Menu

الأرض والهوية في الحالة الفلسطينية

وسام رفيدي

نُشر هذا المقال في العدد 24 من مجلة الهدف الإلكترونية

من نافلة القول ارتباط الهوية الوطنية ببقعة جغرافية معينة، أي بأرض ما، تضم مجموعة بشرية تشكلت في ظروف معينة كشعب بهوية ما، قلنا الهوية الوطنية تمييزاً لها عن هويات أخرى مختلفة لا يشترط فيها توفر البقعة/الأرض، كحال الهويات الدينية مثلاً أو هويات المجموعات العابرة للمستوى الوطني، كألتراس فريق كرة قدم على سبيل المثل، ولكن بغية التعمق أكثر في العلاقة بين الهوية والأرض وجب النزول من مستوى العلاقة المجردة لبحث العلاقة عند مستوى أكثر ملموسية؛ فماذا نعني بالضبط بالأرض هنا؟ نعني بها هنا الأرض التي تحتضن تجمعاً حضارياً مستقراً بالمفهوم الخلدوني عندما تحدث عن تحول البدو لحضر، فمن علائم هذا التحول، كما يشير ابن خلدون والتجربة البشرية، هو الاستقرار.

إن أول ما يخطر بالذهن عند الحديث عن الاستقرار هو نمط الإنتاج الزراعي الذي لا يمكنه أن ينشأ ولا أن يتطور إلا عبر الاستقرار في بقعة معينة مناسبة، وعبر تطوير أدوات الإنتاج واستخدامها، الأمر الذي يخلق نسقاً جديداً من العلاقات الاجتماعية وفي القلب منها علاقات الإنتاج، وكذلك ارتباطاً فريداً بين الإنسان والأرض وذلك، ذلك بالضبط، هو ما يحيل على العلاقة بين الأرض والهوية.

لذلك، إذا كانت الهوية الوطنية، أو القومية هنا سيان، قد تشكلت في أوروبا مع نشوء الدولة البرجوازية على أنقاض دولة الإقطاع المشرعنة بسلطة بابوية دينية توفرها الكنيسة وهويتها الدينية، إلا أن الهوية الوطنية في الشرق، على الأقل، ونتيجة العجز عن تحقيق ثورة برجوازية صناعية ناجزة لأسباب عدة لا مجال لسردها هنا، تشكلت في البنية الإنتاجية السائدة، أي الزراعة، وموضوعها الأساس الأرض. لذلك كنت على قناعة دائمة أن الهوية منتج ريفي فلاحي ارتباطاً بتلك العلاقات والرموز والمعاني والذاكرة الجمعية بمضامينها الثقافية والتراثية المتشكلة تاريخياً، والتي تتشكل بفعل تلك العلاقة بين الإنسان والأرض.

في الحالة الفلسطينية، وكخطوة نحو الملموسية أكثر، فإن استهداف الأرض من قبل المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني، ولأنه استيطاني أصلاً، فإن علاقة خاصة تنشأ بين الإنسان والأرض، خاصة أن أغلبية الشعب كان إنما يقيم في نطاق ديموغرافيا الريف، وبالتالي إن بواكير الإحساس بأهمية الهوية الوطنية والسعي لتجسيدها إنما نشأت، باعتقادي، بتأثير ثقافة الريف الفلسطيني لدى النخب السياسية والثقافية المدينية.

