Menu

كتاب موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور للمفكر غازي الصوراني (ح 65)

غازي الصوراني

موجز الفلاسفة.jpg

خاص بوابة الهدف الاخبارية

(تنفرد بوابة الهدف، بنشر كتاب المفكر غازي الصوراني، المعنون: موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور، الصادر عن دار الكلمة للنشر والتوزيع، في يونيو/ حزيران 2020، على حلقات متتابعة.. قراءة مثمرة ومفيدة نتمناها لكم).

الباب الرابع

الفلسفة الأوروبية في العصور الوسطى

الفصل العاشر

أبرز فلاسفة القرن التاسع عشر

نيتشه والثقافة الأوروبية:

كان نيتشه شديد الإعجاب بالثقافة الفرنسية، فيقول: "أنا لا أومن إلا بالثقافة الفرنسية، وأعتَبِرُ كل ثقافة أوروبية أخرى بجانب الثقافة الفرنسية كلاماً فارغاً، وعندما يقرأ الإنسان كتب فرنسيين من امثال (مونتيني) و(لارشفوكو) يشعر الروح القديمة أكثر من قراءة أية جماعة أخرى من كتاب الشعوب الاخرى، أما فولتير فهو سيد العقل العظيم و(تين) أول المؤرخين المعاصرين، كما ان الكُتَّاب الحديثين منهم من امثال "فلوبير" و"بورجيه" و"اناتول فرانس" يفوقون غيرهم من الكتاب الأوروبيين في وضوح الفكرة واللغة، كما ان ما نجده في أوروبا، من سمو في الذوق، ونبل في الشعور والاخلاق، هو من صنع فرنسا، أعني فرنسا القديمة التي ازدهرت في القرنين السادس والسابع عشر، ولكن عندما حطمت الثورة الفرنسية الطبقة الارستقراطية حطمت معها دعائم الثقافة، وغدت الروح الفرنسية الآن هزيلة شاحبة بالمقارنة مع ما كانت عليه سابقاً"([1]).

أما روسيا فهي –كما يقول نيتشه- فهي "وحش أوروبا الاشقر... ويمتاز شعبها بعناد وإيمان بالقضاء والقَدَر تميزه عن الشعوب الغربية، وتحكم روسيا حكومة قوية لا تعرف هذه "الغباوة البرلمانية" وقد اجتمعت وتركزت فيها قوة الإرادة منذ مدة طويلة، وهي الآن تهدد لايجاد مَنْفَذ لها، ولن يكون عجيباً اذا وجدنا روسيا تبسط سلطانها وتصبح سيدة لأوروبا. أما الايطاليين، فهم أجمل الشعوب الأوروبية المعاصرة وأشدها عنفاً، اذ ان الإنسان ينمو قوياً شديداً في ايطاليا، وفي الايطاليين جلد الرجولة، وكبرياء الارستقراطية التي تجدها حتى في أقل الطبقات الايطالية. أما أسوأ الشعوب فهم الانجليز، وهم الذين افسدوا العقل الفرنسي بأوهام الديمقراطية والنفعية الانجليزية هي آفة الثقافة الاوروبية"([2]).

لقد تعرض نيتشه لحالة شديدة من ضعف البصر، "الذي أقعده عن تأليف الكتب واكتفى بكتابة الحكم الاخلاقية، وجمع هذه الحِكَم والمبادئ في كتابين أولهما تحت عنوان "ما فوق الخير والشر" عام (1886) وثانيهما "تاريخ تسلسل الاخلاق" عام (1887) وكان يرجو في هذين الكتابين تدمير الاخلاق القديمة، وتمهيد الطريق لأخلاق الإنسان الأعلى، إذ أن نيتشه رأى أن هناك تقديران متناقضان للسلوك الانساني، أو وجهتان للنظر في الأخلاق: أخلاق السادة، وأخلاق الطبقات العامة"([3]).

"ترك نيتشه مخطوطات ومذكرات عديدة غير منشورة عند موته، وبعد وفاته حررت أخته إليزابث فورستر نيتشه ونشرت تلك المخطوطات، وكانت إليزابث معادية للسامية، وفي ما بعد أصبحت نازية، فخلقت بشكل كبير الأسطورة التي تقول بأن نيتشه كان معادياً للسامية ومؤسساً للنازية وذلك عن طريق تزويرها لأعماله.

