Menu

هُوِيَّةُ الأَدَبِ الفِلَسْطِيِنِيِّ ومِعْيَارُهُ الْجَوهَريُّ

الْأَدَبُ الْفِلَسْطِيْنِيُّ بَيْنَ تَحْفِيْزِ المُقَاوَمَةِ، وتَحَدِّيَاتِ التَّطْبِيْعِ، ومُغْرَيَاتِ الْحَدَاثَةْ (4)

عبد الرحمن بسيسو

عبد الرحمن بسيسو.jpg

نشر هذا المقال في العدد 22 من مجلة الهدف الرقمية

لا يَنْظُرُ الأَدَبُ الْفِلَسْطِيْنيُّ الْحَقيْقِيُّ: قِيَمَاً وقِيْمَةً؛ ومُكَوِّنَاتٍ هُوِيَّةٍ، وتَجَلِّيَاتٍ جَمالِيَّةً، وإِبْدَاعَاً ونَقْدَاً؛ لِلتَّسَاوِي الْمَفْهُومِيِّ بِينَ الأَحْيَازِ اللَّامَكَانِيَّةِ الْقَائِمَةِ في أَزْمِنَةٍ غَرِيْبَةٍ، طَائِرةٍ وهَاربَةٍ، بِوصْفِهِ تَسَاوِيَاً شَامِلاً ومُطْلَقاً مِنْ كُلِّ مَنْظُورٍ وَوُجْهَةٍ، وإنَّمَا هُوَ يُدْرِكُهُ بِعُمْقٍ مُتَبَصِّرٍ مِنْ مَنْظُورِ خُلَاَصَةٍ إدراكِيِّةٍ جَوهَرِيَّةٍ واحِدةٍ فَحَسْبُ، أَلَا وهِيَ اسْتِحَالَةُ أَنْ يَكَونَ أَيٌ مِنْ الأحْيَازِ الزَّمَنِيَّةِ اللَّامَكانِيَّةِ وطَناً فِلَسْطِيْنِيَّاً، وَذَلِكَ بِقَدْر اسْتِحَالَةِ إعَادَةِ إِنْتَاجِ "فِلَسْطِيْنَ"؛ الوطَنِ الْمائِرِ وُجُودُهُ فِي الْوِجْدانِ الْفِلَسْطِيْنِيِّ الْفَرْدِيِّ والْجَمْعِيِّ، فِي أَيِّ حَيِّزٍ قَائِمٍ فِي آنِيَّةِ الزَّمَنِ الْهَارِبِ الْمُمْعِنِةِ فِي وُجُودٍ زَمَنِيٍّ زَائِفٍ يَعْجَزُ عَنْ تَجْلِيَةِ نَفْسِهِ مَكَانِيَّاً، وذَلِكَ مُنذُ وقُوعِ "النَّكْبَةِ الْفِلَسْطِينِيَّةِ الْكُبْرى" ومَا ارْتَبَطَ بِهَا، أَو مَا قَدْ نَجَمَ عَنْهَا وأَعْقِبَها، مِنْ تَحَوُّلاتٍ جِيُوسِيَاسِيَّةٍ أَوْغَلَتْ فِي تَكْريْسِ التَّزْوِيرِ والزِّيْفِ، وفِي مُجَافَاةِ الْحَقِّ والْحَقِيْقَةِ والْحَقَائِقِ الْحضَارِيَّةِ التَّارِيْخِيَّة والْقِيَمِ الإنْسَانِيَّةِ بِأَسْرِهَا!

ومَا مِنْ مَنْبَعٍ لِحَقِيْقَةِ "اسْتِحَالَةِ إِعَادَةِ الإنْتَاجِ" هَذِهِ إلَّا عَجْزُ "الوجْدَانِ الْفلِسْطِينيِّ والإنْسَانيِّ الْكُلِّيِّ"، عَنْ أَنْ يَرى فِي أَيٍّ مِنَ الأَحْيَازِ الْقَائِمَةِ فِي آنِيَّةِ الزَّمَنِ وراهِنِيَّتِهِ، والْمَحْكُومَةِ بِالسَّطْوِ والاسْتِلابِ والْغُرْبَةِ واخْتِلالٍ المَوَازِيْنِ، حَيِّزاً قَابِلاً لِأنْ يَصِيْرَ "زَمكَانَ وَطِنٍ" جَوْهَرِيٍّ اسْمُهُ، عَنْ حَقٍّ وفِي كُلِّ زَمَنٍ رَاهِنٍ وآتٍ، "فِلَسْطِين"؛ فَفِي إدْرَاكِ الإنْسَانِ الْفِلَسْطِيْنِيِّ الْمَسْكُونِ وِجْدَانُهُ بِزَمَكَانِ وَطَنَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْرقَ لِيُصَيَّر "إسْرَائِيْلَ"، سَوفَ لَنْ يَكُونَ لِهَذِهِ الأحْيَازِ الزَّمَنِيَّةِ الآنِيَّةِ أَنْ تَتَجَلَّى مَكَانِيَّاً لِكَونِهَا، فِي تَصَوُّرِ وعْيِهِ، غَيْرَ مُؤَهَّلَةٍ لِذَلِكَ، ولا تَمْلِكُ جَدَارةَ أَنْ تَكُونَ أَمْكِنَةً حَقِيْقِيَّةً، بَالنِّسْبَةِ إِلَيْه، أَبَداً.

ومَا هَذَا، مِنَ الوِجْهَةِ الْمُقَابِلَةِ، إلَّا لِعَجْزِهَا، كَأحْيَازٍ زَمَنيَّةٍ بِلا جُذُورٍ، عَنْ مُطَابَقَةِ مَا يُمورُ فِي أَعْماقِ الْوِجْدانِ الْفِلَسْطِيْنِيِّ الإنْسَانيِّ الْكُلِّيِّ الْحَيَوِيِّ مِنْ حَقَائِقَ مَعْرِفِيَّةٍ، ومُعْطَيَاتٍ حَضَارِيَّةٍ وتَاريِخِيَّةٍ، ومُكَوِّنَاتٍ شُعُورِيَّةٍ، تُؤَكِّدُ حَقِيْقَةَ أَنَّ اسْتِعَادَةَ "فِلَسْطِيْنَ الوطَنِ" هِي الشَّرطُ الجَوْهَرِيُّ لِأَيِّ حَيَاةٍ فَلسْطِيْنِيَّةٍ إِنْسَانِيَّةٍ حَقَّةٍ، ولِأَيِّ وُجُودٍ فَلَسْطيِنيٍّ حَقِيْقيٍّ فَاعِلٍ وذِي شَانٍ فِي شَتَّى مَدَاراتِ الْوُجُودِ الإِنْسَانيِّ.

