Menu

كتاب موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور للمفكر غازي الصوراني (ح 85)

غازي الصوراني

خاص بوابة الهدف

كتاب موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور للمفكر غازي الصوراني (ح 85)

(تنفرد بوابة الهدف، بنشر كتاب المفكر غازي الصوراني، المعنون: موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور، الصادر عن دار الكلمة للنشر والتوزيع، في يونيو/ حزيران 2020، على حلقات متتابعة.. قراءة مثمرة ومفيدة نتمناها لكم).

الباب الرابع

الفصل الثاني عشر

أبرز فلاسفة القرن الحادي والعشرين

جورج لابيكا (1930 - 2009):

فيلسوف ماركسي فرنسي كَرَّسَ أكثر من خمسين عاماً من حياته، مناضلاً من أجل الاشتراكية، وضد كل أشكال الاستغلال الطبقي والنظام الرأسمالي، ليس في فرنسا فحسب، ولكن في كل أرجاء هذا الكوكب، كما تميز بانحيازه الكامل لنضال حركات التحرر الوطني، خاصة في الجزائر حيث التحق مناضلاً في جبهة التحرير الجزائرية حتى نهاية الستينات، وعمل في تلك الفترة محرراً رئيسياً في صحيفة المجاهد الناطقة بلسان جبهة التحرير الوطني الجزائرية.

وقف بصورة مبدئية مع حق الشعب الفلسطيني في النضال من أجل استرداد حقوقه المشروعة بما في ذلك حقه في الكفاح المسلح، وأعلن في كافة المؤتمرات الدولية كما في كتاباته انحيازه ودفاعه عن الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وخاصة حقه في اقامة دولته الفلسطينية المستقلة.

وفي هذه الأثناء، تصدى لابيكا لتخلي الحزب الشيوعي الفرنسي في عهد أمينه العام جورج مارشيه في منتصف السبعينات عن السياسة الثورية، وناهض اندماج الحزب ببنيات وأجهزة النظام السياسي البورجوازي. الأمر الذي قاده إلى الانسحاب من هذا الحزب"([1]).

مارس التدريس في عدد من الجامعات في الجزائر ثم في جامعة باريس العاشرة، واهتم بصورة خاصة بدراسة بعض جوانب الدين الاسلامي حيث اصدر كتابه الهام "الدين والسياسة عند ابن خلدون"، دراسة في ايديولوجية الاسلام"، كما قام بالتدريس في جامعة الشعب في بكين .

"وعندما خيَّمت ظلال الحرب الأهلية على الجزائر أسّس في العام 1993 برفقة إتيين باليبار، وبيير بورديو، وجاك دريدا، وجان ليكا، وجمال الدين بنشيخ، وآخرين "اللجنة الدولية للتضامن مع المثقفين الجزائريين". وفي العام نفسه أسَّس لجنة تيقُّظ من أجل سلام حقيقي في الشرق الأوسط، وتوجّه في العديد من المرات إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة للتضامن مع الفلسطينيين، وبوجه خاص عندما أَحكمت سلطات الاحتلال الإسرائيلية تطويقها للقيادة الفلسطينية.

 كما كان حتى أيامه الأخيرة يقود حملة للتضامن مع الشيوعيين والثوريين الذين اختاروا العمل المسلح ضد النظام الرأسمالي والبورجوازية، وفي مقدمتهم جورج إبراهيم عبد الله.

ترأس جورج لابيكا هيئة المقاومة الديمقراطية الدولية، كما كان أيضاً رئيس اللجنة الدولية من اجل السلام العادل والدائم في الشرق الأوسط، وكان عضواً في النداء الأوروبي العربي، وفي هيئة الدفاع عن الانسانية التي تأسس في كركاس، وعضواً فعالاً في المنتدى العالمي للبدائ.

قام بإعداد كتاب "المعجم النقدي للفلسفة" الذي صدر عام 1983 وترجم إلى عدة لغات ثم ترجم إلى اللغة العربية عام 2003.

