كيف ترى الفاشية المجتمع البديل، هذا لا يلحظ في برامجهم، فالفاشيون لا يعرفون إن كان مجتمع بديل ما ممكناً، ولكن في النهاية فان الفاشية تبني نظامها، ولعل أهم عناصره تسلسل هرمي صارم، ولكن ليس المقصود هنا الطبقات الاجتماعية التقليدية ولكن بنية الحركة ذاتها، قيادة قوية من الأعلى إلى الأسفل، قائمة على فكرة أن الحشود تحتاج لمن يقودها بحزم وقوة متضمنة مطلب الطاعة التامة، في ذات الوقت من جانب آخر، هناك نزوع نحو اللا نظام، فالفاشية مخالفة للقانون وتمقت النظام وتفقده، ترغب بتدمير أي اتساق، وآخر ما ترغب فيه هو الثبات والانسجام، فالثبات يعيق إسقاط النظام الوطني الذي تريده، وفي نموذجين كلاسيكيين (ألمانيا وايطاليا) كان هناك نزوع إلى الأيام الماضية، نوستالجيا من نوع ما حنين تاريخي(1).
وبإمكاننا أن نلخص استنادا إلى وليم.ج. ميلز الصفات الخاصة بالحركة الفاشية كما يلي(2):
- عبادة القائد.
- تحطيم استقلالية الفرد –الاتساق في الجماعات المنظمة.
- الملابس الرسمية (يونيفورم).
- التسلسلية الصارمة.
- التشديد على الفعل وقوة العمل.
- التشديد على الاستعراضات وغيرها من النشاطات.
تبادر الفاشية إلى الجمع بين (النظام دون قوانين) و(النظام الخاضع للقوانين) وبين (السلطة الشرعية) و(السلطة الاعتباطية)، وهكذا تنتج النظام الأكثر غرابة على الإطلاق، التي تتعايش فيه جوانب هذا الواقع المتناقض، أليس أحد تعريفات «التوتاليتارية» إنها شكل معاصر من أحد أشكال الاستبداد ما يعني نظاما دون قوانين.
أليست الدولة البوليسية دولة استبداد، رغم وجود قانون بها فان السيادة ليست لدولة القانون بـل لإرادة العصابة الحاكمة المحضة؟ وهكذا فـ (القانون) السائد في العديد من شرائع المجتمع "الإسرائيلي"، كما هي حال السياسيين ومتخذي القرار في "الدولة الإسرائيلية" يتسم بالأداتية، ما يجعل القانون أداة لتنفيذ أهداف معينة، وليس معيارا أخلاقيا يعكس قيما ومعايير اجتماعية، ولكونه مجرد أداة فانه يتم تغييره حتى يلائم الأهداف الحالية (3). وإذا كان هذا النوع من الأنظمة يقوم على تناقض فاضح بين سلطتين شرعية واعتباطية تلجأ دولة "إسرائيل" بتحليل ميخائيل وارشوفسكي(4) إلى آليتين من أجل تخفيف التناقضات الأولى الإنكار على طول الخط ما يؤدي إلى شيزوفرينيا محققة أثبتت وجودها في الواقع الفعلي والنموذج الأكبر إنكار وجود الترسانة النووية ما منع وجود أشكال حماية منها طبقا للخبراء الدوليين نتج عن هذا العديد من الحوادث العنيفة وجعل مفاعلات "إسرائيل" الأكثر خطورة في العالم.
والآلية الثانية استخدام تشريعات يتم تفصيلها على مقاس الأشخاص وهو ما يحدث إذا كان القانون مثلا يشترط أن يكون رئيس الوزراء عضو كنيست يتم تغييره من أجل نتنياهو، أيضا إذا كان القانون يحكم على وزير سابق بالسجن؛ بسبب الفساد يتم إطلاق حملة لإطلاق سراحه ويتم إقرار قانون يسمح لأشخاص بعينهم إطلاق سراحهم بعد قضائهم نصف المدة. وإذا كان هناك قانون أساس يقيد حجم الحكومة بـ17 وزيراً يتم تغييره من أجل باراك ليحصل على ائتلاف واسع يشمل 30 وزيراً، وموفاز أعلن ترشيحه للكنيست رغم أن فترة السكون لم تنته، حجته أمام لجنة الانتخابات كانت صريحة بشكل يثير الابتسام والسخرية المرة: لو كان قد انتبه لذلك فقضية تغيير القانون ما كانت لتشكل مشكلة.