ولكن –كما يقول سامي خشبة- على الرغم مما قيل عن تبني النازيين الألمان لأفكاره، خاصة فكرة: "الإنسان الاسمى، أو السوبرمان" التي فسروها بطريقتهم، فالحقيقة أنه آدان العداء للسامية، رغم ازدرائه لدور اليهود في التاريخ (كتاب: عدو المسيح 1895) وأدان التعصب القومي الألماني (كتاب: حالة فاجنر 1877) والعنصرية القائمة على العرق ( كتاب: إرادة القوة، نشر بعد موته عام 1909"([4]).

أخيراً، نشير إلى أن شهرة نيتشه فلسفيا –كما يضيف سامي خشبة- "تقوم على عدة محاور؛ أولها كان هو قوله بوحدة الإنسان في الكون وحاجته رغم ذلك إلى الميتافيزيقا (في اهم كتبه: هكذا تكلم زرادشت – 1883 – 1894) وفكرته عن تغلب عوامل التحليل اللاعقلية أو المنسوبة إلى الاله الوثنى ديونيزيوس (رمز المجون واللاوعي والخمر والنزعة الشبقية عند الاغريق) في الثقافة الغربية وتاريخها الاجتماعي على النزعة العقلانية والفنية الراقية المنسوبة إلى ابوللو (رمز الشمس والتفكير الواعي والقانون والفنون عند الاغريق أيضاً) وذلك في كتابه : "مولد التراجيديا" ثم : "روح الموسيقى" عام 1872 وقوله بالتالي إن نوعية الحياة التي تطورت في الغرب وثقافته وتكوينه الاجتماعي هي نوعية هابطة سيطرت فيها خلطه مسمومة من أخلاقيات الضعفاء ودهائهم وفسادهم دون ميتافيزيقا حقيقية إضافة إلى النزعة الشبقية أو الحسية دون سيطرة حقيقية على الطبيعة (أي الجسد) اختلطت بها أنواع من الحرية الشكلية التي تخفى عبودية فعلية للقيم المادية، ولا عقلانية خالية من القدرة على الحدس ولا على التخيل، ورأى أن كل ذلك أدى إلى نوع من "العدمية" أو عدم الايمان بشئ مما يعني أن الحضارة الغربية وصلت إلى مشارف أزمة طاحنة (يقول مؤرخو الثقافة الغربية ان نيتشه تنبأ تقريباً بالازمة التي نشبت عام 1914 وأدت إلى الحرب العالمية الأولى وانهيار كبرى الامبراطوريات الاوروبية القديمة وانفجار الثورات السياسية والاجتماعية وما صاحبها من تغيرات فكرية وفنية جذرية)"([5]).

"بدأ تأثير نيتشه في الفكر الغربي المعاصر منذ بدايات القرن العشرين، حين أخذ عنه فيتجنشتاين– ثم الفلاسفة التحليليين الوضعيين، فكرة أن الفلسفة ينبغي أن تركز على تحليل اللغة ونقدها لتخليصها من الكلمات الفارغة من المعنى ومن المعاني غير الدالة على حقائق .. إلخ.

كما أولع بنيتشه عدد كبير من كبار مفكرو وفنانى وأدباء الغرب: من توماس مان وأندريه جيد وأندريه مالرو في الادب إلى ييتس وموير وريلكة في الشعر إلى هربرت ريد في التحليل الاجتماعي / الجمالي للفن وتاريخ الثقافة إلى جلاديس وألفريد أدلر في علم النفس وإلى ميشيل فوكو ودولوز وكلوسوفسكي في النقد والتأريخ للثقافة الحديثة"([6]).

في هذا السياق، يقول د. هشام غصيب: "نيتشه لم يكن ثورياً بمعنى ماركس أو داروين أو آينشتاين، لكنه اتسم بقحة فكرية قَلَّ نظيرها، وتجعل منه مثالا لفلسفة الحداثة بامتياز، ولكن بالنظر إلى قحته الفكرية غير المسبوقة ومنسوبه النقدي العالي وسعيه الدؤوب للغوص في أعماق الأعماق وتفكيك الأسس والمسلمات والأصول النهائية، فقد كان فيلسوفا بامتياز، لكنه لم يكن مجرد فيلسوف، وإنما كان أيضاً عالم نفس بمعنى من المعاني، وشاعراً متميزاً، وناثراً نادراً باللغة الألمانية، وموسيقاراً"([7]).

