مدخل: القومية العربية والشعور القومي
القومية كمفهوم عام ظهر في مرحلة من مراحل التطور التاريخي عندما حسمت علاقات رأس المال سيادتها وأنهت سيطرة العلاقات الاقطاعية، وتطور المفهوم في إطار الصراع بين الرأسماليات الاوروبية التي كانت تتطور نتيجة لتقدم الاكتشافات العلمية الذي انعكس في تطور أدوات ووسائل الإنتاج وأصبح هنالك ضرورة لتحديد شروط السوق وحدوده بين القوميات التي سادت في أوروبا ونشأت الحروب بينها في إطار تحديد الحدود الاقتصادية والقومية للرأسماليات الأوروبية.
القومية كمفهوم؛ يعكس إطار حدود السوق وعلاقاته بوسائل وأدوات الإنتاج وقواه الاجتماعية والعلاقة بين طبقتيه الرئيسيتين البرجوازية والعمالية وما بينها من فئات اجتماعية، ظهرت وتطورت نتيجة لمتطلبات التطور الرأسمالي وتحديد شروط الإنتاج وحدود سوقه الاستهلاكية القومية لتحويل الصراع بين الرأسماليات الناشئة إلى تعارض في إطار التنافس الرأسمالي على السوق الاستهلاكية ومتطلبات تنافسه. كان هذا في مرحلة معينة من التطور الرأسمالي ضرورة فرضها الميكانزيم الداخلي للعلاقات الراسمالية ومتطلبات توسيع سوقه الاستهلاكية، ومع التطور المتسارع لأدوات الإنتاج ووسائله ودخول عملية الإنتاج مرحلة جديدة من التطور التكنولوجي والبحثي العلمي؛ تضاعفت فروع الإنتاج وخصائصه، من حيث الكيفية والكمية ومستوى الجودة وغزارة الإنتاج التي كانت سببا لحروبها الرأسمالية التي أدت إلى إعادة تموضع وانتقال لمراكز رأس المال وحظي كل من رأس المال المالي والشركات القابضة العابرة للحدود القومية؛ بدور قيادي في إطار المنظومة الرأسمالية، حيث أصبحت القومية ثوبًا ضيقًا وفرضت ضرورة تمزيقه لصالح دور بلا قيود لمراكز رأس المال وبضاعة الشركات العابرة للحدود الوطنية والقومية.
أصبح مفهوم القومية والوطنية ومتطلباتهما يشكلان عائقًا وكابحًا لطموحات الرأسمالية وأدواتها ووسائلها في ضرورة السيطرة على السوق وأصبح هنالك ضرورة لإسقاط الحدود الوطنية والقومية للدول وفتح الطريق إلى حلول توافقية اقتصادية جمعية لتكتلاتها الرأسمالية وأنشأت أطرًا ومنظمات تقوم بحل التعارضات الناشئة بين مراكز رأس المال. إن العامل المقرر في التكتلات الرأسمالية الحديثة هي المراكز الراسمالية للدول الاستعمارية القديمة، حيث تلعب فيها رأس المال المالي دورًا رئيسيًا، في تغيير أشكال سيطرتها على الدول الناشئة والفقيرة، واعتمدت العامل الاقتصادي كناظم وأخضعت العامل القومي والوطني لشروط العامل الاقتصادي، بمعنى اخضاع امكانيات الدول لمصالح الشركات الاحتكارية عابرة الحدود القومية في إطار الدول الصناعية الكبرى، وأطلقت تجمعات اقتصادية لحل تعارضاتها بأسماء مختلفة ومستويات متعددة؛ أساسها مجموعة الدول الصناعية السبع التي تحرك مجموعة العشرين وأدواتها المالية من صندوق نقد وبنك دولي ونظام السويفت للتحويلات المالية الذي شكل سلاحًا فعالًا لتنفيذ السياسات العقابية التي تقررها مراكز رأس المال في واشنطن ولندن وبروكسل المحمية من قبل القوة العسكرية لحلف الناتو. وهذا بدوره تطلب إعادة تقسيم النفوذ الدولي بين المراكز الرأسمالية بما يحقق توافقها وتحويل الصراع على السوق إلى تعارض؛ من خلال التزاوج بين الشركات العملاقة التي مزقت العباءة القومية وأخضعتها للعباءة العابرة للحدود؛ عبر إيجاد آليات اقتصادية تمكنها من إعادة ترتيب متطلبات هيمنتها وأخضعت مفهوم الدولة لمصلحة دور الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات والعابرة للحدود، وهذا تتطلب تجديد سياستها لاستيعاب الدول الصاعدة؛ عبر سياسة الضغط والاحتواء، أما الدول الضعيفة، فإن سياسة دعم النظم الكمبرادورية التابعة التي تخضع لعمليات تجميل من حين لآخر، أما الدول المتمردة؛ فخضعت لسياسة الضغط والإرهاب والتفتيت، بسبب رفضها الرضوخ للهيمنة السياسة والاقتصادية.