مرونة القوانين هذه ناتج ثانوي لغياب مفهوم الحقوق في الديمقراطية "الإسرائيلية"، حتى عندما يرد ذكر الحقوق بشكل واضح، تماماً، كما في القوانين الأساسية المقررة منذ سنوات الفترة الليبرالية فهي دائما مشروطة «بشروط عدم وجود قانون يعارض ذلك» أو «ما عدا حالة الطوارئ» أو «إذا لم يتعارض ذلك مع الطبيعة اليهودية لدولة إسرائيل»، باختصار الحقوق الأساسية موجودة مثل مبادئ مساواة النوع والمساواة بين المواطنين من معتقدات مختلفة، إذا لم يقرر البرلمان بشكل ديمقراطي، هكذا بأغلبية برلمانية بسيطة انتهاكها. لذلك لا تبين الحملات الانتخابية الكثير من أهداف زعماء الأحزاب الحقيقية وعن أحزابهم، وهكذا فأكثر الكلمات بروزا في الدعايات الانتخابية هي الكلمة التي لا تظهر (سلام)؛ مثلا كان حزب كديما يتحدث عن الأمل، دون أن يشرح عن أي أمل يتحدث، يتحدث عن القوة وحتى عن احتمال لخطوة سياسية ولكن لا حديث عن السلام.
في دعايته الانتخابية(5) وفي شريط مبثوث استحضر كديما (هرتزل) وبن غوريون وبيغن وشارون ورابين (تشكيلة تظهر خليط الحزب الفاشي) ويستحضر أيضا توقيع السلام مع الملك حسين لم تظهر أهم اتفاقية سلام عقدتها "إسرائيل"، لأن ياسرعرفات يظهر فيها، وهكذا يلغيه كديما ويحذفه تماما من حملته الدعائية ويتحدث عن أرض "إسرائيل" المقدسة، وعن أغلبية يهودية، وعن الشعب المختار!! وهكذا وفي خطابه أمام مؤتمر هرتسليا أكد أيهود أولمرت زعيم كديما «إن الخطوة الأكثر أهمية ودراماتيكية التي تنتصب أمامنا هي رسم الحدود الدائمة لدولة إسرائيل من اجل ضمان الأغلبية اليهودية في الدولة» مستثنيا تماما الفلسطينيين من حديثه عن هذه الحدود، دون أن يعلن صراحة أن هذه الحدود ستكون على حسابهم بالذات، مستعيرا زئيف جابوتنسكي حيث قال «إن اصطلاح دولة اليهود واضح بالتأكيد، فهو يعني أن أغلبية يهودية بذلك بدأت الصهيونية وفيه أساس وجودها وسوف تستمر بالعمل على هذه الأرض إلى أن تحقق أو تندثر».
اليسار الصهيوني المزعوم من جهته الذي اعتاد كثرة الحديث عن السلام وتقاسم الأرض ودولتين، يغلق فمه تماما أمام سطوة الإجماع القومي، وصار حديثه المفضل عن أولاد بلا طعام ومسنين بلا مخصصات تقاعد، ولا يخجل حزب العمل اليساري العلماني في برنامجه الانتخابي من اللجوء إلى الغيبية «دولة إسرائيل هي دولة يهودية، وهي البيت القومي لكل اليهود أينما كانوا، إننا أخذنا على عاتقنا تحقيق الصهيونية لنرى أنفسنا ورثة وحاملي راية الثقافة اليهودية والثقافة العبرية المجيدة، هناك طريق يربط بين جذور تراثنا الديني والثقافي وبين مستقبل دولة إسرائيل» (6).
أما الليكود الذي ليس معنيا بالسلام فيخرج زعيمه نتنياهو، بعض الجنرالات من مخزن السلع المستعملة، ليشهدوا في عبارات خشبية أن السلطة الفلسطينية وحماس هما تهديد استراتيجي على وجود إسرائيل ويستحضرون قنبلة إيران المخيفة. حزب ميرتس اليساري العلماني أيضا الذي لم يمانع زعيمه السابق يوسي بيلين من كيل المديح للفاشي ليبرمان، أظهرت إحدى حملاته الانتخابية رجالا ونساء يغرزون الأوراق في "حائط المبكى"، يتمنون على (يهوا)، امرأة تتمنى الحصول على لقب جامعي، رجل يتمنى الزواج من رجل، جد يتمنى المال لشراء هدايا لأحفاده، مسيحية تتمنى أن يعترف بها كيهوديةّ!! والشيء الذي لا يتمناه أحد في دعاية ميرتس هو (السلام)(7).