تميز جورج لابيكا " بانتقاده للماركسية في أنماطها الأكاديمية والتحليلية والاقتصادية والفلسفية والمنطقية، ويرى أن الماركسية المدفونة حيَّة تحت الأرض under grund، أو تحت أثقال مكوَّمة من الفلاسفة الماركسيين والجامعيين وغيرهم، بما في ذلك الستالينية، قد حَجَبت عن الحركة الثورية ما يربط أعمال ماركس وإنجلز أو الماركسية بالشيوعية من رباط وحدة، كما شوهَّت الحيز المركزي للممارسة أو لفعل الإنسان في الطبيعة والمجتمع والتاريخ في بلورة الوعي والنظرية، ورجَّحت كفة النظرية والأنساق الفكرية والمنطقية على التاريخ وما يحمله من تطور وتغيير، ذلك أن الشيوعية على حد قوله، من حيث هي أعلى درجات الوعي النظري وقد تحوَّل إلى ممارسة سياسية منسجمة مع المعطيات المادية للتاريخ، هي هدف الماركسية"([2]).

من أبرز مؤلفاته:

  • القاموس النقدي للماركسية.
  • نظرية العنف.
  • الديمقراطية والثورة.
  • الكتاب الأسود للرأسمالية.
  • أسياد العالم.
  • هل يوجد حياة ما بعد الرأسمالية.
  • السياسة والدين.
  • شارك بعدد كبير من المؤلفات الجامعة ليتصدى لحروب الإمبراطورية والبحث عن بدائل ممكنة.

توفي لاببكا عن تسع وسبعين سنة إثر نزيف دماغي وهو يخوض المعارك الإيديولوجية والسياسية دون أي تهاون في خدمة القضايا التي شغلت عليه حياته، بالرغم من أن النكسات التي تتعرض لها الثورات، شيوعية كانت أم وطنية، وفي مقدمتها ثورة التحرر الوطني الجزائرية والفلسطينية، وثورة أكتوبر، وإن كانت نالت من شيوعيين كُثُرْ، فإنها لم تَنَلْ من عزيمته وتصميمه على النضال من أجل انتصار الثورات في جميع أنحاء العالم([3]).

 

ميشيل سير (1930 - 2019):

فيلسوف ومؤرخ فرنسي، "إهتم بتحليل المجتمع المعاصر، حيث بدأت هيمنة الوسائل "السيبرنطيقية"([4]) على مختلف أوجه حياة البشر، وقاده اهتمامه هذا إلى تأليف أحد أهم مؤلفاته في كتاب "الإصبع الصغير" الذي يقول فيه: "إن الجنس البشري، يعيش اليوم ثورة" تقنيه ومعلوماتية متحركة بسرعة تعادل "سرعة الالكترون"، فهي ثورة رقمية تتخذ مداها على مستويات مختلفة ومتعددة، ثقافية واقتصادية ومعرفية وعلمية واجتماعية، إنها ثورة "الإصبع الصغير" كما يسميها ميشيل سير"([5]).

يعتبر ميشيل سير أحد أبرز فلاسفة العلم في العصر الحاضر، بل أكثرهم شهرة في العالم الأنجلوساكسوني"([6])، وهو أيضاً "أحد أكبر المفكرين الفرنسيين إنتاجاً. كتب ما يقارب ستين عملاً، وهو صاحب رأي، يهتم بمجالات عدة: الانفجار الكوني العظيم، والتكنولوجيات الجديدة، واللغات، وعلم الجينوم، ومعنى التاريخ"([7]).

"يندرج فكر ميشيل سير الإبستمولوجي ضمن التيار الباشلاري (غاستون باشلار)، إذ قام هو كذلك بتجديد الإبستمولوجيا وخرق الحدود بين النشاط العلمي والإبداع الفني، فقد كتب عن علاقة الفلسفة بالعلم وعن الإبستمولوجيا وفلسفة العلوم، وبذلك فليس الأهم، في نظر سير، هو الفصل بين العلوم؛ أي الإغراق في التخصصات، بل التجوال على طول هذه المسارات والتعرجات أو ملتقيات الخطوط التي تجوب فضاء المعرفة العلمية، لذا يدعونا إلى فلسفة للتواصل، حيث التقاطع والمبادرة والتوقيف، مفاهيم تلعب دوراً مهماً في عملية الإبداع، فالعقل العلمي الجديد– الجديد– عند ميشيل سير- يقتضي التخلي عن فلسفة النقطة الثابتة أو فلسفة الإحالة إلى مفاهيم الماهية والجوهر والذات والموضوع، أو الإله أو الإنسان أو الأصل والغاية، هذا ويتسم العقل العلمي لميشيل سير بثلاث سمات أساسية، هي: التفاعل بين النظريات، والتفاعل بين المواضيع، ثم التفاعل بين الذوات، وهو ما يعني أن بين العلوم داخل موسوعة المعرفة العلمية تقاطعات وأفعال نقل واستيراد؛ وأن موضوع العلم المعاصر هو الجسم الصلب وليس السوائل؛ أما التفاعل بين الذوات العالمة فيدل على أن العلم لم يعد يحيل على العالم المكتشف أو الرائد، بل على الجماعة أو المدينة العلمية.