 إنَّهَا، إِذَن، فِي واقِعِ حَالِهَا الْمَوْضُوعيِّ كَمَا فِي تَصَوُّرِ الْوعِيِّ الْحَضَاريِّ التَّارِيْخِيِّ الإنْسَانيِّ الْمُؤَصَّلِ، مَحْضُ أَحْيَازٍ زَمَنِيَّةٍ مُؤَقَّتَةِ الْوُجُودِ؛ إِنَّهَا أَحْيَازٌ لا تُجَلِّي مِنَ الْحَقَائِقِ مُمْكِنَةِ الْوُجُودِ أَمَامَ عَيْنَيِّ الإنْسَانِ الْفِلَسْطِيْنِيِّ إَلَّا حَقِيْقَةَ كَونِهِ إِنْسَانَاً مُقْتَلَعَاً مِنْ وطِنَهِ الْمسْرُوقِ، ومَطْرُوداً مِنْه أَو مَنْفِيَّاً مُغَرَّبَاً فِيْهِ، وإلَّا حَقِيْقَةَ أنَّهُ سَيَظَلُّ إِنْسَانَاً "مُؤَجَّلَ الوُجُودِ" طَالَمَا ظَلَّ وطَنُهُ مَسْلُوبَاً "مُؤَجَّلَ الْوُجُودِ"؛ أَيْ وطَنَاً مَكْبُوحَاً عَنْ تَجْلِيَةِ وُجُودُهُ الْفِعْلِيُّ بِإحَالَةِ نَفْسِهِ مَوضُوعِيَّا، ولا سِيَّما جِيُوسِيَاسِيَّاً، فَوقَ أَرْضِهِ وفِي جَميْعِ رِحَابهَا، إحَالَةً تُطَابِقُ حَقِيْقَتَهُ، وحُرِّيّةَ مَشِيْئَتِه، لِيُؤَكِّدَ، عَبْرَ هَذَا التَّجَلِّي الْمَوضُوعيِّ الْمُطَابِقِ، وُجُودَهُ فِي ذَاتِهِ ولِذَاتِهِ كَوَطِنٍ لا يَنْتَمِي إِلَّا إِلى ذَاتِهِ الْفِلَسْطِيْنِيَّةِ الإنْسَانِيَّة الْجَامِعَةِ، وعَلَى نَحْوٍ يُطَابِقُ وُجُودَهُ الْجَوْهَرِيَّ فِي وِجْدَانِ إِنْسَانِهِ الْفِلَسْطِينيِّ الَّذي جَعَلَهُ وطَنَاً حَضَارِيَّاً تَارِيْخِيَّاً، فَأَسْمَاهُ باسْمِهِ: "فِلَسْطِيْنَ"، وإلِيْهِ انْتَمَى.

إِنَّ الإنْسَانَ الْفِلِسْطِينيَّ لَيُدْرِكُ، بِجَلاءٍ سَاطِعٍ لا يَقْبَلَ أَدْنَى إِزاحَةٍ أو تَأْويلٍ، أَنَّهُ "لا يُقِيْمُ" فَعْلِيَّاً، بَلْ ظَاهِرِيَّاً فَحَسْبُ، فِي هَذَا الحَيِّزِ أَو ذَاكَ مِنْ أَحْيَازِ الأَرضِ الَّتي قُذِفَ إِلَيْهَا لِيُغُرِّبَ، مَطْروداً مِنْ وطِنِهِ، فِيْهَا. ويَكادُ هَذا الإدراكِ أَلَّا يُفَارِقَ، ورُبَّمَا بِضَراوةٍ شُعُورِيَّةٍ أَمَرَّ وأَقْسَى، وِجْدَانَ الإنْسَانِ الْفِلِسْطِينيِّ الَّذي لِمْ يَزلْ "مُقِيْمَا" فِي وطَنِهِ الْمسْرُوقِ، والْمُؤَجَّلِ الْوُجُودَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لانْعِدامِ تَطَابَقِ وُجُودِهُ فِي الْخَارِجِ مَعْ وُجُودِهِ فِي وِجْدَانِه، ولِكَونِهِ قَدْ جُعِلَ، بِفِعَلِ الاحتلالِ الاسْتِعْمَاريِّ الاسْتِيْطَانِيِّ الصُّهْيُونيِّ التَّهْوِيْدِيِّ، حَيِّزاً زَمَنِيَّاً هَارِبَاً يَعْجَزُ عنْ أَنْ يَكونَ زَمَكَاناً حَقيْقيَّاً يُطَابِقُ وُجُودُهُ أَيٍّ مِنْ مُكَوِّنَاتِ هُوِيَّةِ الأرْضِ الَّتي "أُجْثِمَ" كِيَانَهُ الزَّمَنيُّ الْمصْطَنَعُ"، بالْقُوَّةِ الْغَاشِمَةِ، فَوقَ صَدْرِهَا.