وهكذا يهرب الفاشي من المحسوس إلى المجرد، من الآني والمستقبلي بالقريب إلى البعيد المضبب (الماضي)، من الوضع المتفجر في مخيم شعفاط وجبل المكبر والعيزرية، إلى عطلة يوم السبت وحركة حافلات النقل العام، ومن القانون الدولي واتفاقيات السلام إلى (يهوا) وعقيدته القاتلة.
في كتابه المعنون «في إسرائيل وفلسطين: ما يخرج من الرماد» يجادل مارك ايليس(8) الذي كان يرأس مركز أبحاث الدراسات اليهودية الأمريكية في جامعة بايلور-واكو-تكساس أن اليهود ممزقين بين قطبين «اهتمام اليهودية التقليدي بالأخلاقيات والدولة اليهودية التي تلحق الإهانة بهذه المفاهيم نفسها وبينما لم ينجح النازي أبداً في تدمير (الجوهر اللصيق بما يعني أن تكون يهودياً) فقد حققت إسرائيل ذلك –على مستوى أصيل- من خلال اعتداءاتها التي لا تكل على حقوق الفلسطينيين» ويستنتج دانييل لازار(9) «أن مزيدا من الدين مهما كان تأويله تقدميا هو الشيء الأخير الذي تحتاجه مساحة الأرض هذه المنقوعة بفكرة الرب، قانون الأسرة في إسرائيل يقع في أيدي آيات الله اليهود الأرثوذكس وشركائهم الحاخامات»؟
لذلك وفي سياق آخر تسعى الفاشية لاغتصاب اللغة، وترويج مصطلحاتها الخاصة فتنتج خطابها وهو خطاب سلطة يترك المخاطَب في حالة مستديمة من الشعور بالتهديد والذنب، والخطأ وعلى درجة من الاحتراس والحذر الشديدين وهو خطاب إرغام موجه ببعد واحد يقيني، يدعي احتكار الحقيقة وهو أيضا خطاب حاد ينطوي على وعيد مباشر ومبطن(10). في هذا الإطار تندرج عملية تهويد أسماء المدن والقرى والشوارع والجبال في فلسطين بل حتى الفولكلور والمآكل الشعبية الفلسطينية القديمة، وأيضا تندرج خطة (المئتي مصطلح ) الآنفة الذكر وكذلك حكاية (لا شريك فلسطيني للحديث معه)!
تمنح الفاشية في خطابها المجردات دلالات عائمة تقوم باستثمارها حتى حدودها القصوى في عملية إخضاع للواقع واتجاهاته وهنا تكمن مفارقة تحدثنا عنها سابقا، إذ أن اللعب مع الواقع يتم بأدوات لا واقعية ولا عقلانية فيحيلها إلى المقدس، الكلي، البعدي، العلوي، فهذا المجرد لا يتم تعريفه ومفهمته ولا يتخذ شكلا قانونيا أو مؤسساتيا، ولكنه يسوغ فعل النظام في إطار استخدام آليات الإقصاء – الإدماج حسبما تقتضي الضرورة للسيطرة على الفرد والمجتمع(11)، فيمنع أي عربي من التملك أو شراء أرض في القدس الغربية أو أحيائها الاستيطانية تحت شعار أن الطوائف المختلفة سكنت منذ القدم في أماكنها الخاصة، ولكن السلطات نفسها لا تمنع اليهود من التغلغل الاستيطاني اللا قانوني في الأحياء العربية، وهذه الحجج نفسها تستخدم لمنع أي عربي من تملك بيت في الكيبوتسات أو مناطق التوسع بحجة الحفاظ على التناسق الثقافي لهذا الشعب وهذا البلد.