حاصل القول أن م.سير يستقي خصائص إبستمولوجيته من أوصاف العلم المعاصر؛ أما إشكالاتها فهي ذاتها إشكالات الإبستمولوجيا التقليدية وقد أفرغت في العلم نفسه، فتصبح بذلك كل جهوية علمية إبستمولوجيا لعلمها الخاص، فتكون على شكل عِلم العلم، كما تمثل، في الوقت نفسه، إبستمولوجيا عامة لأنها تنفتح على باقي العلوم "([8]).

يقول عن تفجير القنبلة الذريه في اليابان: ماوقع في ناكازاكي وهيروشيما أحدث لَديَّ صدمة مهولة، لذلك فجأة، العلم الذي عشقناه، لأنه جاء لنا بالرفاهية والدواء ومختلف ما يفترض أنه يحدد نمط الحياة الجيدة، صار نفسه العلم الذي أنتج جريمة شنيعة: القنبلة الذرية.

في اجابته على سؤال ماهي الكفاءة النوعية للفيلسوف؟ يقول ميشيل سير :

"هناك رواية لـ جول فيرن، جال أحد شخصياتها يسمى فاليValet  العالم قاطبة، فأُطلق عليه لقب مفتاح عمومي. هكذا حقيقة الفلسفة: مفتاح لكل القضايا، إنها عربة صالحة لمختلف التضاريس، تطوي كل العالم، تجوب الحقول المعرفية، وتحيط بأفراد البشر، تلك هيميزتها، ويشكل ذلك أيضا قوتها بالنسبة للعالم الحالي، وقد تداخلت جل مشاكله بكيفية شاملة"([9]).

عن المثقف والتثقيف يقول: "من المهم بالنسبة للتثقيف التعلّم ثم الترسيخ في الذاكرة، لكن بقدر مايستمر السعي ضمن حدود التثقيف، فستظلون أيضاً عند حدود مجرد ترتيب المعلومات، وبالتالي يقتضي التفكير التحرر من ذلك، وفي اجابته على السؤال التالي: أكدتم بأن إنسانية جديدة بصدد التحقق. وفق أي سياق تختلف عن السابقة؟

يقول: "نعيش اهتزازاً ثقافياً مرّ حسب ثلاثة وقائع ضخمة، تشير الأولى إلى اختفاء طبقة الفلاحين، خلال القرن التاسع عشر، في بلدان تقارن بلداننا، شكَّلت الساكنة 90% من المزارعين، مقابل 0.8% حالياً.

تبلور عالم القرويين هذا منذ العصر الحجري الأخير، نعيش إذن نهاية هذه الحقبة. لم يعد هناك شيء أكثر أهمية بالنسبة للتاريخ الإنساني، لأن عالم الفلاحين اختلف كلياً عن عالم أفراد المدن.

الانقلاب الثاني، ديمغرافياً. حينما ولدت سنة 1930، قارب عدد سكان الأرض بالكاد ملياري نسمة. حالياً، أوشكنا على بلوغ ثمان مليارات، فهل علمتم عَبْر التاريخ، حياة بشرية معينة تضاعفت مرتين؟ كانت الأرض فارغة؛ بينما اليوم ممتلئة نتيجة ارتفاع مؤشر الأمل في البقاء"([10]).

أخيراً،حدث انقلاب ثالث ابتداء من سنة 1995 مع ظهور تقنيات جديدة. فالقطيعة عامة وذاتية في الوقت نفسه، لأنها خلقت انقلاباً على مستوى مِهَنِنا، وكذا طريقتنا في الحصول على المعلومة، ثم علاقتنا مع الطبيب وكذا المسؤولين السياسيين، لذا ينبغي على الفيلسوف الاشتغال ليس فقط من أجل خلق العقول الفردية، مثلما تصور سقراط، بل المجتمع المستقبلي.

