Menu

كتاب موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور للمفكر غازي الصوراني (ح 60)

غازي الصوراني

خاص بوابة الهدف الاخبارية

(تنفرد بوابة الهدف، بنشر كتاب المفكر غازي الصوراني، المعنون: موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور، الصادر عن دار الكلمة للنشر والتوزيع، في يونيو/ حزيران 2020، على حلقات متتابعة.. قراءة مثمرة ومفيدة نتمناها لكم).

الباب الرابع

الفلسفة الأوروبية في العصور الوسطى

الفصل العاشر

أبرز فلاسفة القرن التاسع عشر

الإنسان والتاريخ عند ماركس:

الإطار الاجتماعي لفكر ماركس:

القرن التاسع عشر كان عصر الامتحان الكبير لفكر مفكري البورجوازية التي انتصرت نهائياً في كافة أقطار أوربا على وجه التقريب. فبعد أن دخلت مرحلة الاستقرار، لم يعد يقف في طريقها ما يحول دون ترجمة أفكارها التي كانت تحملها للإنسانية إلى أفعال، فماذا كانت نتيجة الامتحان بالنسبة إلى ماركس؟

لقد كان ماركس في وضع يسمح له بالإجابة عن هذا السؤال، فهو لم يكن ألمانياً بقدر ما كان فرنسياً وانجليزياً، وفي نهاية المطاف مواطناً عالمياً، والحق أن تلك الميزة لم تتحقق لغيره من الفلاسفة، ولذلك كان أكثرهم أصالة، وأعمقهم إبداعاً.

والذي أعنيه بذلك –كما يقول د. حامد خليل- "هو ان "ماركس" لم تكن تقتصر معايشته على واقع محدد بالذات، كواقع ألمانيا على سبيل المثال، حتى تكون أفكاره محكومة به وحده، وصدى له من دون سواه، مثلما كان يحدث مع الفلاسفة السابقين من أفلاطون حتى هيجل، وإنما كانت تلك المعايشة من الاتساع، بحيث يمكننا القول إنها شملت واقع حياة العالم كله، قديمة وحديثة، فمن جهة كان ماركس قارئاً نهماً للتاريخ، أكسبته تلك القراءة خبرة عميقة بواقع حياة القدماء أسهمت بدورها في كشفه الكبير حول القوانين الأساسية للتطور الاجتماعي، أو قوانين تكون الإنسان عبر التاريخ، ومن جهة أخرى، فان تنقل ماركس من بلد أوربي إلى آخر لا كسائح، وإنما كباحث وثوري وصاحب قضية، أدى إلى أن تكون الساحة الاجتماعية الأوربية كلها ميدان تجربته، ولا شك ان ذلك سيكون له تأثيره الشديد على إحداث نقلة كبيرة في فكره من النطاق المحلي إلى نطاق أكثر اتساعاً وشمولاً، هو النطاق العالمي، أو نطاق الإنسان بما هو كذلك، وهو الأمر الذي لم يتحقق لفيلسوف غيره من قبل"([1]).

وفي باريس، اطلع ماركس على تجربة المعارك التي خاضتها القوى التي اكتشفت أن تلك الأفكار "الإنسانية" التي حملتها الثورة الفرنسية لم تكن سوى قناع للإمعان في تكريس تبعيتها وقهرها واستغلالها من قبل قوى جديدة حلت محل القوى القديمة، ووسيلة لتحقيق مصالح طبقة معينة بالذات على حساب تلك الجموع التي كانت وقود الثورة المذكورة.

وقد تعلم من تلك التجربة ومن تجارب أخرى ماثلة (الحركة الشارتية 1838 – 1842 في انجلترا، وثورة عمال النسيج في سيليزيا، وعمال مصانع بوهم في ألمانيا عام 1844) أن الأفكار ليست في واقع الامر سوى ترجمة عملية أو تلخيص لمصالح طبقية معينة، وأن المطلوب هو قلب جذري للبناء الاجتماعي القائم، وتحويله إلى بناء انساني حقيقي، وأن الطبقة التي تعيش بجهدها الخاص وعملها هي وحدها التي يكون تحريرها تحريراً للإنسان بما هو كذلك.