سلوك ازدواجية القوانين مألوف في النظم الفاشية، فقد دأب النازيون بدقة متناهية على جعل السلطة ضائعة بين ظاهرية وفعلية، بل هي متنكرة لبرامجها بالذات، لقد سجل أن الفاشي نفسه لا يأخذ خطط حزبه على محمل الجد، فالكثير من الأشياء توضع فقط لاجتذاب الشعب، وبرنامج الفاشي لا يكون بالضرورة متطابقا مع الاعتقاد بحقيقة الإيمان. وقد يعد الفاشي على سبيل المثال قي برامجه بالقضاء على البطالة وغيرها، ولكنه لا يحفظ عهوده أبدا وقد احتوى البرنامج الفاشي المبكر على معاداة الرأسمالية واستغلال العمال وهذا ما لم يأخذه أحد على محمل الجد، بعد ذلك دمر الفاشيون اتحاد التجارة وكل منظمة عمالية مستقلة، ألم يكن هذا بالضبط مصير الهستدروت في إسرائيل؟
وكما زعمت الفاشية الإيطالية إنها ضد الدين الرجعي، وهددت بإغلاق الكنائس بعد ذلك إلا إنها عام 1929 ولتجذب جموع المتدينين عقد موسوليني اتفاقية لاتيران مع الفاتيكان ليس فقط متعهدا بعدم المس بأراضي الكنيسة، بل أيضا منح الفاتيكان المزيد من القوة لم يحلم بها منذ تأسيس ايطاليا عام 1870، كذلك فعلت الصهيونية بتحالفها مع قطاعات اليهودية الرجعية، واتفاقية بن غوريون مع زعماء المتدينين السابق ذكرها. وعلى عكس الجمل المنمقة في إعلان استقلال إسرائيل حول المساواة بين مختلف المجموعات القومية، إلا أن الممارسة كانت دائما على العكس من ذلك، وبينما ادعت الحكومات المختلفة أن اقامة سلطات محلية عربية في القرى كان لتمكينها من إدارة شؤون نفسها، جاء في أحد المستندات (12) الرسمية من سبتمبر أيلول 1959 تحت تصنيف أمني «سري جدا للمرسل إليه فقط» يحمل عنوان (توصيات لمعالجة شؤون الأقلية العربية) «إن هدف السلطات الإسرائيلية من إنشاء هذه السلطات كان أولا تحويل الصراع من صراع قومي بين العرب واليهود في الدولة إلى صراع بين العائلات في قراهم ومدنهم وبهذا فإنها تقوض أيضا أي قوة سياسية عربية تتناقض وأهداف الدولة وأيدلوجيتها».
كما أن النشاط الاستيطاني الصهيوني الحكومي لدولة "إسرائيل" ودوائر الاستيطان وبالضد من منع البناء العربي، يعكس الخطاب الاقتصادي الإثني القائم في صلب الأيدلوجيا الصهيونية وعلى مختلف تأويلاتها المختلفة بحيث تحولت الصهيونية إلى معيار أولي بديهي يتم النظر إلى العالم والى الديناميكيات التي تحصل من خلاله لعل تدمير القوانين باعتباره سمة أساسية للفاشية مرتبط بشكل ما بشهية الفاشية اللانهائية للتوسع. فعندما يخلق بلد ما حدودا يوسعها باستمرار منتهكا أحكام القانون الدولي، وعندما تكون الغاية هي دولة إسرائيل، تبرر دائما الوسائل، إذن يجب أن لا نندهش عندما يكون احترام إسرائيل لقوانينها الخاصة ينتهي دائما لأن يكون أمرا صعب المنال بشكل مرعب(13).