العديد من طلابه يتذكّرون الطريقة التي كان يفتتح بها دروسه: "آنساتي، سادتي، أنصتوا جيّداً، إن ما ستسمعونه سيغيّر حياتكم...". وبالفعل ما أن يغادروا دروسه حتى تتغيّر ألوان الحياة، وتصبح أكثر ابتهاجاً.

كان ميشيل سير رجلاً سعيداً، أو على الأقل كان يعمل على الظهور كذلك، مثلما كان يظهر، بمزاجية خالصة، شديد الانفعال. لقد وُلد نجماً مسرحياً، ولم يكن ينقصه سوى العثور على جمهور في مستواه، ويعتقد "سير"، في هذا المقام، أن موقعاً مثل "فيسبوك"، يوزع الفاعلية بالتساوي على الناس ويمنحهم أصواتاً ليعبروا عن أنفسهم فيما يشبه إنتاج روابط اجتماعية جديدة لم تنجح الأجيال السابقة في إنتاجها، وهو ما يرى فيه أساساً لعقد اجتماعي جديد سيكون نواة لحياة الأجيال المقبلة. وليس “فايسبوك”، في هذا السياق، هو الممدوح الوحيد، إذ أن "سير" يتوقف لدى هاري بوتر ومحطات القطارات المزدحمة وطرق التعليم الجديدة على الإنترنت والمستشفيات، كثيمات لحياتنا المعاصرة تساهم، مع ثيمات أخرى كثيرة، في تشكيل هذا العقد الجديد.

كان ميشيل سير من الأوائل الذين أدخلوا مفهوم "بنية" إلى حقل تاريخ الفلسفة، لكن لم يكن يطمع في أن يتمّ إقحامه في معسكر "البنيوية"، هو الذي كان يكره كل أشكال الموضة، وكان يردّد عادة أنه ابتداء من سن الثلاثين "على الفيلسوف الذي يحترم نفسه أن يكف عن قراءة معاصريه". "كان مسافراً كبيراً، ما سمح له أن يكون أيضاً سارداً مدهشاً للحكايات. كان فيلسوفاً، بل وحكيماً على طريقته الخاصة، ولهذه الأسباب سيبقى العالم يتذكّره"([11]).

ظهر أول كتبه، عام 1968، "نظام ليبتنز ونماذجه الرياضية" (منشورات جامعة باريس)، أطروحة الدكتوراة التي قدّمها حول فلسفة لايبنز، والأجزاء الخمسة التي وضعها حول هرمس، إله الاتصال لدى الإغريق، في بدايات تجربته، تشير إلى رغبة واضحة لدى الرجل في فهم العالم الذي يعيشه، فلسفياً. ليس عالم الأمس الذي شغل ميشيل فوكو، ولا عالم المفاهيم الذي شغل زميله الآخر جل دولوز.ثم انتقل إلى العاصمة باريس للتدريس في جامعة باريس 8 وباريس، كما أنه استأنف تأليف مجموعة كبيرة من الكتب، بلغت الستين كتاباً على الأقل.

وَصَفَت جريدة "لوموند" الفرنسية (عدد 4 يونيو 2019) الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير، مباشرة بعد موته أول يونيو 2019، بأنه فيلسوف وأكاديمي محبّ للحياة وعقل موسوعي، ومالك لثروة هائلة من الكلمات، ومفكر كبير في التقاليد الشفوية([12]).

ريتشارد رورتي (1931 - 2007):

فيلسوف أمريكي، يُعدّ، إلى جانب هيلاري پوتنام([13])، من أبرز مُمثِّلِي الذرائعيه (البرجماتية)، كان له مسار طويل في أقسام التدريس المتنوعة: الآداب، والفلسفة، والأدب المقارن، انتمى في البداية إلى تيار الفلسفة التحليلية، ثم نبذه فيما بعد.

