أن نصارح النفس بأنه مع كل التضحيات، فإن المشروع الصهيوني لا زال يتقدم على حساب المشروع الوطني التحرري الفلسطيني العربي".       
وفي ضرورة بناء الثقافة الوطنية الفلسطينية التي تتعرض للتزييف والتزوير وكي وعي أصحابها، وفي كلمته أمام أكاديميي وطلاب جامعة الأزهر بغزة، قال: "نعم هناك من استعد لتغيير التاريخ. صحيح نحن نعرف أنه ليس منا من يفرط بالوطن لا في الحاضر ولا في المستقبل، لكن علينا أن نحمل هذا الإيمان للمستقبل ونورثه للأجيال. ابنوا ثقافتكم الفلسطينية حتى يُستكمل مشروع تحرير فلسطين، لأن الأجيال القادمة ستلعننا إذا ما زورنا التاريخ، ستلعن الجميع، وستقول من أجاز لكم أن تلعبوا بالتاريخ؟ قد يكون هناك وسطاء فيما يتعلق بتكييف الواقع مع السياسة، لكن لا يجب مصادرة المستقبل". 
وتأكيداً على أهمية بناء الذات والتوظيف الأمثل لأدوات المقاومة، وفي كلمته في مخيم/معسكر النصيرات، يقول: "هل أدواتنا وأدائنا يتناسب مع المهمات المناطة بنا في مرحلة التحرر الوطني التي نعيشها؟ إنه سؤال من أصعب الأسئلة على النفس وأقصاها... وعليه فإننا نقول لأنفسنا جميعاً؛ يجب أولًا: أن تُبنى الذات جيدًا، بناءً سياسيًا وديمقراطيًا واجتماعيًا وثقافيًا، حتى نواجه العدو بما نملك من أدوات المقاومة؛ المقاومة التي هي حق مشروع لنا ضد عدونا، من دون أن ننسى أن هناك الكثير من المفاسد والعيوب التي يجب اقتلاعها من الجانب الفلسطيني حتى نقوي العامل الفلسطيني.        فلا حرية ولا استقلال ولا قوة لنا بدون أن نكون أقوياء حقًا بذاتنا، من داخل أنفسنا (فإن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم). غيروا ما في أنفسكم أولًا، وأعملوا بصدق من أجل وطنكم وحقوقكم، فالثورة الفلسطينية ليست مشروع اقتصادي، بل هي بوصلة دم، وبوصلة عظم. إن قولنا بالوفاء لدماء الشهداء يُملي أن نكون في مستوى دماء الشهداء".