نقد فلسفة نيتشة:

تشكل آراء نيتشه الفلسفية، وتعاليمه الأخلاقية، ونظرياته السياسية "وحدة لا تنفصم، فقد انطلق نيتشه من تلك الأفكار الفلسفية والاجتماعية، التي بدأ يعبق بها جو عصر ما قبل الامبريالية، ومضى بها حتى نهايتها المنطقية المتطرفة، ولذا قوبلت آراؤه أحياناً، من قبل معاصريه، الذين كانوا لا يزالون يحتفظون بوفاء شكلي للتقاليد الليبرالية والعلمية، بفتور ظاهري، بل وتبرأوا منها، بالرغم من أنها لم تكن سوى خلاصة لآرائهم نفسها، لكن الشهرة والمجد سرعان ما أحاطا بنيتشه مع حلول عصر الامبريالية، فمن الآن وصاعدا ستلقى أفكاره قبولاً، وتبجيلاً لدى العديد من الفلاسفة البرجوازيين، من جيمس إلى شيلر، ومن اسبنجلر إلى هايدجر، وكثيرين غيرهم. كذلك غدت فلسفة نيتشه أحد أهم المصادر النظرية للإيديولوجية الفاشية، التي تبنت آراءها الرئيسية"([8]).

"ينطلق نيتشه من الاعتراف بأن حضارة أوروبا المعاصرة تسير إلى الهاوية، "إن حضارتنا الأوروبية كلها ... يبدو وكأنها تمضي لملاقاة الكارثة"، أما أعراض هذا الانحطاط فيراها نيتشه في الضعف العام، الذي انتاب الحياة الروحية، في انتشار التشاؤم والولع بالأفكار الانحطاطية، وفقدان الثقة بالقيم الروحية المقدسة سابقاً، أو –بكلمة واحدة- في العدمية Nihilism، التي غدت راية العصر"([9]).

فقد "زَعَمَ نيتشه أن هناك عِرْق السادة، المدعو لأن يامر وينهي، وعِرْق العبيد، الذي ينبغي عليه الخضوع للسادة، وأن المجتمع كان، وسيبقى إلى الأبد، موزعاً بين فئة أرستقراطية مسيطرة، وبين جماهير العبيد المحرومين من أية حقوق، إنه يطالب بإعادة العبودية والتقسيم المراتبيHerarchy للمجتمع، وتنشئة فئة جديدة من السادة، وتعزيز إرادة القوة عندهم، ولكي يحقق هؤلاء سيادتهم يجب أن يتم التخلي نهائياً عن الأخلاق المسيحية، "أخلاق العبيد"، وسيطرة " أخلاق السادة"، التي لا تعرف شفقة ولا رحمة، وتبيح للقوي بان يفعل ما يشاء، ولتحقيق هذا المثال الاجتماعي ينيط نيتشه دوراً كبيراً بالحروب، التي يرى فيها رسالة عرق السادة، وأحد شروط سيادته، كما ويعقد الآمال الكبيرة على تعزز النزعة العسكرية، ويتنبأ، بحفاوة، بان "المائة السنة القادمة ستحمل معها صراعاً قاسياً من أجل السيطجرة على الأرض"، وأنه "ستأتي حروب لم تشهد لها البشرية مثيلاً من قبل"([10]).

يجسد نيتشه مثال فئة السادة في "الانسان الأعلى" (السوبرمان) وذلك في مؤلفه "هكذا تكلم زرادشت"، ويحيط نيتشه هذا "السوبرمان" بهالة شاعرية أسطورية، ويسبغ عليه الفضائل والكمالات السامية.

هذه الأفكار تشكل لب مذهب نيتشه كله، الارادية، والاعتقاد بوهمية وبطلان كافة التصورات العلمية والاخلاقية، وإرادة القوة التي لا يكبح جماحها – تلك هي الأسس، التي يقيم عليها نيتشه فلسفته، فلسفة ترى أن "كل شيء باطل! كل شيء مباح!"([11]).