"تدرب ريتشارد رورتي في الفلسفة التحليلة، وفي كتابه "الفلسفة ومرآة الطبيعة" (1979)، ربط رورتي نقداً جذرياً ثنائية الذات – الموضوع في الإبستيمولوجيا (من لوك إلى كانط) وأيضاً فكرة الحقيقة، بوصفها علاقة واحد – لواحد بين الفكر والشيء، او بين القضية الخبرية والواقع، وانتقد الفكرة التي تفيد أن الحقيقة هي في التوافق، وأكد رورتي فكرة المنفعة، مفضلاً إياها على فكرة التوافق، لذا تحرك في اتجاه المذهب البراغماتي، وأكد في الوقت ذاته أن الفكر يتموضع بشكل دائم في سياقات جزئية خاصة، لذا كان رورتي فيلسوفاً برجمائياً، فعنت براغماتيته وسياقيته أن التقليد السياسي عنده سابق على الفلسفة، فكان رورتي من الداعمين للتقليد الليبرالي والديمقراطي لوطنه الولايات المتحدة، وذلك كان "سياقه" العملي، البرجماتي، فالسياق هو الذي يقرر ما هو النافع، وبالتالي ما الذي له قيمة من دون سند من الحجج الفلسفية"([14]).

حاول رورتي أن يجري "محادثة" مع المفكرين العظام، لكنه فعل ذلك بشكل دائم عن طريق تفكيك أقوالهم وأفكارهم الفلسفية (مثل فكرة الحقيقة). لذا لم ير رورتي النصوص الفلسفية مختلفة عن النصوص الأدبية، وقد يكون في قراءتها متعة وتهذيب، وهي تقدم لنا نظرات ورؤى، لكنها لا تقدم لنا شيئاً يمكن أن يقال إنه حقيقي أو صحيح.

إن ما يميز "رورتي" افتراضه وجود فرق قوي بين المنطقتين الخاصة والعامة، فالإنسان الفرد قد تهذبه وتغنيه قراءته للأدبيات الكلاسيكية العظمى شرط أن لا يعتبر ما تقول بمثابة عقائد ثابتة عن الحقيقة، أو كيف نعمل لتنظيم المجتمع. فإن مسألة ما يجب عمله لتنظيم المجتمع مسألة تخص المنطقة العامة المنفصلة عن المنطقة الخاصة، وهنا يدعم رورتي المجتمع الليبرالي.

قرأ رورتي، من حيث هو شخص خاص، كلاً من نيتشه وهايدغر، لكنه أبقى نفسه على مسافة ساخرة من مزاعمها، غير أنه، وكمفكر سياسي، اعتبر الفلاسفة من طراز نيتشه وهايدغر غير مقبولين كلياً، وخطرين، وذلك انطلاقاً من قناعته بمجتمع ليبرالي منفتح ومتنور ومتحرر من الإملاء الفلسفي.

لذا انتقد التفكيكيين الفرنسيين (مثل دريدا، وبخاصة فوكو) لخلطهم فلسفة الحياة بالسياسة،ورأى أن علينا في السياسة أن نكون ليبراليين وأن لا ندعم النقد المتطرف المبني على مشاريع فلسفية، إذ رأى رورتي أن كل شيء سياقي ومحتمل، فلا وجود لقضايا أو معايير كلية أو ضرورية.

إن مقاربة رورتي التفكيكية تتميز بالواقعة المفيدة أنه كان فيلسوفاً تحليلياً، ويعرف المدرسة التحليلية معرفة جوهرية، وهي المعرفة التي يسرت له إمكانية النقاش بدقة عالية، فهو لم يكتف بأن يبين كيف يمكننا أن ننجح من دون التمييزات الفلسفية (مثل التمييز بين الصدق والكذب). وقد فعل ذلك بإظهاره أن تلك التمييزات تتفكك وتنهار عندما نتطرف في اعتبارها مثلاً بالمعنى المفيد أن فكرة الحقيقة المطلقة تصير إشكالية. لقد نظر رورتي إلى نقد الفلسفة نظرة جدية، فأنكر شخصياً أن تكون الفلسفة مهنة وارتد عنها وانتقل إلى قسم الآداب في الجامعة. وكان رورتي على وعي بمسائل المرجعية الذاتية التي تنشأ مع موقف ريبي. لذا كان دائم الحذر، ووضع مزاعم قليلة، لكنه "اقترح وألمح" إلى طرق بديلة من الحديث.