ولِئنْ كَانَ الإنْسَانُ الْفِلَسْطِيْنيُّ "الْمُقِيمُ هُنَاك" فِي شَتاتِ الْمَنَافي أَو "الْمُقِيْمُ هُنَا" فَوقَ أَرْضِ وطَنِهِ الْمسْلُوبِ، قَدْ أُرْغِمَ، قَهْراً، عَلى الإِقَامَةِ فِي حَيِّزٍ زَمَنِيٍّ آنِيٍّ يَعْجَزُ عَنْ أَنْ يَكُونَ، فِي تَصَوُّرهِ الْعَمِيْقِ، "زَمَكَانَاً"، فَإِنَّهُ لَعَلَى يَقِيْنٍ مِنْ أَنَّهُ كَفَرْدٍ مُتَعَيَّنٍ بِفِلَسْطِيْنِيَّتِهِ وإِنْسَانِيَّتِه، ومِنْ أَنَّ وطَنَهُ والأَعَمَّ الأَغْلَبَ مِنْ أَفْرادِ شَعْبِهِ كَكَيْنُونَةٍ إنْسَانِيَّةٍ حَضَارِيَّةٍ، تَارِيخِيَّةٍ وجِيُوسِيَاسِيَّةٍ، غَيْرُ قَابِلَينِ لِإبْدَاءِ أَدْنَى إِذْعَانٍ لِقَهْرٍ إِرْغَاميٍّ، أَوْ اسْتِبْدالِ نَفْسِيْهِمَا، وذَاتَيْهِمَا، وجَوهَرَ كَيْنُوْنَتَيْهِمَا، بِبَدائلَ هُوِيَّاتِيَّةٍ أَو مَكَانِيَّةٍ، لا تَكْتَنزُ جَوْهَرَ هُوِيَّتِيْهِمَا الْحَقِيْقِيَّتينِ الْمتَواشِجَتَينِ بِالْتِحَامٍ جُذُوريٍّ حَضَارِيٍّ وإنْسَانيٍّ عَصِيٍّ عَلَى الاقْتِلاعِ، أَو التَّفْكِيكِ، أَوْ التَّسْيِيلِ والإذَابَةِ، وذَلِكَ بِقَدْر مَا هُمَا عَصِيَّينِ، أَرْضَاً وشَعْبَاً، عَلَى الاسْتِمرارِ فِي الْبَقَاءِ قَيْدَ الاحْتلالِ والاسْتِعْمَار، والتَّزييفِ والتَّزْوِيْرِ، والاسْتِلابِ والأَسْرِ، والتَّخَبُّطِ الْوُجُودِيِّ فِي مَتَاهَاتِ أَزْمِنَةٍ هَارِبَةٍ، وديَامِيْسَ خَيَاراتٍ سِيَاسِيَّةٍ بائِسَةٍ لا تَتَوخَّى شَيْئَاً سِوى تًكَرْيْسِ السَّلْبِ، وتَسْوِيْغِ التَّزْوِيرِ، وإدامَةِ الاسْتِعْبَادِ، والتَّوحُّشِ الْعُنْصُريِّ، والظُّلَم! 

***

جَلِيُّ، إِذَنْ، أَنَّ لِلْخُلَاصَةِ الْأَخِيْرةِ أَنْ تَصْدُقَ على شَتَّى الأَماكَنِ الأرْضيِةِ الْمَسْلُوبَةِ والْمَسَيَّجَةِ، أو الْوَاسِمَةِ الْإِنْسَانَ الْفِلَسْطِيْنِيَّ بالْوُجُودِ فِي أَحْيَازِ أَزْمِنَةٍ هَارِبَةٍ، وضِمْنَ هَذِهِ الأحْيَازِ، بَلْ وقَبْلَهَا جَميْعَاً، الْمكَانُ الأرْضِيُّ الَّذي كانَ هُوَ الوطَنُ "فِلَسْطِينْ"  قَبْلَ أنْ يُسْرقَ لِيُسَمَّى "إسْرائِيلَ". وإلى ذَلِكَ، فَإنَّ المكانَ الْوحيدَ الَّذي يَصِحُّ إنْتَاجُ، أوْ تَصِحُّ إِعَادَةُ إِنْتَاجِ، الْوطَنِ الْفِلَسْطِيْنيِّ فِيْهِ، هُوَ الْوطَنُ نَفْسُهُ: "فِلسْطِينْ"؛ فَلَسْطِيْنُ الآتِيَةُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ طَالِعَةً مِنْ زَمكَانِهَا الحَضَاريِّ التَّاريخيِّ الْقَدِيمِ والْمُجَدِّدِ وُجُوْدَهُ فِي شَتَّى مَدَاراتِ الْوجُودِ الَحَقِّ، وصَاعِدةً مِنْ قَلْبِ الْوِجْدانِ الْفِلِسطينيِّ الْكُلِّيِّ، وذَلِكَ في تَرافُقٍ صَمِيْمِيٍّ مَعْ نُهُوضِ وَعْيِّ الشَّعْبِ الْفِلَسْطِينيِّ عَلَى إدْرَاكٍ عَمِيْقٍ لِحَقِيْقَةِ الْخَطَرِ الصُّهْيُونيِّ الاسْتيْطَانيِّ الَّذِي يَتَهَدَّدُ وُجُودَ وَطَنِهِ ووُجُوْدَهُ، ومَعِ انْبثَاقِ لَحْظَةِ انْخِراطِه، كَشَعْبٍ مُوَحَّدٍ ومُلْتَحِمٍ وعَلَى نَحْوٍ جَمْعِيٍّ مُثَابرٍ ومُعَزَّزٍ بِدَعْمِ وَمُنَاصَرةِ الإِنْسَانِيَّةِ الْحَقَّةِ بِأَسْرِهَا، في حَرَاكٍ نِضَاليٍّ تَحَرُّريٍّ مُقَاوِمٍ مَفْتُوحِ الآفَاقِ لِكَونِهِ واضِحَ الْغَايَاتِ والرُّؤَى الْمُسْتَقِبَلِيَّة والْمَقَاصِدِ، ومُتَشَعِّبَ الْمجَالاتِ والْحُقُولِ والأدَواتِ والْوسَائِلِ والسُّبُلْ؛ ولِكَونِهِ حَرَاكَاً مُثَابِراً، شَامِلاً وفَعَّالاً وَمُتَكَامِلاً، ولا يَسْتَهْدِفُ شَيْئَاً أَقْربَ أو أبْعَدَ مِنَ اسْتِعَادَةِ فِلَسْطِيْنَ، بِتَمامِهَا وكَمَالِهَا، مِنْ سَارِقِيْهَا الْمُسْتَعْمِرِينَ الْمُسْتَوطِنينَ، وداعِميْهِمْ الرَّأْسِمَاليينَ الْمُتَوَحِّشينْ، لإِعَادَتْهِا إلى وُجُودٍ حَقِيْقيٍّ هِيَ جَدِيرةٌ بِهِ بِقَدْرِ مَا هُوَ شَعْبُهَا بِهِ جَديرٌ، ولِتَعْزيزِ خَطْوِهَا الْواثِقِ صَوبَ مُسْتَقِبَلٍ وطنيٍّ، حَضَاريٍّ وإنْسَانيٍّ، مَفْتُوحٍ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ مَفْتُوح.  