ترتبط ازدواجية القانون بين مأسسته واعتباطه بمسارين، يستخدم أحدها لتسهيل أمور الفاشية وسيطرتها، كما ذكرنا في حالة تغيير قوانين أساس لإتاحة الفرصة لبعض الجنرالات للترشح للكنيست (موفاز مثلا) وكذلك في تغيير جدول الأعمال القومي وتضليل الجماهير وفق الحاجة، على سبيل المثال قبل اعتلاله بوقت قصير طرح رئيس الحكومة السابق أريل شارون (تفشي الجريمة) على رأس جدول الأعمال الوطني(14) وقد قررت الحكومة تشكيل لجنة وزارية خاصة برئاسة وزير الأمن الداخلي جدعون عزرا لتبت في التوصيات التي قدمها القائد العام للشرطة الجنرال موشيه كرادي ووزارة القضاء والرفاه الاجتماعي، للمجلس الوزاري وفي مقدمها إلغاء مخطط وزارة المال فصل 2700 شرطي من العمل ضمن خطة التقشف. قد يبدو هذا القرار جيدا ومقبولا من وجهة نظر مجتمع يطمح لأمان شخصي وهدوء بشكل أكبر إلا أن حقيقة هذه الجدولة لجدول الأعمال الوطني تأتي ضمن أيدلوجية خداع فاضحة، إذ يعزو الوزير عزرا استفحال الجريمة إلى انشغال 5000 عنصر من الشرطة لتهيئة تنفيذ خطة فك الارتباط (لا يستخدم الجيش في التعامل مع المستوطنين باعتبارهم مواطنين اسرائيليين ويوفر كأداة لقمع الشعب الفلسطيني الخاضع للإحتلال)، ولكن خبير علم الإجرام وعميد كلية علم الاجتماع في جامعة حيفا أحال الظاهرة إلى عوامل عدة أبرزها الأوضاع الاقتصادية والأمنية في "إسرائيل" وسلوك قادتها وثقافة سياقة السيارات وعدم احترام قواعد سلوكية أساسية، وقد صرح أن الضائقة الاقتصادية التي تضرب المجتمع تؤدي إلى تعميق الفجوات الاجتماعية؛ فالبطالة تعتبر ظاهرة مرتبطة بتفاقم العنف ويؤكد في استنتاج لافت وجدير بالتأمل «جزء مما يعيشه ويجربه الجنود في خدمتهم العسكرية ينتقل إلى الحياة المدنية لأنهم ينقلون أنماطا سلوكية عنيفة من ساحة المعركة إلى بيوتهم»، ولكن الخبير المذكور لا يلحظ أن ساحة المعركة التي يتحدث عنها والتي هي الساحة الوحيدة التي يخدم فيها هؤلاء الجنود منذ عشرين عاما ليست سوى المناطق المدنية الفلسطينية المحتلة في الضفة والقطاع، ومن جهة أخرى فإن مبرر تعزيز الشرطة لمكافحة الجريمة يبدو سخيفا عند مناقشة الدور المنوط بالشرطة في قمع الأقلية العربية في إسرائيل واضطهادها ما سنناقشه لاحقا.
وفي مثال على المسار الثاني (اضطهاد العرب) شهدت المحامية منى رشماوي من مؤسسة (الحق) في رام الله أنها حين تذهب إلى المحكمة، فإنها لا تدري فيما إذا كان النائب العام الإسرائيلي سوف يقاضي موكلها بموجب قانون طوارئ الانتداب البريطاني أو القانون الأردني أو الإسرائيلي وحتى العثماني، ويعلق نعوم تشومسكي(15) « أو بموجب قوانينهم، ليس هناك قانون في الأراضي المحتلة هناك فقط سلطة محضة».
وبعد تحقيق من منظمة العفو الدولية (أمنستي) حول التعذيب في "إسرائيل"(16) تبين أن أحد القضاة في المحكمة العليا كان في لندن وأجريت معه مقابلة وقد سألوه إذا كان باستطاعته أن يفسر النسبة العالية جدا من اعترافات العرب فقال في إجابة بعيدة تماما عما يمكن أن يدلي به قاض في نظام ديمقراطي حق «انه جزء من طبيعتهم أن يعترفوا»، ذلك هو الجهاز القانوني الإسرائيلي. من جهة وبعد تمثلها للتفكير المزدوج، فإن الفاشية إذ تفتك بالفكر فإنها لا تبقي إلا الهراء، والعبارة الفاشية تبدو في ظاهر الأمر وكأنها تعني أشياء كبيرة غير أنها في الحقيقة لا تعني شيئاً، أو تعني فقط النوايا المضمرة للفاشية.
في رواية (ليلة لشبونة) لأريك ريماك، يعرف (شفارتس) الشخصية الرئيسية في الرواية، النازية من خلال صور معينة فظة وموحية منها: أنها مكبرة صوت أسود يبصق ثرثرة، ومنها أنها حذاء عسكري ثقيل يسحق رأسا(17).
وعلى سبيل المثال لنأخذ مثلا الحملات الانتخابية للكنيست السابع عشر في "إسرائيل"، حيث وصفها أوري أفنيري(18) بأنها «تشبه الفستان، هدفها إظهار الأعضاء الجميلة وتغطية أو غمغمة الأقل جمالا منها، الفرق انه بمقدور إعلامي الفاشية الموكل بالدعاية اختلاق أعذار غير موجودة وتبرئة أخرى وفق احتياجات السوق».