إن "اللافت هو أن رورتي حاول غالباً أن يفكك التمييزات الفكرية عن طريق التركيز على نُسَخَها المتطرفة ونقدها، غير أن رفض النُسَخ المتطرفة لا يُسَوِّغ رفض النُسَخْ الأكثر إعتدالاً، مثل مفهوم الحقيقة. وأخيراً نقول إنه من الصعب أن نرى كيف يمكن لرورتي، من دون تناقض، أن يحتفظ بمثل ذلك التمييز الحاد بين المنطقة الخاصة والمنطقة العامة. وفي هذه النقطة بصورة خاصة ما يبعث على السخرية، لأنه اختص بتفكيك مثل تلك التمييزات الفكرية الحادة"([15]).

كولن ولسون (1931 - 2013):

فيلسوف انجليزي، ولد لعائلة فقيرة من الطبقة العاملة، تأخر في دخول المدرسة، وتركها مبكرا في سن السادسة عشر ليساعد والده، عَمِلَ في وظائف مختلفة، ساعده بعضها على القراءة في وقت الفراغ.

"نشر مؤلفه الأول (اللامنتمي) 1956 وهو في سن الخامسة والعشرين، وقدكتب ولسون كتابه هذا في المتحف البريطاني كمكان هادئ للكتابة لجأ اليه بسبب فقره، ثم كتب "سقوط الحضارة" و "رواية الشك" و"ما بعد اللامنتمي" و "طقوس في الظلام" و"طفيليات العقل" و"إله المتاهة" و "المعقول واللا معقول" وغير ذلك.

تناول ولسون في كتابه "اللامنتمي" عزلة المبدعين(من شعراء وفلاسفة) عن مجتمعهم وعن اقرانهم وتساؤلاتهم الدائمة، وعزا ذلك إلى الرغبة العميقة في ايجاد دين موضوعي وواضح يمكن له ان ينتقل إلى الاخرين، دون أن يقضوا حياتهم في البحث عنه.

" كتاب اللامنتمي يعالج بشكل عام قضية الوجود الانساني وقيمته من خلال دراسة سيكولوجية، وفكرية، لعزلة المبدعين عموماً، والانسان اللامنتمي خصوصاً، فاللامنتمي هو الانسان غير المنتمي لحزب أو لأيديولوجيا أو أي تجمع سياسي أو ديني أو طبقي ... إلخ.

يقول ناشر الكتاب: ان مشكلة اللامنتمي هي في جوهرها مشكلة الحرية في معناها الروحي العميق، واللامنتمي، يبحث عن الحرية، وينشدها، من أجل الحصول على السعادة، لكنه يتعثر في طريقه في عالَم يساومه على كل شيء، ويطلب منه مقابلاً عن ما يعطيه من سعادة، فهو أكثر حساسية من أي إنسان آخر، حيث سَلَبَتْ منه الطبيعة قدرته على الشعور بشيء ما ، ومنحته قيمة الشعور بعدم قبول الواقع كما هو، ويشعر بالحاجة إلى تعويض ما لكي يجد طريقة بنفسه، إنه يرى العالم معقولاً ولا يراه منظماً ، وحين يواجه هذا اللا منتمي البورجوازيين يواجههم بألفاظ بذيئة، ليس لأنه يشعر بالرغبة بعدم الاحترام، ولكن لأنه يشعر بالكآبة وبضرورة قول الحقيقة، حتى لو لم يكن هناك أي أمل، فهو انسان يسعى في طلب الانتماء والانخراط في العالم المحيط بصورة طبيعية، ولكنه يتراجع حينما يرى أنه قد لا يُسمح له ان يُثْبِتْ ذاته في موضع يُمَكِّنه من تأدية دور خارج عن الرتابة وهو الدور الذي يتقنه اللامنتمي"([16]).

وعلى هذا الأساس "يعيش اللامنتمي إرادة حائرة بين ما يريده وبين واقع الناس من حوله، مما يقوده إلى الانسلاخ أكثر بسبب شعوره بالغربة التي تدفعه إلى مزيد من المعرفة لمواجهة الايديولوجيات والتطورات الهائلة المرتبطة بمظاهر الاستغلال وغياب السعادة وفقدان الانتماء للايديولوجيا والدين والامة وكل الشعارات الديماغوجية التي هي موضع ازدراء اللامنتمي أو المثقف المغترب، وهذا هو الألم الحقيقي الذي يشعر به عبر هذه الدوامه المجتمعية التي تخلق حالة الاغتراب والتميز لدى اللامنتمي أو المثقف عن عامة الناس الذين يمكن ان يتهموه بالجنون أو الغربة، وبالتالي اللامنتمي كما يقول ولسون هو نبي مستتر حتى عن ذاته، والحقيقة انه كلما ازداد وعي الانسان معرفياً فوق المنسوب السائد في مجتمعه يصبح في حالة من الاغتراب والقلق واللا انتماء، وهذا هو سبب غربة المثقف أو المبدع.