كذلك اطلع في باريس على أفكار الاشتراكيين الفرنسيين؛ أمثال برودون وسان سيمون وفورييه وغيرهم، وقرأ مؤلفاتهم، فتبين له أن مسألة تحرير الإنسان ليست مسألة أخلاقية، وإنما تخضع لقوانين علمية موضوعية وذاتية يتعين على كل من يسعى إلى التحرر اكتشافها، والقتال من أجل وضعها موضع التنفيذ.

وفي باريس وانجلترا أيضاً، قرأ – بصحبة انجلز ومعونته- الأفكار الاقتصادية الكلاسيكية، ورأى بأُم عينه كيف يتحول "العمل" بموجب تلك الأفكار، وعلى أرض الواقع، من كونه قيمة إنسانية إلى بضاعة تباع وتشترى، ويتحول الإنسان حامل تلك القيمة، نتيجة لذلك، من انسان يفترض ان العمل يحقق له انسانيته، إلى أداة تقتصر وظيفتها على تشغيل عجلة الإنتاج الدائرة([2]).

لقد قرأ أثناء إقامته في باريس أفكار الثورة الفرنسية الإنسانية، لا كأفكار نظرية مدونة في كتب فلاسفتها فحسب، وإنما كأفكار – قوى تتحقق الآن على الأرض، فأدرك بعمق كيف تصبح الفكرة الإنسانية وسيلة قهر وتدمير للإنسان، وتتحول إلى نقيضها حين لا تقترن بشروط تحققها المادية والاجتماعية والإنسانية.

ولتوضيح ذلك نمثل له بفكرة الحرية، ان الإنسان الذي يفترض أن الحرية هي الشرط الاساسي لارتقائه وتفتح قواه العقلية وإبداعه، سوف يكون تابعاً باسمها لإنسان آخر إذا لم تقترن بشرط تحققها المادي، الذي هو المساواة بين الناس في كافة الميادين الاجتماعية والثقافية والاقتصادية

فإذا كان أحد يملك أكثر مما يستطيع تشغيله بنفسه، بينما لا يملك الثاني شيئاً، فان تبعية هذا الاخير للأول ستكون محتمة، وباسم الحرية ذاتها، حرية أن تَستَخِدم وحرية أن تُستَخدَم  ولا يقل عن ذلك أهمية اقتران الحرية بشرط تحققها الاجتماعي، لئلا تصبح وسيلة تدميرية للإنسان، عوضاً عن أن تكون شرطاً لارتقائه.

فحين لا يكون بناء مجتمع متقدم شرطاً أساسياً لتحقق الحرية تحقيقاً فعلياً، فلا يوجد ما يمنع عندها المقتدرين من الناس من أن ينتجوا ويبنوا ويمارسوا، باسم الحرية ذاتها، ما يؤدي إلى انحدار المجتمع، وبالتالي انحدار الإنسان، كالمخدرات، والسلع الاستهلاكية، وأوكار الدعارة، وتجارة الاجساد البشرية، وما إلى ذلك.

أما عن الشرط الإنساني، فإن عدم اقتران فكرة الحرية به، أعطى الفرصة لنابليون على سبيل المثال ليغزو معظم أنحاء أوربا، ومناطق أخرى من العالم، وللأوربيين الآخرين لكي يستعمروا دول العالم الثالث، وللصهيونية لكي تقتلع شعباً بأسره من أرضه، ولتجار الرقيق ودعاة التمييز العنصري فيما ارتكبوه من جرائم إنسانية، وكل ذلك باسم الحرية. ولا أعتقد أن الأمر يستدعي المزيد من التوضيح أكثر من ذلك([3]).

على أن الأهم من ذلك كله، هو ان "ماركس" نفذ إلى أعماق حياة الأوربيين، فاكتشف إلى أي حد أسهم الفكر والممارسة البورجوازيان في تشويه الإنسان، العامل والرأسمالي على حد سواء، وتحويله من كائن بشري إلى شيء من الاشياء، وقد كان لذلك الاكتشاف الدور الاساسي في تكوين فكره الذي هدف إلى انقاذ آدمية الإنسان التي أصبحت مهددة، وتحريره، والارتقاء به إلى المستوى الذي يليق به بوصفه إنساناً.