وفي مجتمع محكوم بأيدلوجية الحرب والحصار، يصبح الإرهاب نوعا من الفلسفة التي تعكس حال الحرمان والبغض والحقد الأعميين، لا تكف الفاشية عن اغتصاب اللغة، يصبح الكلام بمثابة القنابل. ويتلازم الإرهاب والحملة الدعائية حتى لتكون وجهين لعملة واحدة (19) و«تقوم الحملة الدعائية التوتاليتارية (سمها شمولية أو فاشية إن شئت) باحتقار جذري حيال الوقائع في حد ذاتها، ذلك أن الوقائع بنظرهم رهن كليا بسلطة من يسعه صنعها»(20).
ولا يبتعد أفنيري عن الحقيقة بقوله إن «الحملة الانتخابية مثيرة لأنها لا تعكس مواقف الأحزاب الحقيقية بل تعكس رأي الجمهور بشكل جيد» ولكن أي جمهور؟ انه يستجيب لحاجات الجماهير التي فقدت نقطة تعلقها مع العالم فلجأت إلى (يهوا) وهكذا «باتت مستعدة أن تنخرط في صفوف القوى الأبدية والقاهرة، والتي يعود الفضل لها وحدها في أن تحمل الإنسان، هذا السابح في خضم العداء وأمواجه إلى شطآن الأمان»(21). والفاشية تبيع للشعب ما يريد شراءه، حتى لو كان سلعا بالية، فيصير الشعار (ما هو حسن، هو ما يحسن للشعب الألماني-الإسرائيلي- الإيطالي- الأمريكي) وتقول البروتوكولات «كل ما هو مبارك للشعب اليهودي يكون عدلا ومقدسا وفق الأخلاق»(22). وهكذا تلحظ في دعاية زعماء الصهيونية عزما مفرطا في التبسيط المانع الذي به يختارون عناصر من أيدلوجيات موجودة تكون خير العناصر التي يجدر بها أن تكون أسس عالم آخر ومتخيل برمته، ولكنه اختيار ملفق، مضلل إلى درجة الفجيعة الفكرية المحضة!! فالفكر الفاشي في تلفيقه هذا يرفض العقل ولا يتعامل مع الواقع التاريخي إلا من خلال ما يمكن تسميته بالمطلق الذاتي، فالمطلق بطبيعته شامل وعالمي يتخطى الزمان والمكان ولكن مطلقات اليهود مقصورة عليهم وحدهم فالله خاص بهم وحدهم(23).
هذا الانشغال بالمطلق الذاتي وبالماضي واستخدام الأيدلوجيا الملفقة لتبرير الذات وتعريفها يكشف عن زيف السياسة وادعاء العلم بالموضوعية وعن النزعة الرجعية في التفسير الديني، ولكن الفكر الفاشي عندما يقدم نفسه أيدلوجيا منفلتا من الزمان والمكان، محاولا في ذات الوقت إظهار نفسه كواقعي فانه يكشف عن سمة أساسية من سماته وهي الخلط: التوفيق التلفيقي، المادية بالروحانية بالدين، والعقلانية بالرومانسية والعاطفة والتحليل الاقتصادي بالمادي وبالرؤى الهائمة إلى حد الغيبية. ولأن هذا النوع من الأيدلوجيا يستحيل فيه الوصول إلى تحليل نهائي للمسائل التي تواجهها المجتمعات تلجأ الفاشية إلى تبسيط المشاكل وتسطيحها دوما، عبر طرح شعارات تستهوي الجماهير الأكثر تخلفا وتثير الغرائز فهي انفعالية وديماغوجية (24) من نوع إعلان نتنياهو «خصخصة الموانئ ستخفض أسعار الشاي».