فلا يَقُولَّنَ أَحَدٌ، إِذَنْ، أَو يَزْعُمَنَّ مَأخُوْذَاً في كُلِّ حَالٍ بتَقَاعُسٍ مُهْلِكٍ يُحَفِّزهُ وعْيٌّ زائِفٌ تُسَيُّلُ رِيْقَ الْمَأخُوذِيْنَ بِه شَهَواتٌ أَنَانِيَّةٌ رَخِيْصَةٌ وعَابِرةٌ، وغِوَايَاتُ تَطِبيعٍ مَجَانيٍّ مَصْحُوبُ بإِذْعَانٍ مُذِلٍّ، أَنَّنَا سَنَسْتَعِيدُ كُلَّ شَيءٍ، وكُلَّ قِيْمَةٍ وحَقٍّ، حينَ نَسْتَعِيدُ أَرْضَاً مِنْ أَرْضِ الوطَنَ! أَوْ حَتَّى حِيْنَ نُعْطَى بِقْعَةً صَغِيْرةً مِنْهُ نَجْعَلُهَا وَطَناً نُسَمِّيْهِ، مِنْ جَديدٍ، "فِلَسْطينَ الْجَدِيْدةِ"! فَلَسْتُ أَحْسَبُ أَنَّ بِمَقْدُوْرِنَا اسْتِعَادةَ الْوَطنِ الْفِلَسْطِيْنِيِّ إنْ لَمْ نَسْتَعِدْهُ بِأَسْرهِ، بِقَدِيْمِهِ وجَدِيْدِهِ الْمفْتُوحَينِ عَلَى صَيْرُوْرَةِ الْحْيَاةِ والتَّجَدُّدِ الْخَلَّاقِ، وذَلِكَ عَبْرَ اسْتِعَادةِ كُلِّ مَا هُوَ لَهُ ومَا هُوَ عَلَيْهِ، وكُلِّ مَا هُوَ فِيْهِ ومَا هُوَ إلَيْهِ، مِنْ حُقُوقٍ وواجِبَاتٍ ومواردَ وثَرواتٍ، وكُلِّ مَا قَدْ أَنْتَجَهُ ومَا يَزْخَرُ بِهِ مُتَجَلِّيَاً فِيْهِ أَو كَامِنَاً فِي أَعْمَاقِهِ، وكُلِّ مَا يَعِدُ بالانْفِتَاحِ مُسْتَقْبَلاً علَيهِ، وكُلِّ مَا قَدْ أَنتَجتْهُ الأَجْيَالُ الْفِلَسْطِيْنِيَّةُ الْمُتَعَاقِبَةُ الْوُجُودَ في رِحَابِهِ وخَارِجَ رِحَابِهِ عَلَى مَدَى الْعُصُورِ والْمرَاحِلِ والأَحْقَابِ والأَزْمنةِ، وضِمْنُهَا، بالطَّبْعِ، تِلكَ الأَزْمِنَةُ الْغَرِيْبَةُ الْهَاربَةُ فِي شَتَاتِ أحْيَازِ أَزْمِنَةٍ لامَكَانِيَّةٍ لاَ حَيَاةً حَقيْقِيَّةً تَجْرِي أَمْواهُ أَنْهُرِهَا فِي أيٍّ مِنْهَا، ولا يَتَوافَرُ أَيٌّ مِنْهَا عَلَي خَصَائِصَ وسِمَاتٍ وتَجَلِّياتِ وُجُودٍ تُؤَهِّلُهُ لِأَنْ يَكُونَ زَمَكَانَاً وَاقِعِيَّاً ذَا هُوِيَّةٍ مُلْتَحِمَةٍ؛ أَيْ وطَنَاً حَقِيْقِيَّاً قَابِلاً لمُواصَلَة الْوُجُودِ بِوصْفِهِ مَجَالاً حَيَويَّاً لِشَعْبٍ أَصِيْلٍ، نَشِطٍ وحَيَوِيٍّ، ومَوَّارٍ وِجْدَانُهُ الْكُلِّيُّ بِنُشْدانِ الْحَيَاةِ وإثْراءِ الْوجُودِ؛ شَعْبٍ أَكْسَبَ وَطَنَهُ حَضَارَتَهُ، وأطْلَقَ مَسَاراتِ تَارِيْخَهِ الإنْسَانِيِّ الْحَيَويِّ الْخَلَّاقِ، فَصَاغَ هُوِيَّتَهِ، وسَمَّى نَفْسَهُ بِاسْمِهِ إِذْ بِاسْمِهِ أَسْمَاهُ.

***

ولّسْتُ أحْسَبُ أَنَّ لِهَذَا القَولِ التَّأْسِيْسيِّ الْمُؤَصَّلِ أَنْ يَعْني أَمْراً يَقِلُّ عَنِ ضَرورةِ الامْتِلاكِ الْفِعْلِيِّ الْكُلِّيِّ لِكُلِّ مَوْرُوْثِنَا الحَضَاريِّ الزَّاخِرِ، بِجَميْعِ مُكَوِّنَاتهِ ومُكْتَنَزَاتِه وتَجَلِّيَاتِه، وضِمْنُهَا، بِالطَّبعِ، جَميْعُ صَنَائِعِنَا وإبْدَاعاتِنِا الأَدَبِيَّة والفَنِّيَّةِ والثَّقَافِيَّةِ عَلَى تَعَدُّدِ أَنْواعِهَا، وتَغَايُر تَجَلِّياتِهَا الْجَمَالِيَّةِ، وتَشَعُّبِ مَدْلُولاتِهَا الْفِكْريَّةِ، وذَلِكَ مُذْ بَدْءِ البَدْءِ وحتَّى اللَّحْظَةِ الرَّاهِنَةِ، وعَلَى مَدى كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحْظَاتِ مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ الْمُتَواشِجَةِ معِ الْوجْدانِ الْفِلَسْطينيِّ الْكُلِّيِّ الَّذي فِيْهِ يَلْتَحِمُ المَكَانُ الْوَطَنُ بِالزَّمَانِ الْحَيَوِيِّ الْمتَدَفِّقِ فِيْهِ مُفْعَمَاً بِإبْدَاعِ صَانِعِ حَيَاتِهِ، وَمُوْجِدِهِ، ومُثْرِي وُجُودَهِ: الإنْسَانُ الْفِلَسْطِينيُّ الْإِنْسَانْ.