فماذا اكتشف يا ترى كما يسأل المفكر الراحل د. حامد خليل؟

يجيب قائلاً: "لقد اكتشف ماركس أن الممارسة البورجوازية انحرفت "بالعمل" من كونه ميداناً رحباً لصياغة الشخصية الإنسانية، وازدهار قواها وتنميتها، وتحريك فاعليتها، تحويل مشاعرها من مشاعر تتمركز حول ذاتها إلى مشاعر إنسانية شاملة، وكذلك تحويل طبيعتها من طبيعة طبيعية إلى طبيعة إنسانية عاقلة وذلك بتحويل حاجاتها من حاجات القدرات الطبيعية للإنسان إلى قدرات عاقلة.

انحرفت به من النطاق المذكور إلى عمل مفروض ومغترب وعديم المعنى، مما أدى إلى تحويل الإنسان إلى كائن شوهه التخصص الآلي الضيق المبتور، وحال دون ارتقائه إلى مستوى الإنسان الكلي الشامل.

واكتشف أيضاً "أن الممارسة المذكورة، عوضاً عن أن تسعى إلى الاتجاه نحو نمط وموضوع جديدين من الإنتاج يهدفان قبل كل شيء إلى السير باتجاه تحقيق وفرة من الحاجات الإنسانية الاصلية التي تبعث الحياة في القوى الكامنة في الإنسان، وتحرضها، وتدفعها في طريق النمو والتطور، عملت على خلق حاجات غير إنسانية جديدة، لا لهدف الا لتحقيق الثراء وحده، فكل منتج في النظام البورجوازي أصبح لا يفكر الا في خلق حاجة جديدة مغتربة عند الإنسان الآخر ليس بهدف تطويره، وانما فقط من أجل إرغامه على أن يقوم بتضحية جديدة، وإغرائه إلى السير باتجاه نوع جديد من المتع الرخيصة الجديدة، ووضعه في علاقة اعتماد أو تبعية جديدة، وفي آخر المطاف سوقه إلى حيث يلقى حتفه الاقتصادي وما يترتب على ذلك من تهديم لقيمه، وانحدار مستواه الإنساني، وبكلمة واحدة تجريده من إنسانيته"([4]).

ماركس ونقده الجذري لمنهج هيجل:

بخصوص نقد ماركس لمنهج هيجل، فان النقد كان يدور حول نقطتين رئيسيتين، تتعلق الأولى بفهم هيجل للتاريخ، وتأثير ذلك على منهجه الجدلي، أما الثانية فتتعلق بطبيعة الجدل ذاته ووظيفته ومساره([5]).

لقد بين ماركس بالنسبة إلى النقطة الأولى، أن فهم هيجل للتاريخ محكوم بافتراض مُسبق أساسي، هو ان العقل هو الذي يصنع التاريخ، وأن الفكرة هي نسيج العالم، والأهم من ذلك أن نظام المفاهيم التي تؤلف العالم، إنما هو نظام كلي ناجز منذ البداية، أو قل إنه كلية ناجزة بلغة هيجل، ونتيجة لذلك يصبح التاريخ عند هيجل هو تاريخ تحقق مفاهيم الطبيعة البشرية المحددة مسبقاً بطريقة ميتافيزيقية خالصة، شأن هيجل في ذلك شأن أصحاب المناهج الميتافيزيقية، وتصبح فلسفة التاريخ على هذا الأساس مجرد كشف لتلك المفاهيم التي ليست هي سوى مفاهيم معدة مسبقاً وجاهزة في الفكر، وبذلك تكون فلسفة لتاريخ تطور الفكرة في ذلك الفكر، وليست أبداً فلسفة لتاريخ تطور البشر الواقعيين على الأرض الذين أسهموا كأفراد وكمجتمعات في صنعه، أي أن فلسفة التاريخ أصبحت على يد هيجل فلسفة فكرة الإنسان المجرد، عوضاً عن أن تكون فلسفة الناس الواقعيين الذين يصنعون هم تاريخهم على أرض الواقع.