كان لا بد من هذه المقدمة لتقييم وفهم الحركة القومية العربية وحركة قواها الاجتماعية وامكانيات تحويل الشعور القومي إلى واقع مادي ملموس يحقق أحلام بعض الاتجاهات الاجتماعية.
الحركة القومية العربية حملت أزمتها منذ إطلاقها؛ من حيث توافقها مع معيار المفهوم القومي وخلطها بين الشعور القومي والمفهوم القومي، ولهذا، فإن حركتها الداخلية أدت إلى ممارسات تتعارض مع المفهوم القومي لأن إطلاقه كان رغبويًا وعاطفيًا؛ بعيدًا عن كونه ضرورة فرضت نفسها من خلال تطور علاقات الإنتاج ووسائلة وقواه المنتجة لينتج طبقة برجوازية وطنية، تعمل على تحديد إطار حدود مصالحها القومية.
إن ظروف نشأة المجتمعات العربية في الإطار الإقليمي لم يكن نتيجة تطورات اقتصادية واجتماعية فرضتها وقائع اجتماعية؛ أفرزت طبقة برجوازية وطنية تكمن مصلحتها في ضرورة تحويل الشعور القومي إلى حقيقة واقعية؛ تعبر عن مصالح الدولة القومية، وتعكس ضرورتها التاريخية لتكون انعكاسًا للتطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
اتفاقية سايكس – بيكو والنظم (بما فيها تهيئة الظروف الذاتية لإعلان دولة إسرائيل كضرورة رأسمالية تحقق مصلحة رأس المال الصهيوني في إطار دوره في حركة رأس المال العالمي ومراكزه) التي نتجت عن توزيع المصالح الاستعمارية؛ شكلت تدخلًا سافرًا مباشرًا وغير مباشر في فرض شكل سياسي فوقي من خارج منظومة القوى الاجتماعية الفاعلة وإرثها الثقافي والتاريخي، هذا التدخل حد من إمكانية تطور المجتمعات العربية التي كانت تملك كل إمكانيات تطورها عبر توفر عوامل التكامل الاقتصادي المادية والاجتماعية، حيث تملك الطاقة والمواد الخام وقوى إنتاج اجتماعي نشطة وفاعلة؛ تسندها قاعدة ثقافية تاريخية مشتركة في إطار تعايش واحترام التعددية القومية والدينية والثقافية لمئات العقود السابقة، ولهذا فإن الشعور القومي كان تعبيرًا عن المصالح القومية للبرجوازية العربية الناشئة في بلاد الشام و مصر التي دفنت في مهدها وحولتها مراكز رأس المال العالمي إلى فئة كمبرادورية؛ تعمل على تأمين مصالح الشركات الاستعمارية الكبرى في مرحلة تحولها إلى شركات متعددة الجنسيات عابرة للقارات، وأسست لنظم قبلية وعشائرية وعائلية مرتبطة بمصالحها الرأسمالية؛ تقوم بمهمة تقويض أية امكانية لنهوض اقتصادي وطني لتحويل الشعور القومي إلى مصلحة وطنية وقومية جمعية. هذا الأمر تطلب أن تحافظ على معادلة بين الدولة والنظام (العشائري القبلي أو العائلي)؛ تقوم فيه الدولة بوظيفة تغطية مصالح النظام وتامين استمراره من خلال التعامل مع القوى الاجتماعية وخصائصها الدينية والثقافية ومستوى تطورها الاجتماعي؛ فتراه يعمق النظام الطائفي في لبنان ويعطيه صفات الديمقراطية القائمة على أساس توزيع الحصص الطائفية لإنتاج قادة سياسيين مرتبطين بمصالحه ويعلنون كل صباح: أن الدولة وسياسييها واقتصادها ومجتمعها مرهون للعاصمة باريس (وحلفائها) وقراراتها، ويعتمدون معيارًا باريسيًا لحلول مشكلات مجتمعاتها واقتصادها، في حين باريس هي من أنتجت أزمة لبنان البنيوية منذ إعلان تأسيس النظام السياسي اللبناني الذي حكم حركته السياسية التي اتسمت بإعادة تدوير وتوريث إنتاج نظامه الذي حكمه فساد سياسي ممنهج؛ توارث فيه سياسييه الفاسدين، وحرصت "الأم" فرنسا على إعطائهم المشروعية السياسية ودعمهم اقتصاديًا.