فالعلة الوجودوية عند الانسان المعاصر، لم تعد محصورة كما كانت في القرون السابقة، بهموم التساؤل عن ما قبل الحياة أو ما بعدها، هذه الاسئلة العينية جعلت المفكرين يتمردون عن الشعور بانعدام قيمة الحياة والتمرد عليها، كما هو الحال مع نيتشه وكافكا وسارتر وفان كوخ.. إلخ ، كما نراها في بعض الروايات.

أما القرن العشرين أو العصر الحديث، فقد اتسم بانكشاف الغطاء عن وجودنا الضعيف في عالم متسارع احتلت فيه التكنولوجيا والصراعات وانقسام العالم إلى معسكرين.. إلخ، كل هذه الاحداث أدت إلى خلق انسان تابع لكل هذه الأوضاع، ومسلوب الحرية في هذا الوجود، فالحرية كما يراها ويلسون، هي الارادة –كما يقول يوسف حسين- "التي تحفز الفرد على تحقيق ذاته، وعلى الفهم الانساني الحضاري، وليست الحرية ان يفعل الانسان ما لا يريده أو ما لا رأي له فيه، بتأثير الانتماء الطبقي الذي فرضته الايديولوجيات والاديان وبقية مظاهر العالم التكنولوجي والطبقي الرأسمالي في القرن العشرين، فلا يوجد في هذا العالم سوى حرية مزيفة، وبالتالي فإن الحرية المطلوبة هي الحرية التي لا تضع اية قيود على الانسان عموماً والانسان اللا منتمي المبدع والمثقف خصوصاً، وذلك لإلغاء أي شعور بالاضطهاد أو الاغتراب أو المعاناه ، بما يوفر لهذا الانسان الخروج من القطيع نحو ذاته وسعادته والتخلص من لا انتمائه لحساب ذاته المتحررة التي لا تندمج بالذات الجمعية او المجتمعية إلا بقراره الذاتي الحر".

نستخلص مما تقدم، ان اللامنتمي هو ذلك الانسان الذي فقد معاني السعادة في العالم الرأسمالي وتطور التكنولوجيا في القرن العشرين، وبالتالي شعوره بالتيه في هذا العالم أو البقاء وحيداً بسبب حساسيته الفائقة وقلقه الدائم، حيث يرى سعادة الآخرين سعادة مزيفة، مما يخلق لديه صراعاً بين الفردانيه والمجتمع، بين رغبته في الاندماج بالبشر وبين حاجته المستمره للعودة إلى ذاته للانفراد بها بعيداً عن هموم الناس"([17]).

حقق كتاب "اللامنتمي" "اصداء نقدية قوية، وجعل من الشاب الفقير كولن نجما في دوائر لندن الثقافية، وصارت أخباره الخاصة تتصدر اعمدة النميمة الصحفية، اثر ذلك على كولن كثيرا وصار يتخذ موقفا من الصحفيين والنقاد، الذين سرعان ما بادلوه نفس الموقف، وهاجموا كتابه على أساس انه "مزيف " وملئ بالنفاق. "رغم ذلك، لا يزال ينظر للكتاب على انه ساهم بشكل أساسي في نشر الفلسفة الوجودية على نطاق واسع في بريطانيا"([18]).

لكن كتابه الثاني (الدين والتمرد) 1957 قوبل بهجوم شديد من النقاد الذين كرروا وصفه بالمزيف والكذاب، كذلك ظل النقاد مع معظم كتبه التالية، لكن الرواج التجاري ظل ملازما لمعظم كتبه التي نالت هجوم النقاد أو لا مبالاتهم، لكن "ولسن" واصَلَ الإنتاج المعرفي دون اهتمام لهجوم النقاد، وقد تنوعت موضوعات كتبه بين الفلسفة، وعلم النفس الإجرامي، والرواية. في الفلسفة اكمل سلسلة اللامنتمي :عصر الهزيمة 1959، قوة الحلم 1961، اصول الدافع الجنسي 1963 ما بعد اللامنتمي 1965 في الرواية كتب عدة مؤلفات روائية منها : طقوس في الظلام 1960، ضياع في سوهو 1961، رجل بلا ظل 1963، القفص الزجاجي 1966، طفيليات العقل 1967 يربو عدد مؤلفات كولن ولسن الآن على المائة كتاب.و قد الفت عنه عدة مؤلفات نقدية.