والحق أن "هيجل" لم يلجأ إلى التاريخ لكي يستخلص منه القوانين التي تحكم حركة البشر والطبيعة فيه، وإنما لجأ إليه فقط لكي يختار منه الامثلة التي تتفق مع أفكاره المسبقة عنه. ولذلك حق لماركس أن يقول إن منهج هيجل كان في جانب من جوانبه على الأقل منهجاً ميتافيزيقياً.

على أن تلك الفلسفة بعد أن صيغت على النحو المذكور، كان لها تأثير كبير على تصور هيجل لوظيفة الجدل وطبيعته ومساره عل السواء، فبموجبها أصبح الجدل مقيداً في بدايته ونهايته، أي أصبح يتعين عليه الانطلاق أو البدء من فكرة "الكلية" الجاهزة، والانتهاء اليها، وبذلك يكون هيجل قد وضع المنهج الذي هو الجدل في خدمة المذهب، وحبسه فيه محظراً عليه تخطي حدوده، عوضاً عن أن يستخدمه كأداة لاكتشاف ذلك المذهب الذي لا يجوز أن يكون في بداية العملية، وإنما في نهايتها.

ولتوضيح هذه النقطة نقول إن "هيجل" كان يعتبر أن الناس لهم تاريخ، فقط لان الوعي يحتاج زماناً وفعلاً لكي يعرف ذاته، وأن الجدل هو المسار الذي يسلكه الوعي لانجاز هذه المهمة، وبالطبع فان الجدل المذكور سيكون على هذا الأساس جدلاً مثالياً من حيث طابعه، أي أنه جدل في الفكر، وليس أبداً جدل الواقع، أي جدل الناس الواقعيين الذين يصنعون أنفسهم ومجتمعاتهم وتاريخهم على أرض الواقع.

وبهذه الطريقة يكون هيجل قد قلب رأساً على عقب الترتيب الواقعي للكائنات والاشياء، انطلاقاً من مسلماته العقلية التي هي في جوهرها مسلمات لاهوتية.

على أن "ماركس" "لم يقف عند حدود النقد، وإنما تعدى ذلك إلى مرحلة البناء فقد اكتشف أنه لكي يكون في مقدوره اعادة الترتيب الواقعي للناس والاشياء بعد أن قلبه هيجل والميتافيزيقيون رأساً على عقب، فانما يتعين قلب الأساس الميتافيزيقي لمنهج الميتافيزيقيين إلى أساس علمي، وقلب جدل هيجل المثالي إلى جدل مادي، فتكون النتيجة تبني منهج علمي وجدلي في آن معاً، وحقيقة الأمر أن "ماركس" اكتشف أن المنهج لكي يكون منهجاً صحيحاً، يتعين ان يعيد المعلولات إلى عللها، والنتائج إلى مقدماتها، وهذا يقتضي منه القيام بدراسة تحليلية وتاريخية لحاضر البشر وماضيهم وهم يصنعون أنفسهم وتاريخهم، دون أن ننطلق من أية أفكار مسبقة أو مسلمات تحكم مسبقاً ما نقوم به.

بمعنى آخر، فان المطلوب هو أن تكون تلك الأفكار التي تتكون لدينا فيما بعد هي نتيجة للدراسة المذكورة، وليست سبباً لها كما كان يفعل الميتافيزيقيون، إذ على هذا الأساس وحده يكون المنهج علمياً.

ومن جهة أخرى، فان المنهج يجب أن يكون جدلياً، والسبب في ذلك هو أن تطور العلوم الطبيعية والإنسانية هو الذي يفرض ذلك، إذ أنه دون المنهج الجدلي لا يمكن التمكن من عقل الطبيعة والتاريخ اللذين هما في طبيعتهما جدليان"([6]).