في عمليتها التبسيطية تنزع الأيدلوجيا الفاشية –ككل أيدلوجية- إلى ادعاء قدرتها على تفسير كل شيء، فتيمم شطر التاريخ دوما، وتقوم بتفسير المسائل التاريخية بأن تحيلها إلى مسائل طبيعية، وهكذا تصبح فلسطين ملكا لليهود (لأن الرب منحها لإبراهيم) ولأنها (أرضهم الموعودة) وهكذا عبر الإحالة إلى المطلق ينفلت الفكر الأيدلوجي من أي اختبار، فتاريخ اليهود صحيح لأنه مكتوب في التوراة، والعرب حشرات ، لأن هذا أيضا مكتوب في التلمود، وعبر ركونها للمطلق وانفلاتها من الاختبار العلمي المحسوس تتحرر الأيدلوجيا الفاشية من الواقع المدرك بالحواس الخمس وقوة العقل العالم، مؤكدة وجود واقع «أكثر حقيقية» خلف الأمور المحسوسة، وهذا الواقع لا يمكن إدراكه إلا من خلال حاسة سادسة توفرها الأيدلوجيا التلقينية التي تدأب عليها دوائر التعليم الصهيونية، كما ذكرنا في أكثر من مكان وتنحو الأيدلوجيا من ثم إلى تغيير الواقع بما ينسجم مع ادعاءاتها، فتتغير أسماء كل مدينة عربية وقرية وتل وجبل وشارع إلى اسم عبري.
إن إطلاقية الفاشية الصهيونية مثلها مثل كل فاشية تمثل حصاراً في الزمن، وهي بذلك تنطوي على مواقف عقائدية ويمكن ترجمتها على النحو التالي «ما كان صالحا في الماضي هو صالح إلزاميا في أيامنا» أو «ما تقوله التوراة هو الحق»، ومن هنا فان كل تغيير وكل مطلوب وكل انفتاح هي أهداف ممنوعة ومحرفة، وفي استعارة من أرندت(25) التي تشبه الأصولية بأنها نظام يريد نفسه غريبا «إنه الأسلوب الذي يتوسله الطفل الحرون المنعزل في زاويته المتوحد المنطوي على فكرته الثابتة والعازم على أن يكون الوحيد في العالم الذي يحلل الحقيقة التي لا تنازع والأشد عزما على أن يشاركه العالم كله تلك الحقيقة».
والفاشية الصهيونية في اغتصابها للمنطق والتفكير المنهجي، تضيق بأي نقد أو فحص أو نقض، لأنها في ارتكانها للمطلق تفيد بأنها كلية، عصية على الاختراق، حين كتبت أرندت مقالها الشهير «إعادة فحص الصهيونية» (26) عام 1946، أثارت حنق صديقها كورت بلومنفلد الرئيس الأسبق للمنظمة الصهيونية الألمانية فقال عنها «لا تعرف شيئا عن الصهيونية»، وإنها تقارب هذه المسائل بلا مبالاة ووقاحة وما ذلك سوى تعبير جلي عن «كره يهودي للذات» وعن «رغبة جارفة في الاندماج»، ولكن لا أحد من منظري الصهيونية يقول عنها غير ما يتم نقدها من أجله، ويتم إعادة تقديمها بزيف وتضليل من جديد، وهذا الموقف يتناسب تماما مع نظرة الفاشية إلى وظيفة الصحافة وتجريدها من موقعها الضميري الناقد، في إحدى مقالاته(27) المعنونة (الصحافة تخنق الديمقراطية) كان الادعاء الأساسي الذي أدلى به أهرون باراك (ليس أحد أهم منظري الأيدلوجيا الصهيونية فحسب وإنما الذي لديه أيضا بحكم منصبه كرئيس للمحكمة العليا قوة هائلة للتأثير على السياسة والرأي العام). إن الصحافة الخاصة هي أيضا ملك عام ولها وظيفة معينة في المجتمع وعلى موظفيها «أن يعملوا بموضوعية ويقدموا الحقائق للجمهور»، وكل صحيفة تتعدى الموضوعية «ستقدم للمحاكمة»، ومن الواضح أن موضوعية التقارير والكتابة الصحفية سيكون بالاعتماد على الخطاب الصهيوني المقبول هذا ما يتلاءم مع المقولات حول جهاز إعلام رسمي مسؤول تخدم تقاريره مصلحة الدولة كما يراها النظام الحاكم بالطبع، وهذا يدل على رغبة المفكرين الصهاينة بتنظيم شرطي لـ «حرية التعبير المحافظة»، دون الاكتفاء بالقيود القانونية المفروضة على الصحافة والرقابة العسكرية وقوانين الطوارئ، مما هو غريب ومنبوذ في أي ديمقراطية حقا(28).