أخيراً، أشير إلى أن كتب كولن ولسون لم تحقق انتشاراً واسعاً في أوساط المثقفين في بلداننا العربية، على الرغم من أنها لاقت اهتماماً وقبولاً من نخبة ضيقة جداً من المثقفين العرب.

من أقواله:

  • الإنسان اللامنتمي : إنسان ينساق بتأثير قوى روحية قسرية إلى حيث يجد حريته والتي قد تفضي به إلى طريق يتناقض ومتطلبات مجتمعه .. تقوده إلى ضالته في الراحة ورضا من تبعه. - كولن ولسون.
  • إنني موقن أن اللامنتمي إذا تعلم ليعرف نفسه وشد العزم ليسيطره على حياته بدلاً من أن ينجرف ورائها لانتهى رائداً في سلم الحضارة بدلاً من أن يكون رافضاً لها. - كولن ولسون
  • نرى في الحياة السرية أن اللامنتمي منفصل عن الآخرين بذكائه الذي يحطم قيم الآخرين بلا رحمة، ويمنعه عن التعبير الذاتي (فرض نفسه) لعدم استطاعته استبدال تلك القيم بقيم جديدة، فمشكلته إذن هي مشكلة ايكليزياستس: لا شيء يستحق بذل أي مجهود. - كولن ولسون
  • الضجر أو الفراغ يسمحان للعقل بان يمتلىء بطاقة غير مستخدمة فيتولد بذلك احساس مؤلم ويتم توليد حالة من الوعي المسرف والمفرط بالذات .. ويؤدي هذا الى النتيجة المعتادة بمنع الغرائز من القيام بعملها الهادىء الذي لا يعترضه عائق وتتجمد الاحاسيس وتصبح الرغبة في احاسيس قوية احتياجاً جارحاً مؤلما. - كولن ولسون
  • الحرية مدمرة إن لم تصحبها المعرفة والشعور بالمسؤولية. - كولن ولسون

 

 

 

([1]) حسان خالد شاتيلا – جورج لابيكا أو تغيير العالم بلا معلم – الحوار  المتمدن – العدد 2870 – 27 / 12/2009.

([2]) المرجع نفسه .

([3]) المرجع نفسه .

([4]) السيبرينطيقا هو علم التحكم في القوى الدقيقة (الكومبيوتر / الانترنت / الأقمار الصناعية / سفن الفضاء.. إلخ).

([5]) عز الدين بوركة – ميشيل سير فيلسوف العلوم – موقع معنى – الانترنت – 11/3/2020.

([6]) د. يوسف تيبس – فلسفة العلم في القرن الحادي والعشرين – موقع: أنفاس – 26/2/2009.

([7]) حوار مع ميشيل سير: التفكير سعادة عميقة – ترجمة: سعيد بوخليط – موقع الحدث – 1/7/2019.

([8]) د. يوسف تيبس – مرجع سبق ذكره .

([9]) حوار مع ميشيل سير: التفكير سعادة عميقة – ترجمة: سعيد بوخليط – موقع الحدث – 1/7/2019.

([10]) المرجع نفسه.

([11]) محمود عبد الغني – ميشيل سير: الفيلسوف الفرنسي جالب الأفكار – موقع ضفة ثالثة – 7 يونيو 2019

([12]) المرجع نفسه .

([13]) هيلاري بوتنام (1926 – 2016 ) فيلسوف أمريكي وعالم رياضيات وحاسوب، وشخصية بارزة في الفلسفة التحليلية في النصف الثاني من القرن العشرين.

([14])غنارسكيربك و نلز غيلجي–  مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي - ص  959

([15]) المرجع نفسه - ص  960

([16])يوسف حسين – محاضرة في اليوتيوب– الانترنت.

([17])المرجع نفسه 

([18])موقع ويكيبيديا – الانترنت - https://ar.wikipedia.org