فالعلوم المذكورة بينت أن بنية الطبيعة والمجتمع وطبيعة العلاقة بينهما، هما من التعقيد بحيث لا يمكن أي منهج أن يعقلهما الا إذا كان جدلياً. لكن الجدل المذكور يجب أن يكون مادياً عوضاً عن أن يكون مثالياً، وقد دفع ذلك ماركس إلى أن يقلب الجدل الهيجلي رأساً على عقب، بحيث يسير على قدميه، بدلاً من أن يظل يمشي على رأسه. وهذا يتطلب منا التوضيح، إذ كثيراً ما أسيء فهم هذه القضية، حتى أن بعض الشراح قالوا إن جدل ماركس ليس سوى جدل هيجل، مع فارق واحد فقط، وهو أن "ماركس، وضع لفظ "مادة" بدلاً من لفظ "فكرة" أنى وجدها عند هيجل، وبهذا الصدد فان النقاط الرئيسية التالية هي التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار هي([7]):

  1. إن الجدل عند هيجل طريقة يفرضها العقل على الاشياء، ويرغمها على السير بمقتضاها، فيكون بذلك جدلاً مثالياً، أما عند ماركس فهو انعكاس لعلاقة الاشياء الجدلية فيما بينها، في الفكر (علاقة الاشياء في الطبيعة، وعلاقة الناس فيما بينهم، وعلاقتهم بالطبيعة). ولذلك فهو جدل مادي طالما أنه انعكاس لعلاقات مادية، بمعنى آخر فان الجدل عند هيجل يقولب الاشياء تبعاً لمفاهيمنا، أما عند ماركس فانه يقولب مفاهيمنا تبعاً للعلاقات بين الاشياء، ومن هذه النقطة نقول إنه مادي.
  2. إن الكلية المثالية (الفكرة المطلقة) عند هيجل هي البداية التي ينطلق منها الجدل، ويستنبط كل شيء منها عقلياً، أما التناقض الذي هو المقولة المركزية في جدله، فليس سوى لحظة من لحظاتها، أي الطريقة التي تفصح عما في ذاتها من مضمون، ولذلك فان جدله، الذي هو رصد لتلك الطريقة، هو جدل مثالي، أما عند ماركس فان الجزئي الواقعي أو الخاص هو الأول الذي ينطلق منه الجدل، وأن الكلية تنشأ من التناقض الذي يولده صراع ذلك الجزئي الرامي إلى تجاوز نفسه بالضرورة، وبذلك تكون الكلية لديه لحظة من لحظات التناقض، ويكون جدله على هذا الأساس مادياً.
  3. إن جدل هيجل مغلق، من حيث أنه محدد في بدايته بالفكرة الكلية المسبقة، ومحدد في نهايته بتحقق تلك الفكرة تحققا عينياً، أي ببلوغ المعرفة المطلقة بالفكرة المذكورة بعد تحققها، وعلى هذا الأساس فهو جدل مثالي أولاً وأخيراً، أما عند ماركس فهو مفتوح، من حيث أنه غير محكوم في بدايته بأية فكرة مسبقة، وأنه ليس له نهاية، لأن عملية تَكَوُّن الكليات من التناقض في الواقع لا تنتهي، ولذا فهو جدل مادي في بدايته وفي مساره الذي لا نهاية له.
  4. إن لائحة مقولات الجدل وقوانينه مغلقة ومكتملة ونهائية عند هيجل، لأنها مقولات وقوانين محددة ومفروضة بالعقل وحده، ولذلك نقول إن جدله مثالي، أما عند ماركس، فان المقولات والقوانين المعروفة في أي وقت إنما تؤلف حصيلة مؤقتة لمعرفتنا بالعلاقات بين الاشياء والناس، والممارسة الاجتماعية والتجربة العلمية هما وحدهما اللتان تتيحان امكانية اثرائها وتطويرها، أي أنها لائحة مفتوحة ومرتبطة بحركة الواقع ذاته، ومن هذه الزاوية نقول إن جدله مادي، لأنه يجعل تحديد تلك المقولات، والقوانين من شأن تجربة الناس وممارستهم العملية، سواء في علاقاتهم بعضهم ببعض، أو في علاقتهم بالطبيعة.