وإلَى ذلِك، لَنْ يَكونَ لأيِّ انْزِيَاحٍ عَفْوِيٍّ، أو مُتَقَصَّدٍ، في مَا قَدْ أنْتَجَه أو يُنْتِجِهُ أو سَيُنْتِجُهُ أَدِيْبٌ وفَنَّانٌ وكَاتِبٌ فِلَسْطِينيٌّ، عَنْ هَذَا الْقَولِ التَّأْسِيْسيِّ الْحَاسِمِ الَّذِي يُبَلْورُ، بِالنِّسْبَةِ للأَدَبِ الْفِلَسْطِيْنِيِّ: قِيَمَاً؛ وقِيْمَةً؛ وصُلْبَ هُوِيَّةٍ، ومُسَوِّغَ انْتِسَابٍ، جَوهَرَ الْمِعْيَارِ الإبْدَاعيِّ النَّقْديِّ الْمُؤَصَّلِ: فِكْرِيَّاً وجَمالِيَّاً ونَقْدِيَّاً، مِنْ كُلِّ مَنْظُورٍ إِبْداعيٍّ، وَمِنْ كُلِّ وُجْهَةِ تَأَمُّلٍ فَلْسَفِيٍّ وُجُوْدِيٍّ، ووِفْقَ مُقْتَضَيَاتِ كُلِّ مَنْهَجٍ نَقْدِيٍّ رَصِيْنٍ، إلَّا أَنْ يُحْمَلَ  عَلَى نَوْعٍ مِنَ الانْقِيَادِ غَيْرِ السَّويِّ لِمُكَوِّنٍ أو آخَرَ مِنْ مُكَوِّنَاتِ السَّردِيَّةِ الصُّهْيُونِيَّةِ الأُسْطُورِيَّةِ الزَّائِفَةِ والمُؤَدْلَجَة: ديْنِيَّاً، وسِيَاسِيَّاً، واسْتِعْمَارِيَّاً، واسْتِيْطَانِيَّاً، وسَواءٌ في ذَلكَ أكانَ هَذَا الانْزِيَاحُ  نَاجِمَاً عَنِ ضَحَالَةِ وعْيٍّ وسُوءِ إدراكٍ وغَفْلَةٍ، أوْ مُؤَسَّسَاً عَلَى سُقُوطٍ مَهِينٍ في مَهَاوي غِوايَاتِ التَّطْبيعِ الْمُذِلِّ مَعِ الْمُسْتَعْمِرِ الْغَاصِبِ، أَو مُترافِقَاً مَع ضَفْرِ غِوايَاتِ هَذَا التَّطْبيْعِ مَع سَعْيٍّ لَاهِبٍ للصُّعُودِ الْفَرْدِيِّ السَّرِيْعِ عَلَى سَلالَمِ إغْراءَاتٍ "حَدَاثَةٍ" لَيْسَتْ "حَدَاثِيَّةً" مِنْ أيِّ مَنْظُورٍ عَقْلِيٍّ رَصِيْنٍ وبِأَيِّ حَالٍ، وإنَّمَا هِيَ "حَدَاثَوِيَّةٌ"، أَو مَا بَعْدَ "حَداثَوِيَّةٍ"، وهِيَ، في حَقِيْقَتِهَا الْكَامِنَةِ وفي شَتَّى تَجَلِّيَاتِهَا، إِغْراءَاتُ "حَدَاثَوِيَّاتٍ مُؤَدْلَجَةٍ" مَدْمُوغَةٍ بِدَنَاسَةِ صُنَّاعِ الْمُسْتَعْمِرِ الصُّهْيُونِيِّ مِنْ النُّخَبِ الرَّأْسِمَاليَّةِ الْمُتَوَحِّشَةِ الْجَشِعَةِ، وسَدَنَةِ مَعَابِدِهَا، ومُسْتَكْتَبِيْهَا الْمأْجُورِينَ، ومَكْرِهِمْ!

ومَعْلُومٌ تَماماً، أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِإدْراكِ مُؤَسِّسَاتِ زيْفِ هَذهِ "الحَداثَوِيَّاتِ المُؤَدْلَجَةِ"، ولِتَبَيُّنِ مَقَاصِدِهَا الرَّأْسِمَالِيَّةِ الاسْتِعْمَارِيَّة الاسْتِحْواذِيَّةِ الْمُتَفَاقِمَةِ الَّتِي أُلْبسَتْ أَقْنَعَةً قِيْلَ، زُوراً وبُهْتَانَاً، إِنَّهَا تَتَراسَلُ مَعْ قِيَمِ الْحُرِّيَّةِ، والتَّنْويرِ، وحُقُوقِ الإنْسَانِ، ومَعِ الأخْذِ بِيدِ الشُّعُوبِ المُتَخَلِّفَةِ، وذَلِكَ فِي نِطاقِ كَونِهَا "حَدَاثَةً" و"ما بَعدَ حَدَاثَةٍ"، بَل و"ما بَعْدَ إمْبريَالِيةٍ" و"مَا بَعْدَ كُولونْيَالِيَّة، ورُبَّمَا "اسْتِشْراقٍ تَنْوِيْريٍّ جَديْدٍ"، و"عَولَمَةٍ نَبِيْلَةٍ" بَرِيْئَةٍ مِنْ كُلِّ غَايَةٍ إلَّا مَنْ غَايَاتِها الإنْسَانيَّةِ الْمُنِيْرة! أَقوْلُ إِنَّهُ قَدْ كَانَ لِإدْراكِ مُوسِّسَاتِ كُلِّ هَذَا الزِّيْفِ "الْحَدَاثَوِيِّ" أَنْ يَسَتوجَبَ نُهُوضَ الأَعَمِّ الأغْلَبِ مِنْ ثَقَافَاتِ أُمَمِ الْعَالَمِ وشُعُوبِهِ، ومِنْ مُبْدِعِيْهَا ومُثَقَّفِيْهَا الْعُضْوِيين، بمُنَاقَضَةِ "الحْدَاثَوِيَّةِ الْمُؤَدْلَجَةِ" المُزَيَّفَةِ جَوهَرَ "الْحَداثَةِ"، والْمُزَيِّنَةِ أَعْرَاضَهَا وتَجَلِّيَاتِهَا، لِتَفْتُكَ، بِخِفَّةٍ وبِلاَ رَأْفَةٍ، بِإنْسَانِيَّةِ الإنْسَانِ، مُنَاقَضَةً جَذْرِيَّةً رَصِيْنَةً تُوجِّهُهَا غَايَاتْ النُّهُوضِ الْحَضَاريِّ الْمُسْتَمِرِّ، والتَّقَدُّم الإنْسَانيٍّ، والْحَداثَةِ الْحَقَّة.