في تعليقه النقدي على فلسفة نيتشه، يقول "ول ديورانت": "جاءت فلسفة فريدريك نيتشه مفعمة بالتناقض وعدم الاتساق، لكنها – برغم تفككها المنطقي- تشكل وحدة تامة من حيث الروح والنزعة والهدف، كذلك جاءت فلسفته مشبعة بالهلع والذعر أمام الاشتراكية الصاعدة، وبالحقد القاتل على الجماهير الشعبية، وبالرغبة في إبعاد الخطر المحدق بالنظام البرجوازي مهما كلف الثمن.

إن نيتشه -كما يضيف ديورانت- يتطلع إلى التخلص من هذه العدمية، واحلال نزعة التفاؤل محلها، لكن التشاؤمية والعدمية، التي سيطرت على قسم كبير من المثقفين البرجوازيين في أواخر القرن التاسع عشر، كانت تعبيراً عن انهيار الآمال في تطور منسجم وهادئ للمجتمع الرأسمالي، كذلك كانت الآمال الجديدة، التي ظهرت مع بوادر عصر الامبريالية، آمالاً خداعة، لم تفلح في استعادة الثقة، ولذا فإن فلسفة نيتشه، التي كانت محاولة للخروج من هذا الانهيار المعنوي، ولإعادة الثقة إلى نفوس أفراد الطبقة السائدة، جاءت، هي الأخرى، انعكاساً لهذا الانهيار، ومن ثم أفسحت الطريق أمام الأفكار العنصرية، الفاشية والنازية للاستفادة من أفكار نيتشه أو تحريفها.

وفي كل الأحوال، فإن الحقيقة "تظل هي أن نيتشه أَثَّر في الفاشية بطرق متنوعة، وربما أساءت الفاشية استخدام كلمات نيتشه، بيد أنه يسهل إساءة استخدام كلماته على نحو لا مثيل له، فقد كان نيتشه متطرفاً، ولم يكن هناك أي شخص أكثر موهبة منه في تقديم رؤية متطرفة تبدو جذابة بتقديمها ببلاغة وجراءة.

كما إن الإنسان الذي ينصح الناس بأن يعيشوا على نحو خطر، لابد أن يتوقع أن يوجد أشخاص خطرون مثل موسوليني؛ لأن الشخص الذي يعلم أن حرباً جيدة تبرر أي قضية، لابد أن يتوقع سوء استخدام هذه التعاليم التي يقدم نصفها على سبيل المزاج، ولكن نصفها فقط على سبيل المزاج.

ويثني نيتشه على القسوة، ويزدري الشفقة، دون ان يفكر، بصورة كافية، فيما إذا كان لابد ان ينصح الإنسان، بالفعل، بان يكون أكثر قسوة مما هو عليه، أو ما هو الأكثر الذي يكون لوجهة النظر هذه على الأشخاص الذين يتصفون بالقسوة"([12]).

أخيراً أوافق الصديق المفكر هشام غصيب في قوله "إن من الأخطاء الشائعة في الأوساط الثقافية العربية أن نيتشه هو فيلسوف التشاؤم والعدمية بامتياز، لكنه في الواقع كان عكس ذلك تماماً، إذ كان فيلسوف الإحتفاء بالحياة والقوة بامتياز، أما فيلسوف التشاؤم المطلق، فكان آرتور شوبنهاور، وقد غرق نيتشه في مطلع شبابه في أعماق تشاؤمية شوبنهاور والموسيقار فاغنر، ودفعه ذلك إلى العدمية الانتحارية، لكن نيتشه – كما يستطرد د.هشام- "سرعان ما استجمع قواه الذاتية وتمرد على شوبنهاور وفاغنر وَطَّوَر فلسفة جديدة كانت بمثابة النقيض لفلسفة شوبنهاور وموسيقى فاغنر، وهي فلسفة تُعْلي من شأن الحياة والغرائز والقوة والألم واللحظة العابرة، والأهم من ذلك أن نيتشه كان مُحَطِّم المُثُل العليا والأخلاق الرائجة، وكان أبعد ما يكون عن الصورة المثالية الرومانسية، التي حاول جُل المفكرين العرب أن يلصقوها به".