بهذا القدر من المقارنة بين جدل هيجل وماركس، يمكننا القول، إن المسألة ليست عند هذا الأخير مجرد استبدال لفظ بلفظ، وإنما هي قلب حقيقي يتجلى في تحطيم المذهب الذي يقوم عليه جدل الأول، وإحداث تغيير جذري في مسار الجدل لديه، وتحويل نوعي في طبيعته، والخروج في نهاية الامر، وعلى أساس القلب المذكور، بنتائج تتناقض تناقضاً تاماً مع النتائج التي انتهى إليها هيجل، والأهم من ذلك كله أن القلب المذكور كان له تأثير كبير على طريقة دراسة ماركس للإنسان، وهو ما يعنينا في هذا المقام.

فعلى النقيض من هيجل، "انطلق ماركس في الدراسة المذكورة من الإنسان الواقعي، ومن الشروط الاجتماعية والاقتصادية التي اكتشف أن لها الدور الاساسي في تكوينه عبر التاريخ، ولم يبدأ أبداً من فكرة ذلك الإنسان كما تبدو لعقل يتخذ من التجريد الخالص منهجاً وحيداً له، وبذلك يكون ماركس قد قام بثورة كوبرنيقية في الفلسفة على العموم، وفي مشكلة الإنسان على وجه الخصوص، ففي فلسفته تم الانتقال جذرياً من التأمل الخالص إلى الممارسة، أو قل إنه بانتهاء ذلك التأمل بدأ في الحياة الواقعية العلم الواقعي الإيجابي الذي هو تصور النشاط العملي، أو تصور صيرورة تطور البشر العملي على حد تعبير ماركس نفسه"([8]).

الفيلسوف كارل ماركس.. وراهنية فلسفته:

كان ماركس فيلسوفاً مادياً جدلياً " رفض فهم الفلسفة على إنها علم مطلق، غريب عن الحياة العملية والنضال، مؤكداً إن مهمة الفلسفة والفكر الاجتماعي ليست بناء أو إنشاء Construction  المستقبل، ولا وضع نظريات تصلح لجميع العصوروالدهور، بل إن مهمتها " النقد الذي لايرحم لكل ماهو قائم، نقد لايرحم بمعنيين، لايهاب استنتاجاته الذاتية، ولا يتراجع أمام الاصطدام بالسلطات القائمة([9])، هكذا طرح ماركس مسألة نفي الفلسفة بمعناها القديم، " حب الحكمة " أو " علم العلوم"، إنه ضد عزل الفلسفة عن النشاط العملي، ولاسيما حركة الكادحين والفقراء التحريرية، فهو يقول " لاشئ يمنعنا أن نربط ممارستنا بنقد السياسة، بموقف حزبي معين في السياسة، أي أن نربط ونقرن نقدنا بالنضال الواقعي .

لذلك على كل حركات اليسار الماركسي العالمي عموما والعربي خصوصا ان يدركوا جيدا أن نظرية ماركس ليس بمستطاع احد ان يتجاوزها شرط ان نستوعب جيدا ايضا ان فهم ماركس للعالم- كما اكد رفيقه انجلز- "ليس مذهباً.. وإنما هو منهج. فهو لا يعطي عقيدة جامدة. وإنما يقدم نقاط انطلاق لبحث ما هو آت ". وكما اكد لينين من بعده على أن : "الماركسية ليست نموذجاً نظرياً للكون، وليست رسماً تخطيطياً ملزماً للجميع، وإنما هي طريقة وأسلوب لإدراك كل ما هو موجود في حركته وتغيره".

وإذا كنا نسلم بأن الحركة الشيوعية العالمية تعيش اليوم أزمتها . ترى ما هي طبيعة هذه الأزمة؟ هل هي من أمراض الموت؟ أم من أمراض النمو؟ يجيب المناضل الراحل نبيل الهلالي بقوله :في تقديرنا أن أزمة الاشتراكية من أمراض النمو، لأن النظام الاشتراكي العالمي بحسابات التاريخ لا يزال حديث الولادة، بالمقارنة بالنظام الرأسمالي العالمي الذي احتاج أربعة قرون لتثبيت أقدامـه على أرض الواقع.