 ومَا كَانَ لِشَيءٍ أَنْ يُجَسِّدَ الْمُنَاقَضَةَ الْجَذْرِيَّةَ لِـ"الْحَداثَوِيَّةِ الْمُهْلِكَةِ" بِقَدْرِ مَا قَدْ جَسَّدَهَا، ومَا سَيُتَابِعُ تِجْسيدهَا وتَطْوِيْرَهَا، دَأَبُ المُفَكِّرينَ والمُبْدعِيْنَ والْمُثَقَّفِيْنِ الْعُضْويينِ مِنْ شَتَّى ثَقَافَاتِ الْعَالَمِ وأُمَمَهِ وشُعُوبِهِ، عَلَى الذَّهَابِ صَوبَ "ابْتِكَارِ حَدَاثَاثٍ" أَدَبِيَّةٍ وغَيْرِ أدَبِيَّةٍ حَقِيْقِيَّةٍ؛ حَدَاثَاتٍ جَوهَرِيَّةٍ أَصِيْلَةٍ؛ حَداثَاتٍ أَصْلِيَّةٍ ومُؤَصَّلةٍ ثَقَافِيَّاً، وإِنْسَانِيَّاً، وذاتِ وُعُودٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ قَابِلَةٍ لِلْوَفَاءِ بِهَا؛ حَدَاثَاتٍ تَنْأى بِنَفْسِهَا عَنْ أنْ تَكونَ "مُسْتَوردةً" أو قَائِمَةً عَلَى "تَثَاقُفٍ إمْلائيٍّ" أُحَاديِّ الْجَانبِ؛ حَداثَاتٍ لا تَنْتِمي إلَّا لِزَمَكَانَاتٍ تَتَطابَقُ  مُكَوِّنَاتُهَا، ومُسَوِّغَاتُ وُجُودِهَا، مَعْ مُكَوِّنَاتِ الْوِجْدَانِ الإنْسَانيِّ الْكُلِّيِّ، ومع حَاجَاتِ الإنْسِانِ وأَشْواقِهِ غَيْرِ القابِلَةِ لِلْعَزلِ عَنِ دَأَبِهِ الْمُثَابرِ عَلَى مُواجَهةِ التَّوحُّشِ الْبَشَرِيِّ، واجْتِثَاثِ الشُّروطِ الْحَاكِمَةِ "أَحْوَالِ الْعالَمِ الْقَاتِمِ القَائِمِ الآنَ"، والْحَائِلَةِ دونَ انْفِتَاحِ أَقْطَابِ الثَّالُوثِ الْحَضاريِّ الْوُجُودِيِّ: الزَّمانِ، والْمَكانِ، والْوِجْدَانِ الإنْسَانِيِّ الْكُلِّيِّ، عَلَى صَيْرُورَةِ تَفَاعُلٍ حَيَوِيٍّ خَلَّاقٍ تُفْضِي إلَى إدْرَاكِ واقِعٍ عَالَميٍّ جَدِيْدٍ؛ واقِعٍ مَنْشُودٍ إِنْسَانِيَّاً، وجَدِيْرٍ بِالْوُجُودِ فِي مُسْتَقْبَلٍ إِنْسَانيٍّ يُرادُ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ مِنَ التَّوحُّشِ الْبَشَريِّ ومِنَ الْعُنْصُرِيَّةِ الرَّأسِمَالِيَّةِ الْمُتَكَفِّلَةِ، طِيْلَةَ الْوقْتِ، بإنْتَاجِهِ، وتَدْوِيْرهِ، وإِعَادَةِ إنْتَاجِه!   

***

 وفي هَذَ الضَّوءِ، وتَأْسِيْسَاً عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَإِنَّنِي لَأَحْسَبُ أَنَّهُ لِيْسَ بِمَقْدورِ أَيِّ مُقارَبَةٍ نَقْدِيَّةٍ رِصِيْنَةٍ وجَادَّةٍ لأيِّ نَصٍّ مَنْ نُصُوصِ الأَدَبِ الْفِلَسْطِيْنِيِّ، ولا سِيَّمَا النُّصُوصُ المُضَمَّنَةُ فِي مَرْحَلَتهِ الثَّانِيَةِ الْكُبرى المُتَعَدِّدةِ السِّيَاقَاتِ والأَنْسَاقِ، أَنْ تُرَاوغَ بِشَأنِ اعْتِمَادِ هَذَا الْمعْيَارِ الإبْداعيِّ النَّقْدِيِّ، الرُّؤْيَويِّ والْجَمَاليِّ، الْجَوْهَرِيِّ والْحَاسِمِ، أَوْ أَنْ تَقْفِزَ عَنْهُ، أَوْ أَنْ تُغْفِلَهُ، مِنْ دُونِ أَنْ تُؤَدْلِجَ نَفْسَهَا، فَتُزَيِّفَهَا، وتُفْقِدَهَا صِدْقِيَّتَهَا، وتُجَرِّدَهَا مِنْ رَصَانَتَها الْمَنْهَجِيَّةِ النَّقْدِيَّةِ الْوَاجِبَةِ، فَتَحُوْلَ دُوْنَهَا والاتِّسَامِ بِأَدْنَى قَدْرٍ مِنَ الأَصَالَةِ الرُّؤيَويِةِ أو الْجَمالِيَّةِ، فِيْمَا هِيَ تُفْقِدُ النَّصَّ الإبْداعيَّ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّهَا تُقَارِبَهَ، مُقَارَبَةً تَحْلِيْلِيّةً، لِتَنْقُدَهُ، مُكَوِّنَاتِ حَقيْقَتَهِ الْمَائِرةِ فِي قَاعِهِ الْعَميقِ، والمتَجَلِّيَةِ عَلى سَطْحِه عَبْرَ تَلاحُمِ عَنَاصِرِهَا التَّكْوِيْنِيَّة، وتَشَابُكِ خُيُوطِ أَنْسِجَتِهَا، وتَفَاعُلِ تَرْكِيْبَاتِ صِيَغِهَا، وتَشَكُّلاتِ بُنَاهَا، وعَبْرَ تَشَكُّلِ شَبَكاتِ عَلاقَاتِهَا الْمُتَشَعِّبَة في مَداراتِ فَضَائِهِ الدَّلاليِّ بَاثَّةً مَا تَقُولُهُ عَلاقَاتُ الْعَنَاصِرِ التَّكْوِيْنِيَّةِ، والْخُيُوطِ النَّسِيْجِيَّة، والتَّراكيبِ اللُّغَوِيَّة، والصِّيَغِ الْبَلاغِيَّة، والْبُنَى الصُّغْرَى، والأشْكَالِ الْبِنَائِيَّة الْكُلِّيَّةِ، والسِّماتِ الْجَمالِيَّةِ، مِنْ مَعَانٍ، وتَصَوراتٍ، ومَدْلُولاتٍ، وَرُوْئً.