وهكذا فكما تتبين الفشستة بالانزياح إلى اليمين في إسرائيل، تتبين أيضا بتضييق الخناق على الصحافة حول حرية التعبير والتفكير لصالح «صوت الإجماع»في التحكم بالإعلام وتوجيه مساراته لخدمة أغراضها الخالصة، وزج الجماهير في إطار معرفي قاصر لا منهجي وعديم النفع، وقد بين على سبيل المثال تقرير لمركز كيشف (مركز حماية الديمقراطية في إسرائيل) بعنوان (بيع بالتصفية)(29) أن الإعلام ينطق بلسان الجيش الإسرائيلي ويقول المركز «إن الإعلام يعطي اهتماماً قليلا للأحداث التي يتم خلالها قتل فلسطينيين بنيران قوات الأمن الإسرائيلية، غالبيتها لا يتم نشرها بتاتا» و «تصريحات الناطق بلسان الجيش هي القاعدة الأساسية لغالبية التقارير ولا يتم انتقاد التصفيات إلا نادرا» وفي 75% من التقارير الصحفية عن أحداث يقتل فيها فلسطينيون، فإن المصدر الوحيد الذي ينقل ما يحدث هو مصدر عسكري أمني والذي يتم أخذه وكأنه حقيقة واقعة دون مواجهة هذه البيانات مع بيانات لمصادر فلسطينية أو إسرائيلية أخرى أو مستقلة.
المراجع
- Wallace G.Mills Hist.20316 fascism part 1, fascism in: http://husky1.stmarys/~wmills/course203/16-fascism-1.html
- المرجع السابق.
- نبيه بشير. وجود السكان العرب يجرد المكان من يهوديته. المشهد الإسرائيلي 8/9/2004
- ميخائيل وارشوفسكي. ديمقراطية إسرائيل. في: رؤية أخرى العدد 36/37 ربيع وصيف 2005( بيت لحم- القدس: مركز المعلومات البديلة )
- البرنامج الانتخابي لقائمة الاتحاد الوطني-المفدال. في المشهد الإسرائيلي 26/3/2006 .
- برنامج حزب العمل الإسرائيلي لانتخابات 1996. عن موقع الكنيست على الانترنت.
- برنامج ميرتس. في المشهد الإسرائيلي: 26/3/2006
- دانييل لازار. دولة واحدة. ترجمة أحمد زكي www.kefaya.org
- المرجع السابق.
- سعد محمد رحيم. الفاشية واللغة المغتصبة. www.abso.com
- د. شلومو سبيرسكي. وايتي كونور-اتياس. صورة عن الوضع الاجتماعي2001. مركز أدفا 2002
- نبيه بشير. وجود السكان العرب يجرد المكان من يهوديته. المشهد الإسرائيلي 8/9/2004
- ميخائيل وارشوفسكي. ديمقراطية إسرائيل. في: رؤية أخرى العدد 36/37 ربيع وصيف 2005 (بيت لحم-القدس: مركز المعلومات البديلة )
- خبير في علم الإجرام: ما يعيشه الجنود ينتقل إلى الحياة المدنية. المشهد: 16/6/2005
- نعوم تشومسكي، ضبط الرعاع (حوار مع دافيد بارسميان)، ترجمة هيثم علي حجازي، ط1(عمان: الأهلية للنشر والتوزيع، 1997). ص131
- المرجع السابق ص131
- سعد محمد رحيم. مرجع سابق.
- أوري أفنيري. الغائب الأكبر: كلمة مؤلفة من أربع حروف. في: المشهد الإسرائيلي 21/3/2006
- حنة آرندت. أسس التوتاليتارية. ترجمة أنطوان أبو زيد، ط1 (لندن: دار الساقي 1993). ص79
- المرجع السابق. ص90
- أوري أفنيري. الغائب الأكبر. مرجع سابق
- آرندت. أسس التوتاليتارية. مرجع سابق. ص90
- المرجع السابق. ص102
- د. جورجي كنعان. العنصرية اليهودية.ط1 (بيروت: دار النهار 1983 ) ص85
- أرندت . أسس التوتاليتارية. مرجع سابق. ص268
- عفيف عثمان. حنة آرندت. http://maaber.50mges.com
- هآرتس 14/5/1996
- ايلي مينوف. الخطاب الصهيوني الراهن: في الأيدولوجيا والاقتصاد في إسرائيل: الصهيونية: الخصخصة والليبرالية الجديدة.تحرير إلياس جرايسة وهداية أمين (القدس بيت لحم:مركز المعلومات البديلة. 1998)
- ياسر العقبي. الإعلام الإسرائيلي ناطق بلسان الجيش الإسرائيلي. في: عرب 48(11/3/2007