في مكان آخر دعم الاستعمار إعادة إنتاج النظم العشائرية والقبلية وتفريخاتهم السياسية الذين حملوا أيديولوجيات وممارسات تتناقض مع (القيم الغربية). كل هذا الدعم كان وما زال يهدف لإبقاء المجتمعات؛ تعيد إنتاج تخلفها السياسي والاجتماعي لاستمرار تبعيتها التي تشكل ضرورة مشتركة للحلف الرأسمالي الصهيوني - الغربي لتنفيذ مقولة أن لندن وباريس وواشنطن هي مربط خيل قادة نظم مجتمعات المنطقة.
وفي سياق آخر؛ حارب الاستعمار النظم الوطنية التي نجحت في بناء برجوازية الدولة الوطنية التي رفضت الهيمنة الرأسمالية وسياستها التي كانت تعمل على تشريع الاحتلال الاحلالي الصهيوني في فلسطين، هذا الاحتلال الاحلالي هو نتاج لتلاقي تحالف الرأسمال اليهودي الصهيوني مع الرأسمال العالمي في إطار حركة هيمنته على مقدرات مجتمعات المنطقة؛ هذا يفرض سؤالًا ملحًا حول ما هي الفواصل بين رباعية القوى القومية إن كانت سورية أو عربية؟
الفكر القومي السوري الاجتماعي انفرد بتحديد مفهومه القومي القائم على أساس الإرث التاريخي للهلال الخصيب، حيث اعتمد على مرجعية معرفية تستند لحضارات سورية التاريخية، وشكلت أعمال انطوان سعادة الأدبية مدخلًا أسس لحركة الفكر القومي السوري الاجتماعي، حيث أعطى أهمية لمواجهة سياسات الاستعمار الفرنسي منذ بداية الثلاثينيات، وقوبل بعملية قمع سياسي وملاحقة أثمرت عن إعدامه واعتقال قادة الحزب.
انطوان سعادة كمفكر وسياسي؛ أول من تطرق إلى الفكر القومي بطابعه السوري، حيث شكل حالة منظمة مبكرة وقفت أمام السياسات الاستعمارية الفرنسية وأخضع سياسته وصراعه لمعيار؛ من أجل إحياء المشاعر القومية للأمة السورية التي يعتبرها امتدادًا للإرث الإنساني الذي توالى على الهلال الخصيب.
الفكر القومي السوري الاجتماعي يحركه جوهرًا كان دائمًا متصادمًا مع جوهر الفكرة الصهيونية في فلسطين التي يعتبرها جزءًا عضويًا من الكيانية القومية السورية، هذا الفكر لم يحظَ بقراءة جدية من قبل الناشطين والمفكرين والسياسيين الفلسطينيين لأسباب عديدة؛ منها ضعف وعي أو رغبوية ذاتية وأهم أسبابها هو عدم امتلاكهم للمنهج المادي في تحليل الظواهر والحالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والانشداد إلى الرغبوية الفردية التي حكمتها ردات فعل تجريبية.