مرض نيتشه وموته:

عام 1879 اصيب نيتشه وهو في زهرة عمره بمرض جسدي وأوشك على الموت، وأخذ يعد نفسه للنهاية بطريقة تنطوي على التحدي، فقال لاخته: "عديني إذا مت أن لا يقف حول جثماني إلا الاصدقاء، وأن لا يدخل الفضوليون من الناس، ولا تَدَعي قسيساً ينطق بالأباطيل والأكاذيب على قبري في وقت لا استطيع فيه الدفاع عن نفسي، أريد ان أُدفَن في قبري وثنياً شريفاً، ولكنه استعاد صحته وشفى من مرضه، ونهض من فراش المرض محباً للصحة والشمس والحياة والضحك والرقص وموسيقى الجنوب، كما خرج من المرض بإرادة أقوى بعد ان كافح الموت وانتصر عليه، وتمكن بعد ذلك من إصدار كتابين هما: "فجر اليوم" في عام 1881 و"الحكمة الفرحة" في عام 1882، وامتاز أسلوبه في هذين الكتابين برقة ووداعة مختلفة عن الكتب التي اصدرها بعد ذلك.

امامه الان فرصة زمنية يتمتع فيها ببهجة الحياة في هدوء، "ويعيش على معاش تقدمه له الجامعة، ووجَدَ نفسه يقع في الحب فجأة، ولكن من أحبها (زوجة فاجتر) لم تبادله الحب، وهنا انطلق نيتشه هائماً على وجهه من مكان إلى مكان، في حالة من اليأس الشديد، يرسل الحكمة تلو الحكمة ضد النساء أينما سار وأينما حل. والحقيقة انه كان ساذجاً بسيطاً، ومتحمساً خيالياً، لطيفاً ورقيقاً إلى حد البساطة، انه الآن لا يجد الوحدة والعزلة التي يريدها، اذ من الصعب عليه ان يعيش مع الناس، لان الصمت امر عسير، فانتقل من ايطاليا إلى قمم جبال الالب، لا يحمل في قلبه حباً لاحد من الرجال أو النساء، وراح يُصَلِّي من أجل تَفُوُّق الإنسان وبعث الإنسان الكامل الاعلى"([13]).

"وبعد انهيار عقله بدت العصبية جَلِيَّة حتى في ضحكه، ولا شيء يصور لنا مدى ما وصلت إليه حالته أكثر من قوله. "ربما اعلم اكثر من غيري السبب في ان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك، لانه وحده الذي يتألم أشد الالم الذي اجبره على اختراع الضحك، لقد أثَّرَ مرضه وضعف بصره الذي أوشك ان يقترب به من العمى على انهيار عقله، واخذت تطارده أوهام العظمة والاضطهاد"([14]).

نزلت به الضربة الاخيرة في تورين في شهر يناير من عام 1889، لقد كانت ضربة الجنون، وراح يتعثر في غرفته، واخذ يكتب رسائل بدأ فيها الجنون واضحاً، فارسلوه إلى المارستان، ولكن سرعان ما جاءت أمه العجوز لتأخذه معها ليعيش تحت عنايتها، وبقي معها إلى أن توفيت واخذته اخته ليعيش معها في فيمار.

وفي تلك المرحلة من حياته -كما يقول د.فؤاد زكريا- "لم يَقْوَ عقله على المُضِي في طريقه، فإذا بأعراض الجنون الحقيقية تظهر عليه. ففي ديسمبر سنة 1888 وصلت منه إلى أصدقائه خطابات بإمضاء "نيتشه – قيصر"، وتلقت كوزيما، زوجة فاجنر، خطاباً منه يقول فيه "أريان – إنني احبك –ديونيزوس". وقضى نيتشه ما يقرب من اثنى عشر عاماً في فيمار بعيداً كل البعد عن عالم العقلاء، إلى أن مات في 25 أغسطس سنة 1900"([15]).