لذلك ليس شاذاً أن يتعرض النظام الاشتراكي العالمي لأزمة نمو، ثم انهيار التجربة عام 1991، بعد انقضاء 74 عاماً فقط على تأسيس أول دولة اشتراكية في التاريخ. وليس نشازاَ في عرف التاريخ أن تنتكس الثورة الاشتراكية، لأن الثورات الاجتماعية عمليات طويلة معقدة مركبة، والتطور الاجتماعي لا يسير في اتجاه واحد، ولم يعرف تاريخ البشرية حتى الآن ثورة اجتماعية واحدة محصنة ضد الارتداد.

فالثورة البرجوازية في فرنسا ارتدت أكثر من مرة واحتاجت إلى ثلاث ثورات متوالية لتحقيق انتصارها النهائي على الإقطاع، كما أن الثورات الاجتماعية كالبحار يحكمها قانون المد والجزر، ومهما اشتد أو امتد الجزر، فهو لا يعني نضوب مياه البحر، ولذلك فإن إخفاق النموذج السوفيتي للاشتراكية لا يبرر الشطب بالقلم الأحمر على الماركسية اللينينية، تماماً كما أن موت المريض داخل غرفة للعمليات بسبب خطأ الجراح لا يبرر إلغاء علم الجراحة.

في هذا السياق، نقول: بالأمس البعيد هللت الرأسمالية العالمية يوم سحقت كوميونة باريس، غير أن ماركس رد على زعمهم بمقولة صادقة، قال ماركس " أن مبادئ كوميونة باريس خالدة، فلا يمكن القضاء عليها. إنها سوف تعلن عن نفسها من جديد، ومن جديد ما دامت الطبقة العاملة لم تتوصل بعد إلى تحررها". ولكن بفعل قسوة الصدمة، أو بدافع من الانتهازية والوصولية، هناك من غرق في الإحباط وهناك من فقد الاتجاه، وهناك من تنصل من ماضيه، وهناك من هجر الماركسية، وهناك من هرول إلى الخندق الليبرالي المضاد.

لكن يخطئ كل الخطأ من يعتبر الماركسية قد اندثرت، كما يخطئ كل الخطأ من يحكم على مستقبل الاشتراكية على ضوء حاضرها المأزوم، وسوف تثبت الأيام أن عاجلاً أو آجلاً، أن أزمة الماركسية مجرد لحظة عابرة في تاريخ البشرية.

حقاً إن الأوضاع والظروف السائدة، لا تبشر بفرص ثورية في الأمد المنظور، ولكن ها هي وقائع الحياة تؤكد لنا أن هناك أسساً موضوعية لإعادة بناء حركة معادية للرأسمالية على النطاق العالمي، وأن هناك إمكانيات واقعية لتحقيق مكاسب جزئية متزايدة في عملية طويلة معقدة عبر مراحل وسيطة متعددة، شرط توفر العامل الذاتي (الحزب الماركسي) القادر على توعية وتعبئة وتنظيم الجماهير.

وكما قال بحق الفيلسوف الفرنسي غير الماركسي جان بول سارتر فإن "الماركسية غير قابلة للتجاوز لأن الظروف التي ولدتها لم يتم تجاوزها بعد" ولا زالت البشرية في عالمنا اليوم تعاني من: التفاوت الطبقي، الاستغلال الطبقي، القهر الطبقي، ولم يحدث في تاريخ البشرية أن بلغ الاستغلال والقهر الاجتماعي والإفقار المستوى الذي وصل إليه اليوم، وهو يزداد تعمقاً بفعل العولمة ويصبح تناقضاً بين الرأسمال الدولي والطبقة العاملة العالمية، والماركسية هي النظرية العلمية الوحيدة القادرة على مساعدة البشرية في حل هذا التناقض وإرشاد البشرية في كفاحها للخلاص من الاستغلال الرأسمالي، إن الاشتراكية اليوم ضرورة حتمية لاستمرار الحضارة البشرية، وضمان لا غنى عنه لبقاء الجنس البشري.

لذلك فان المطلوب ماركسية عصرية عبر تجديدها وتطويرها على ضوء الواقع المعاصر بحيث تستجيب لمتطلبات الزمن الذي نعيش فيه، ولكي لا تكون الدعوة للتجديد صيحة حق يراد بها باطل ولكي نضمن أن يأتي التجديد: تطويراً في الماركسية لا تطويحاً بالماركسية، وإغناء للماركسية لا استغناء عن الماركسية واجتهاداً في الماركسية لا ارتدادا عن الماركسية.