أما عن حزب البعث العربي الإشتراكي (الذي جاء نتيجة اندماج حزب البعث مع الحزب الاشتراكي العربي)، فقد أعطى للفكر القومي طابعًا أشمل من القومي السورية، واعتبر أن القومية العربية هي التي أنتجت التجربة الإسلامية في قراءة مناقضة للسياق التاريخي، حيث أعطى دورًا ومفهومًا قوميًا رئيسيًا للقبائل العربية التي توحدت تحت راية الفكر الإسلامي وحاربت وغزت وامتد تأثيرها إلى خارج حدود ما يعرف حاليًا بالمنطقة العربية التي رسمت حدودها نتيجة ما يعرف بالفتح الإسلامي وسيادة لغة القرآن العربية التي شكلت عاملًا في وحدة المجتمعات التي تراجعت فيها الثقافات التي سبقت الإسلام تحت ضغط عامل الدين، وإعطاء قداسة للغة العربية التي نزل فيها القرآن، هذا المنطلق الفكري حمل إلغاءً وتحييدًا للإرث الإنساني المتوارث على المنطقة وطبعها بصبغة لغوية عربية؛ أدت إلى طمس وإلغاء لدور الثقافات الإنسانية المتنوعة، من حضارات وثقافات أغنت وأعطت للقيم الإنسانية وفلسفتها؛ بعدًا مرجعيًا تاريخيًا للتطور الإنساني.
كتب ميشيل عفلق في كتابه في سبيل البعث حول مفهومه للقومية العربية: (لكن لنهجر اللفظ قليلا ولنسمي الأشياء بأسمائها وصفاتها المميزة؛ فنستبدل بالقومية (العروبة) وبالدين (الإسلام)، تظهر لنا المسألة تحت ضوء جديد؛ فالإسلام في حقيقته الصافية نشأ في قلب العروبة وأفصح عن عبقريتها أحسن إفصاح وساير تاريخها وامتزج به في أمجد أدواره، فلا يمكن أن يكون ثمة اصطدام. وبعد فهل القومية محصورة بالأرض كما يظن، بعيدة كل البعد عن السماء، حتى يعتبر الدين شاغلًا عنها مبذرًا لبعض ثروتها، بدلًا من اعتباره جزءًا منها مغذيًا لها ومفصحا عن أهم نواحيها الروحية والمثالية؟) (1)
الإسلام يعتبر مرحلة من هذه المراحل التاريخية التي مرت على المنطقة وأغنت مكتبتها المعرفية في مرحلة صعودها وحكمها المسار التاريخي لكافة الحضارات التي اعتمدت البعد المعرفي الافتراضي ناظمًا ومعيارًا لحركتها، حيث أعطى حزب البعث؛ بعدًا اجتماعيًا استند إلى الفكر الاشتراكي في جانبه الاجتماعي والاقتصادي، ولكنه أراد تغليفه بعباءة عربية؛ مستندًا إلى بعض المفاهيم الإسلامية، لهذا رفض الاعتراف بالطبقات والصراع الطبقي كمحرك للعملية الاجتماعية التاريخية. إن شعار الحزب الذي أطلق يحمل ثلاث مهام وحدة وحرية واشتراكية؛ أشار فيه إلى أولوية الوحدة العربية كمدخل للحرية والاشتراكية ونتيجة نهائية كنظام سياسي واجتماعي واقتصادي لدولة الوحدة التي حدد إطارها بين الدول العربية ونظمها.
نجح حزب البعث في التمدد والتأثير في المجتمعات العربية، خاصة في بلاد الشام والعراق، حيث لعب دورًا مهمًا في الحياة السياسية واستلم الحكم في كل من سورية والعراق، ودخل في صراع بين أجنحته التي عبرت عن صراع بين تياران رئيسيان؛ يميني ويساري؛ لعب فيها الجناح العسكري دورًا مهمًا في حسم الصراع لصالح العقلية العسكرية اليمينية التي سيطرت على الحكم في سورية و العراق وفتحت الطريق لسيطرة الدولة التي أدت إلى ظهور برجوازية الدولة؛ يديرها جهازًا بيروقراطيًا يتحكم في مواردها الاقتصادية، وتراجع دور حزب البعث إلى دور شكلي؛ غاب عنه التفاعل الداخلي، نتيجة خروج مجموعات فاعلة كانت تعطي أهمية لدور الحزب داخل منظومة الدولة والمجتمع وضرورة إبعاد المؤسسة العسكرية عن التدخل في الحياة السياسية؛ حسم الصراع في الحزب والدولة لصالح الجناح العسكرية مما أدى إلى خلق أجواء لمنظومة فساد متكاملة، وجدت دعمًا خارجيًا استندت إليه في تقوية مواقعها الداخلية في منظومة الدولة التي كان يحكمها موقفًا وطنيًا عامًا؛ ناظمه تموضع سورية والعراق في الجبهة المعادية للصهيونية والإمبريالية وسياساتها في المنطقة، هذا الموقف الذي أعطى غطاءً سياسيًا لم تستطع القوى اليمينية الداخلية المعيقة تجاوزه، ولكنها استمرت في التلاعب بالمكونات الداخلية للمجتمع والتحريض المذهبي على رأس الدولة الذي أخذ شكلًا مختلفًا في كل من سورية والعراق؛ معياره كان يعتمد على الصفة المذهبية التي حملها رأس الحكم. هذا التحريض كان يمكن أن يتم تجاوزه لو نجحت التجرية في استمرار إعطاء دورًا للحزب في المجتمع والدولة؛ عبر تعزيز الخيار الديمقراطي داخل الحزب والمجتمع والابتعاد عن نهج الانقلابية الذي طبع سلوك الحزب للوصول إلى السلطة وإشراك القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة في الحياة السياسية في مؤسسات الدولة ونظامها.