***

سَتَبْقى أَحْيَازُ الأزْمِنَةِ، بالنّسْبَةِ للإنْسَانِ الْفَلسْطِينيِّ، وللأديبِ الفلسِطينيِّ الرَّاسِخِ الانْتِمَاءِ إلى جَوْهَرِ هُوِيَّتِهِ كَإنْسَانٍ مُبْدعٍ، مَحْضَ أزمنةٍ هاربَةٍ تَعْجَزُ عن التَّجَسُّد الْفِعْلِيِّ في المَكانِ الْفِلَسْطَيْنيِّ الَّذي يُصْطَرعُ فَوقَهُ وعَلَيهِ، كَمَا فِي أيِّ حَيِّزٍ آخَرَ مِنَ الأحْيَازِ التَّي قُذِفَ إليْهَا مَنْ اقُتُلِعِ مِنْ وطَنِهِ مِنَ الْفِلَسْطِيْنِينَ، وذَلِكَ طَالَما ظلَّ صِراعُ السَّردِيَّتين مَفْتُوحَاً، وغَيْرَ مَحْسُومٍ لِصَالحِ الْحَقِّ والْحَقِيقَة. ولا أَحْسَبُ إلَّا أَنَّهُ سَيظَلُّ كَذَلِك لأمَدٍ بَعِيدٍ، ومَا ذَلِكَ إلَّا لِكَونِهِ صِراعاً بَيْنَ بَاطلِ مُسَلَّحٍ بِقُوَّةٍ غَاشِمَةٍ تُجسِّدهُ في الْمكَانِ فتَجْعَلُهُ يَتَصَوُّرُ نَفِسَهُ حقَّاً! وبَيْنَ حَقٍّ أَصِيْلٍ عَارٍ مِنْ كَلِّ قُوَّةٍ سِوى قُوَّتِه، فِيْمَا تَجْري تَغْطِيَتُهُ بِسُخَامِ زِيْفِ هَذَا التَّجَسُّدِ الاسْتِعِماريِّ الاسْتيْطَانيِّ الْقَسْريِّ الْمتَمَادِي، فَيَأخُذُهُ عَجْزهُ عَنْ مَحْوِ هّذا السُّخَامِ للاسْتِمَرارِ، عَلَى وجْهِ الْحقِّ والْحَقِيْقَة، فِي مُتَابَعَةِ تَجلِيَةِ حُضُورهِ الْحَيَوِيِّ الْفَاعلِ في الْمكانِ نَفْسِهِ، إلى الْيَأْسٍ مِنْ إِمكانِيَّةِ، بَلْ رُبَّمَا مِنْ جَدْوى، الاسْتِمْرارِ في إدْرَاكِ نَفْسِهِ بِوصْفِه حَقَّاً قَابِلاً، ذَاتَ يَومٍ قَريبٍ أَوْ حَتَّى بَعِيدٍ، للتَّجسُّدِ الْفِعْلِيِّ الْكُلِّيِّ فَوقَ مَكَانٍ مُحْتَلٍّ مِنْ قِبَل أَصْحَاب السَّرديَّةِ الصُّهْيُونِيَّةِ الزَّائِفَةِ الْمَأخُوذينَ بِهَوَسِ الْتِقاطِ الزَّمَنِ والْحَيْلُولَةِ دونَهُ والهُروبَ، وَذَلِكَ بِالإِمْعَانِ في اسْتِثْمَارهِ إلى حَدِّ اسْتِنْزَافِهِ، وبِتَفْعِيْلِ آلِيَّاتِ صِنَاعَتِهِ وتَوجِيْهِه، وبتَسْرِيْعِ خُطَى تَجْلِيَهِ حُضُورهِ الطَّاغِي كَزَمَنٍ صُهُيُونيٍّ عُنْصُرِيٍّ في الْمكَانِ الْفِلَسْطِيْنِيِّ الْمُحْتَلِّ، ورُبَّمَا فِي الْعَالَمِ بِأسْره!