إن مأثرة فلسفة ماركس تكمن في كونها البرهان الفلسفي والعملي في آن واحد على حتمية التحويل الجذري للمجتمع نحو الانعتاق والتحرر والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية رغم كل ما يتبدى اليوم من عوامل القهر والتخلف.

على أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، ففلسفته، التي اعتمدت العلم منهجاً لها، لم تقتصر على استخلاص أكثر الأفكار دقة عن الإنسان وعن تحرره وارتقائه فحسب، وإنما ربطت تلك الأفكار بشروط تحققها المادية والاجتماعية والإنسانية.

وهو ما لم تفعله أية فلسفة من قبل، ولذلك نقول عنها إنها فلسفة ثورية بقدر ما هي فلسفة علمية، فهي وحدها الفلسفة التي لم تقف عند حدود تفسير العالم، وإنما وضعت شروط تغييره، لما اكتشفت أن تحرر الإنسان وارتقائه لا يمكن أن يتحققا بدون حدوث ذلك التغيير.

أخيراً، "إن الذي يميز ماركس من بين كل الفلاسفة الذين عرفتهم البشرية، هو أنه الوحيد الذي قَرَنَ أفكاره الإنسانية بشروط تحققها المادية والاجتماعية والإنسانية، ولذلك "أضحت فلسفته شعار كل الساعين إلى تحرير الإنسان من قيوده واغترابه، والطامحين إلى خلق الإنسان الحقيقي الشامل، الذي لم يحدث أن تبنت أية فلسفة أخرى خلقه، ولا هو تحقق على الارض بعد. ومن هذه النقطة بالذات يمكن القول أن فلسفته هي وحدها، من بين كل الفلسفات، الفلسفة العلمية والثورية بحق"([10]).

قالوا عنه([11]):

  • "لقد كان ماركس متيقناً، إلى أعلى درجة، من أن الثورة الاجتماعية التي يتكلم عنها ستمثل تحولاً يتعذر الرجوع عنه، ومن أنها ستكون بمثابة حد فاصل مطلق بين عهدين من التاريخ .. وإن لفي ذلك شيئاً مرعباً حقاً؛ لكني أعتقد أنه من الجوهري الإبقاء على طابع الاشتراكية هذا ظاهراً جداً للعيان، اذا كنا نريد أن نحافظ على كل قيمتها التربوية، فلا بد أن يقتنع الاشتراكيون بان العمل الذي ينذرون أنفسهم له عمل خطير، مهيب، جليل". (جورج سوريل).
  • "الماركسية هي الوريث الطبيعي لخير ما أبدعته البشرية في القرن التاسع عشر في الفلسفة الألمانية وفي الاقتصاد السياسي الانجليزي وفي الاشتراكية الفرنسية". (لينين).
  • "لقد جذبتنا الماركسية اليها، حولت بالتناوب أفكارنا كلها، طردت من أذهاننا مقولات الاستدلال البورجوازي، وفي كل الأحوال فالماركسية لا يمكن تجاوزها في هذا العصر". (جان بول سارتر).
  • "لم يكن ماركس متعصباً ولا انتهازياً، بل هو يمثل خير ما في المأثور الغربي: الايمان بالعقل وبتقدم الانسان" (إرنست بلوخ).

 

 

 

([1]) حامد خليل – مشكلات فلسفية – الطبعة الثالثة – دار الكتاب – دمشق – 1989/1990 م -  ص197

([2]) المرجع نفسه -  ص 199

([3]) المرجع نفسه - ص 198

([4]) المرجع نفسه - ص 200

([5]) المرجع نفسه - ص 204

([6]) المرجع نفسه - ص 206

([7]) المرجع نفسه - ص 207

([8]) المرجع نفسه - ص 208

([9])جماعه من الاساتذه السوفيات - مرجع سبق ذكره - موجز تاريخ الفلسفة – ص618.

([10]) المرجع نفسه - ص224

([11])  جورج طرابيشي – مرجع سبق ذكره – معجم الفلاسفة – ص 623