غياب الخيار الديمقراطي في الحزب والمجتمع أوقع التجربة البعثية في أزمة بنيوية داخلية، حيث حولت الحزب لأداة أمنية قمعية داخل المجتمع وأفقدته دوره السياسي والاجتماعي، مما أدى إلى نجاح حملة التحريض الداخلي عليه والمدعومة خارجيًا وسهلت الاعتداء على الدولة والمجتمع اللذان أخذا شكلان؛ خارجي في العراق، وداخلي في سورية.
ممارسة فكر البعث بالسلطة عزز التعارضات والخلافات بين تياراته التي كانت تتصارع على أولوية القومي على ال قطر ي، هذا الصراع الذي أثر على دور الحزب في الإطار القومي الذي لم يطرح رؤية متكاملة يوضح فيها كيفية ووسيلة تحقيق شعاراته الثلاث الوحدة والحرية والاشتراكية. إن التعارض داخل الحزب حَوْلَ أولويات شعاراته (الوحدة والحرية والاشتراكية) كان هو المعيار لتصنيف التيارات المتصارعة بين يمينها؛ أصحاب رؤية أولوية الوحدة وإعطاء طابع خاص لمفهوم الاشتراكية متصادم مع يسارها الذي أعطى اولوية للقطرية التي تتطلب عملية البناء الاشتراكي التي أخذت بملامح التجربة السوفييتية، هذا التيار كان متأثرًا بموقف الشيوعيين ونفوذهم في سورية من ناحية، وموقف القومي السوري الاجتماعي من حيث مفهومه لأولوية سورية الكبرى من ناحية أخرى، حيث أدى هذا الصراع إلى عدم الاستقرار السياسي الذي عبر عنه في سلسلة الانقلابات التي كان يدعمها البعثيون ومن ثم يهاجموها حتى نجاح انقلابهم في 8 من آذار 1963 في سورية، وانقلاب 17 تموز الذي قاده البكر في العراق.
لقد أخذ مفهوم الوحدة تعبيرات مختلفة حكمه ميزان القوى المتغير داخل الحزب بين تياراته المختلفة وحسمت بعد انقلاب الرئيس الراحل حافظ الأسد لصالح مفهوم؛ مدخله العمل العربي المشترك في إطار منظومة النظام الرسمي العربي الذي مر بوتائر مختلفة تصاعديًا وتنازليًا لعبت فيه المتغيرات الدولية والعامل الإسرائيلي دورًا خارجيًا مؤثرًا في تعميق أزمة الفكر القومي وتراجعه إلى حدود الدولة القطرية التي رُسِمَت خريطتها في معاهدة سايكس – بيكو. أما في العراق بعد أن انشق الحزب إلى حزبين سوري وعراقي؛ تراجع مفهوم الوحدة تدريجيًا لصالح المفهوم القطري.