ومن الظواهر المؤسفة -كما يضيف د. فؤاد زكريا-"أن جنون نيتشه الأخير قد استُغِل أسوأ استغلال، فذهب بعض الكتاب إلى أن مؤلفاته كلها تتسم بطابع الجنون، وأن اللوثة العقلية تظهر فيها كلها – بدرجات مختلفة- منذ البداية، لكن البحث الموضوعي الدقيق لكتابات نيتشه لا يؤدي إلى أي تأييد لهذا الادعاء الباطل. وكل ما في الأمر هو أن خصائصه النفسية، التي كانت تنعكس بوضوح على كتاباته، كانت ذات طابع فريد – ومَن مِن كبار الكتاب أو الفنانين لم يكن له طابع نفسي فريد؟، فالعزلة القاتلة التي عاش فيها نيتشه قد صبغت أسلوبه بصبغة خاصة، وشعوره بالوحدة قد أضفى على كتاباته نوعاً من الترفع والتعالي، غير أن هذا كله ليس جنوناً على الإطلاق، وما هو إلا تعبير عن النمط النفسي الخاص الذي ينتمي إليه نيتشه، وهو نمط مألوف بين العقلاء، بل بين الكثيرين من أعمق العقلاء تفكيراً"([16]).

والحق -كما يستطرد د. زكريا- "أن المرض بوجه عام كان يؤثر دائماً في نيتشه تأثيراً عكسياً، أعنى أنه كلما اشتدت عليه وطأة المرض، كان يدعو إلى إنسانية سليمة صحيحة، وكانت نغمة الصحة والقوة تزداد وضوحاً في كتاباته، قد يكون هذا تعويضاً، ولكنه لا يؤثر مطلقاً في قوة الدعوة وروعة الهدف ذاته، ذلك إن نيتشه في نهاية فترة تفكيره الواعي، كان قد وصل في تفكيره إلى حد لا يستطيع أن يمضي بعده خطوة واحدة: فهو قد حلل نفسه، وحياته، تحليلاً عميقاً، ولخصها كلها في كتبه الأخيرة. وهو قد وصل في تفكيره إلى النقطة التي لا يكاد المرء يتصور بعدها مزيداً بالنسبة إليه: فهو يقف الآن ضد المسيح، وهو يمثل الدعوة الإيجابية إلى الحياة في مقابل الدعوة السلبية إلى التخلي عن الحياة، وحين تصل المشاكل الفكرية – أعني عناصر حياته- إلى نقطة التوتر هذه، يكون الانفجار أمراً محتوماً – وهكذا كان الجنون. ولسنا ندعي أن هذا التفسير هو وحده الصحيح، أو أنه يعلل كل الوقائع ولكنه لا يبدو مستحيلاً إذا فهمت حياة نيتشه على النحو الصحيح: حياة لا قوام فيها إلا للمشاكل الفكرية، ولا يستطيع أن يرتفع بها شيء أو يهبط بها شيء ما عدا الأفكار"([17]).

بعد وفاته "صنع له "كرامر" تمثالاً رقيقاً ظهر فيه ذلك العقل الجبار الذي امتاز به سابقاً ضعيفاً محطماً، ومع ذلك فإن المرحلة الاخيرة من حياته لم تكن كلها شقاء، فقد طبع السلام والهدوء الذي حرم منه دائماً حياته الآن، فقد رحمته الطبيعة بعد ان ألقته مجنوناً، وفي مرة لمح اخته تبكي وهي تنظر إليه ولم يستطع ان يفهم السبب في دموعها وسألها "لماذا تبكين يا اليزابيت؟ هل انت حزينة؟ وفي مرة سمعها تتحدث عن الكتب فأضاء وجهه الشاحب وقال، في تألق وبهجة، "آه ! لقد كتبت انا أيضاً كتباً حسنة" ومرت لحظة التألق، يبدو أننا لا نجد عبقرياً دفع ثمناً غالياً لعبقريته ما دفعه نيتشه"([18]).

قالوا عنه([19]):