ولَيْسَ ثَمَّةَ مِنْ شَيءٍ أَدَلُّ عَلَى السَّعْيِّ الصُّهِيُونيِّ الْمَحْمُومِ لالْتِقَاطِ رُوْحِ الزَّمَنِ، واسْتِثِمارِه، وصِنَاعَتِهِ، وتَوجِيْهِ مَسَاراتِهِ، وتَسْريْعِ خُطَاهُ، سِوى مَا يُبْصِرهُ الإنْسَانُ الْفِلَسْطِيْنيُّ ويُعَانِي عَقَابِيْلَ جُثُومِهَ الضَّاري عَلَى صَدْرِ مُسْتَقْبَلِهِ وأَنْفَاسِه، مِنْ "حَقَائِقَ اسْتِيْطَانِيَّةٍ" تَجْري مُرَاكَمَتُهَا "فَوْقَ الأَرْضِ" عَلَى نَحْوٍ يَسْعَى إَلى تَكَرْيْسِ "سَرِقَةِ فِلَسْطِيْنَ"، ويُمْعِنُ فِي تَزْوِيرِ تارِيْخِهَا، وسَلْبِ حَضَارَتِهَا، واجْتثَاثِ أَصْحَابِهَا الأصْلِيينَ مِنْهَا، وتَزْيِيفِ حَقِيْقَتِهَا الأصْلِيْةِ الأصِيْلَةِ، نَاهِيْكَ عَنِ السَّعْيِّ الْمَحْمُومِ لِمُراكَمَةِ "حَقَائِقَ سِيَاسِيَّةٍ" أَو "اقْتِصَادِيَّة" أَو "ثَقَافِيَّة" ليسَ قِطَارُ "التَّطْبِيْعِ الدَّوْلَانِيِّ"، الاخْتِياريِّ أَو الْمصَلحيِّ أَو الإرْغَامِيّ، الْمندَفِعُ بِسُرعَةٍ عَلَى قُضْبَانِ دُولِ الْعَربِ وكَيَانَاتِهِم الْمُصَنَّعَةِ، بِأَقَلِّها سُخَامَاً وسَوَداً وخُطُورةً عَلَى الحَقِّ الْفِلَسْطيْنيِّ والسَّرْدِيَّةِ الْفِلسْطِينِيَّةِ الإنْسَانيَّة! بَلْ لَعَلَّهُ، فِي انْدِفَاعِهِ عَلَى هَذِهِ الْقُضْبَانِ بُسُرْعَةٍ يَجْعَلُهَا الإلْحَاحُ عَلَى إِظْهَارِهَا مُذْهِلَةً، وَفِي تَزَامُنِهِ مَعْ تَصَاعُدِ مَحْمُوْمِيَّةِ الدَّأَبِ الاسْتِعْماريِّ الصُّهْيونِيِّ الْعُنْصُرِيِّ الْإحْلَاليِّ الْمسْتَهْدِفِ فَلَسْطِينَ بِالتَّهْوِيْدِ والأَسْرلَةِ، ألَّا يَكُونَ إلَّا الأشَدَّ إِمْعَانَا في السُّخَامِ والسَّوادِ والخُطُورةِ عَلَى كِلَيْهِمَا، وإلَّا الْأعْتَى وطْأَةً عَلى صُدُورِ الحَقِّ والحَقِيْقةِ، والعَدْلِ الإنْسَانيِّ، وشِرائِعِ حُقُوق الإنْسَانِ، مِنْ أَيِّ أَمْرٍ سِيَاسِيٍّ، أو اقْتِصَادِيٍّ، أَو ثَقَافيٍّ، أَو أَيِّ أمْرٍ سِوَاهَا! 

ألَمْ يَترافَقُ هَذا التَّطْبِيْعُ الَّذيِّ يُطْفِئُ قِطَارُهُ أَنِوارَ كُلِّ مَحَطَّةٍ يَدْخُلُهَا مَع حَمْلَاتٍ إعلامِيَّةٍ إعْلانِيَّةٍ اسْتَهْدَفَتِ التِّشْكَيكَ فِي صِدْقِيَّةِ السَّردِيَّةِ الفِلَسْطِيْنِيَّةِ لِإطْفَاءِ أَنوارِ تَأَصُّلِها فِي الْوَطَنِ الْفِلَسْطِيْنِيِّ والتَّاريخِ الفِلَسْطِينيِّ والحَضَارةِ الْفلسْطِينِيَّةِ، وفَي الْوِجْدَانِ الإنْسَانيِّ الْيَقِظِ، كَمَا في تَجَلِّيَاتِ حُضُوْرِهَا في وعْيِّ الإنْسَانِ الْفَلَسْطِينِيِّ وَوِجْدَانِهِ، وفِي واِقِعِ الحَالِ الْفِلَسْطِينيِّ القَائِمِ في فَلَسْطِينَ الآنَ، بِرَغْمِ الاحْتِلالِ الْعَسْكَريِّ الاسْتِعْمَاريِّ الضَّاري، ونَقِيْضَاً لِجُهُودِ التَّهْويِدِ الصُّهْيُونِيِّ الْمُتَوحِّشِ، والأَسْرَلَةِ الزَّاحِفَةِ؟! 

ثُمَّ أَلَمْ يَتزَامَنُ هَذَا، وذَاكَ، وغَيْرُهُمَا مِمَّا يَماثِلْهُمَا، مَعْ حَمَلاتٍ إعلانِيَّةٍ تَرْوِيْجِيَّةٍ تُسُوِّقُ كَائِنَاتٍ بَشَرِيَّةً مِنْ حُكَامِ كِيَانَاتٍ مُصَنَّعَةٍ وُسِمَتْ بِأَنَّهَا كِيَانَاتٌ سِيَاسِيَّةٌ "عَربِيَّةٌ"، بِوصْفِهِم "حُكَّاماً" صُهْيُونِيينَ فِعْلِيِّينَ"، أَو "حُكَّامَاً عَرَبَاً" هُمْ مِنْ خِيْرةِ "أَحِبَّاءِ صُهْيُونَ" الْمُحَوسَلِينَ، والْجَديريْنَ، فِي كُلِّ حَالٍ، بنَيْلِ الأَوسِمَةِ والْجَوائِزِ وشَهَادَاتِ التَّقْدير والامْتِنَانِ عَلَى ما قَدْ أَسْدُوهُ، وعَلَى مَا هُمْ ذَاهِبُونَ لإنْجَازِهِ مِمَّا قَدْ أُهِّلُوا لإِسْدَائِهِ، للحَرَكَةِ الصُّهْيُونِيَّة الْمُعَولَمَةِ مِنْ خَدَمَاتٍ جَلِيْلَةٍ سَتُمَكِّنُهَا مِنْ "صَهْيَنَةِ الْعَالَمِ" بِأَسْرهِ عَبْرَ الاسْتمرَارِ فِي الإمْسَاكِ بِرَقَبَتِهِ، وصَبْغِ وَجْهِهِ، بَلْ وكَامِلِ جَسَدهِ، بِأَزْرقٍ اسْتِعْمَاريٍّ عُنْصُريٍّ كَامِدٍ وقَمِيءْ، وكَأنَّمَا هِيَ تُريدُ الإمْسَاكَ بالْوُجُودِ كُلِّه وإدِّعَائِهِ لِنَفْسِهَا، فَلَا تُبْقي فِيْهِ مِنْ وُجُودٍ حَقِيْقيٍّ لِمَوجُودٍ سِوَاهَا!