حزب البعث الذي عجز عن تحقيق الوحدة بين القطرين العراقي والسوري اللذان يحكمهما فكر البعث، كان له موقفًا مميزًا ومدافعًا عن تجربة الوحدة بين مصر وسورية (وصل الأمر لإعلان حل الحزب) الذي تصادم فيها تيارا الفكر البعثي بين الرغبات القومية والمفهوم القطري؛ تخللها صراع حول أولوية شعار الوحدة العربية أو اولوية شعار الاشتراكية الذي أعطى له مفهوم مرتبط بالإسلام، لكنه لم يقدم رؤية نقدية تاريخية للتجربة الإسلامية وإبراز الجوانب الايجابية الفاعلة في النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للتجربة الإسلامية، مما أوقع المجتمع في كل من العراق وسورية أسيرًا للرؤية الإسلامية التقليدية التي شكلت ظروفًا لنمو التطرف الديني وانتشار الإسلام السياسي في المجتمع وتأثيره في كبح عوامل التطور الثقافي وتعدد اتجاهاته، مما دفع الإخوان المسلمين لمصادرة الإرث الإسلامي وتمثيله واستثماره في الانقضاض على الدولة وتفتيت المجتمع في سورية، أما في العراق، فقد شارك الإخوان المسلمون في تغطية الغزو الأمريكي للعراق؛ عبر مشاركتهم في توزيع الحاكم العسكري الأمريكي بريمر لحصة الحكم بين الطوائف ودعم التوجهات الانفصالية للأكراد.
اما مفهوم الحرية، فقد غاب من حيث الفعل الملموس بجوهره الديمقراطي إن كان داخل الظاهرة الحزبية أو المجتمعية، وتصادم هذا المفهوم مع الفئات التي تشكلت نتيجة تراكم المصالح الفئوية والطائفية والمذهبية التي شكلت بمجموعها عاملًا معيقًا لتطور الأدوات والوسائل الديمقراطية وفرغها من محتواها الديمقراطي واستخدامها كأداة للسيطرة على إمكانيات الدولة الاقتصادية التي وُظِفَت بشكل متفاوت بين كل من سورية والعراق لمصالح حواضن لفئات محددة تتحكم بمفاصل البناء الاقتصادي التي هيأت أجواء خصبة لنمو حالة من الفساد والترهل في مؤسسات الدولة وطوعتها لمصلحة تحالف النظام وحواضنه.
إن هذا الجزء من تناول سلسلة (فلسطين بين سايكس بيكو وصفقة القرن) لا يناقش تجربة البعث في سورية والعراق والبلدان العربية، بل يركز على دورهم كجزء من الظاهرة القومية العربية، وبالرغم من كل ما أحاط بتجربتهم، فلا بد من التسجيل أنهم نجحوا في خلق ظروف استثنائية للتفاعل والحوار والنشاط والمزج بين الانخراط في العملية الديمقراطية في الخمسينيات ووصولهم إلى البرلمان، وبين العقلية الانقلابية التي أوصلتهم للحكم في سورية والعراق ودعم تيارهم القومي للوحدة بين مصر وسورية، ودائمًا ما كان فكرهم ودورهم محكوم بصراعهم واختلافهم مع الشيوعيين السوريين من جهة، والحزب القومي السوري الاجتماعي من جهة أخرى، ولاحقًا مع الناصرية وحركة القوميين العرب.
القضية الفلسطينية كانت وما زالت هي القاسم المشترك الذي شكل نقطة التقاء دائم للتيارات المتعارضة والمتصارعة في الظاهرة القومية البعثية والقومية السورية الاجتماعية والناصرية والحركة القومية العربية، في حين شكلت عامل تعارض مع الشيوعيين الذين كانوا يتبنون الرؤية السوفييتية حول القضية الفلسطينية؛ القائمة على قاعدة ضرورة الاعتراف بإسرائيل كحقيقة، هذا التعارض جعل العلاقة مع الشيوعيين السوريين والعراقيين تأخذ انعطافات متعددة يمينًا ويسارًا في مستوى التعارض والصراع الذي وصل في العراق إلى الحظر والتصفية للشيوعيين، أما في سورية؛ فأخذ شكل قص الأجنحة واحتوائهم في إطار العمل الجبهوي تحت قيادة البعث، حيث كانت القضية الفلسطينية؛ توضع في إطار المجابهة الرسمية للنظام الرسمي العربي مع "إسرائيل" الذي هزم في حزيران 1967.
المراجع:
- مشيل عفلق: في سبيل البعث.
- موقع معرفة: مقالات حول حزب البعث وحول مؤسسيه ميشيل عفلق وأكرم حوراني واللجنة العسكرية لحزب البعث.