  • "أنت الكسب الوحيد الذي عادت به الحياة عليَّ، وقد قرأتك من جديد واقسم لك أمام الله إنك الوحيد الذي يعرف ماذا أريد". (ريتشارد فاغنر) (رسالة إلى نيتشه عام 1872).
  • "كان نيتشه يغار من المسيح، يغار إلى حد الجنون.. يعود إلى نيتشه وحده أن يعيد اكتشاف مسيح حقيقي وأن يبعثه من جديد من كفنه.(اندريه جيد).
  • "هذا هو نيتشه وإنسانه الأعلى، الذي هو قوة متكبرة يسوقها هذيانها المتعجرف إلى القول بعبودية الجنس البشري وهوانه، لصالح من؟ لصالح الإنسان الأعلى، الذي هو .. مجنون بائس يصرخ ويستهل بين أيدي الممرضين" (اندريه سواريس).
  • "أرجح الظن أن نيتشه لم يعرف صفة مرضه، لكنه كان مدركاً تماماً لما هو مدين له به.. فمن خاصة هذا المرض أن يستحدث ثَمِلاً تنداح فيه أمواج من السعادة والقدرة وتنشي فيه قوى الحياة ذاتياً، قبل أن يغرق ضحيته في الليل العقلي ويقتله يمحضه تجارب وهمية من القدرة واليسر والوحي والاشراق.. ويقتاده إلى اعتبار نفسه أداة الإله ووعاء النعمة بل إلهاً متجسداً". (توماس مان).
  • "من الممكن أن نجد لدى نيتشه بصدد كل حكم نقيضه، فلكأن له في الأشياء طُراً رأيين، وقد أمكن لمعظم الأطراف أن تختبئ خلف سلطته: الملحدون والمؤمنون، المحافظون والثوريون، الاشتراكيون والفرديون، العلماء المنهجيون والحالمون، السياسيون واللاسياسيون، أحرار الفكر والمتعصبون" (كارل ياسبرز)
  • "مع نيتشه تغدو العدمية نبوية، وفيه تصير لأول مرة واعية، وقد تفحصها وكأنها واقعة سريرية، وقد شَخَّصَ في نفسه ولدى الآخرين عجزاً عن الاعتقاد وزوال الأساس الأول لكل ايمان، أي الاعتقاد بالحياة، وبدلاً من الشك المنهجي، مارس النفي المنهجي والتدمير النظامي لكل ما يحجب العدمية عن نفسها. "ومن يشاء أن يكون خالقاً، سواء أفي الخير أم في الشر، فعليه أولاً أن يكون هداماً وأن يحطم القيم". (البير كامو).
  • "اعترض نيتشه على المسيحية لأنها هي السبب لما أسماه "أخلاق العبيد" وعنده أن المسيحية منحلة ومفعمة بالعناصر المُفْسِدة العفنة .. ومُنْكِرة لقيمة الكبرياء والاختلاف والمسؤولية العظمى والنزعة الحيوانية، الرائعة وغرائز الحرب وتأليه العاطفة والثأر والغضب والشهوانية والمغامرة والمعرفة، وكلها عناصر خير تقول عنها المسيحية إنها شر". (برتراند راسل).
  • "نيتشه مؤسس اللاعقلانية في المرحلة الامبريالية.. وربما كان، في تحليله السيكولوجي للحضارة وأفكاره الجمالية والأخلاقية، الممثل الأكثر موهبة والأغنى بالتلاوين لوعي المشكلة المركزية والظاهرة الأساسية لتاريخ بورجوازية عصره: الانحطاط ". (جورج لوكاتش).

 

 

 

 


([1])المرجع نفسه - ص538

([2])المرجع نفسه - ص539

([3]) المرجع نفسه -  ص525

([4]) سامى خشبة – مفكرون من عصرنا – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة - 2008– ص 877-878

([5]) المرجع نفسه - ص 877

([6]) المرجع نفسه– ص 878

([7]) هشام غصيب – ملاحظات حول فلسفة نيتشه – الحوار المتمدن – العدد 3904- 7/11/2012

([8])  جماعة من الأساتذة السوفيات –  مرجع سبق ذكره - موجز تاريخ الفلسفة – ص 749

([9]) المرجع نفسه – ص 744

([10]) المرجع نفسه - ص 745

([11]) المرجع نفسه - ص 748

([12]) دانهوزر – مقال بعنوان: نيتشه - تاريخ الفلسفة السياسية (مجموعة مؤلفين) – تحرير: ليوشتراوسوجوزيفكروبسى– ترجمة: محمود سيد أحمد – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة – الجزء الثاني - 2005 – ص 530

([13]) ول ديورانت– مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة – ص516 / 518

([14]) المرجع نفسه - ص552

([15]) د. فؤاد زكريا - نوابغ الفكر الغربي " نيتشه " – الطبعة الثانية – دار المعارف -  1966 – ص23

([16]) المرجع نفسه –ص23.

([17]) المرجع نفسه – ص25.

([18])ول ديورانت– مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة - ص553

([19])  جورج طرابيشي – مرجع سبق ذكره – معجم الفلاسفة – ص 679 - -680