من الأكيد أن هناك مَنْ يحاجج على العكس من هذه الفكرة مستنداً لحقيقة أن التعبير عن متطلبات الهوية الوطنية، أي الاستقلال السياسي بدولة، باعتبار الأخيرة التجسيد المؤسساتي الأهم للهوية، إنما تم في المدينة، وتحديداً في القدس ، ومن قبل فئات ليست فلاحية، بل فئات برجوازية وإقطاعية تتشكل كنسق عائلي وقبلي، وأيضاً فئات مثقفة على محدودية عددها ووزنها، وعبر المؤتمرات الإسلامية المسيحية المنعقدة في عشرينيات القرن الماضي، ومع ذلك فإن تلك الحقيقة لا تدحض ما ذهبنا إليه بأن الهوية الوطنية الفلسطينية إنما هي هوية ريفية بالأساس؛ فالفئات المشار لها كفئات برجوازية وإقطاعية ومثقفة هي على صلة وثيقة بالجذور الريفية، إما بحكم الصلات العائلية، والتي كانت ما زالت ريفية، أو بحكم علاقات الإنتاج والتبادل شأن علاقة برجوازية نابلس مثلاً واختصاصها بصناعة الصابون مع ريف نابلس المنتج للزيت، أما أن تلك الهوية بُدء بالتعبير عنها في مؤتمرات معلنة كمؤتمرات مسيحية إسلامية، فهذا لا يعني بالضرورة أن الهوية بدأت بالتشكل كهوية دينية، فأن نقول هوية وطنية يعني بالضرورة هوية علمانية، باعبتارها وطنية بالذات، أي ما فوق الانتماءات الدينية، ولكن لخصوصية البنية المؤسساتية والسياسية آنذاك، وكانت وليدة على أية حال، أتخذت المؤتمرات، شكلاً الطابع الديني المسيحي الإسلامي.

ليس غريباً إذن أن تُعتبر ثورة العام 36 ثورة فلاحية بامتياز؛ فسواء من حيث قادة الثوار أو قاعدتها الأساسية أو نطاقها الديموغرافي فهي فلاحية/ ريفية، وإن لم تتشكل لها قيادة ثورية بمستوى تضحيات فلاحيها ولا حزب ثوري ينظم ويقود جماهيرها؛ فركب موجتها القيادة البرجوازية الإقطاعية وخانتها عبر ثقتها (بصديقتنا بريطانيا العظمى)، حتى بواكير الطبقة العاملة التي بدأت بالتبلور كطبقة بذاتها في بعض المشاريع كالسكة الحديد والفوسفات ومعامل التنباك والسجائر ومعسكرات الجيش البريطاني، حتى تلك الطبقة فهي لم تقطع مع جذورها في بيئتها الريفية؛ إن كان من حيث أصولها أصلاً أو امتدادها العائلي أو حتى، وهو الأهم لدى بعض أوساطها، جمعها بين كونها تبيع قوة عملها في السوق وبين امتلاكها قطعة أرض في الريف، كما هو الحال اليوم لدى العديد من عمال الأرياف الفلسطينية.

بكل الأحوال وكيفما عالجنا الموضوع يتضح لنا أن الهوية الوطنية الفلسطينية ذات منشأ ريفي، وهذا بالمناسبة ما أشار له بطريقة ما فيصل دراج في كتابه بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية، عندما ذهب إلى أن الثقافة الفلسطينية الوطنية هي ثقافة فلاحية، وليس من الافتئات على الاقتباس تحويره باتجاه الهوية.

ولو أخذنا ببعض التفصيل وبعض التمظهرات للعلاقة بين الهوية الوطنية والريف ببنيتها الزراعية وفلاحيه لتأكدت لنا تلك العلاقة أكثر؛ الهوية في جزء أساس منها هي تلك الرموز والمعاني التي توحّد مجموعة بشرية ما، كالشعب هنا، لتمييزها عن الآخرين، دون أن ننكر أهمية الذاكرة الجمعية ونمط الإنتاج والتاريخ المشترك المنتقل عبر تلك الذاكرة، ولكننا هنا نتناول، على سبيل التركيز لا النفي، الرموز تحديداً.

النكبة، الحطة والعقال، القمباز، تقاليد الزواج والموت، المواسم الدينية كموسمي النبي موسى والنبي روبين، مفتاح البيت، الدبكة، المجوز والشبابة، الزيت والزيتون، المسخن، كوشان الطابو، مفردات العملية الزراعية وأدواتها، وغير ذلك الكثير من الرموز التي باتت تطبع الهوية الفلسطينية بطابعها وما زال الفلسطيني اليوم سواء عبر المؤسسات الرسمية أو الشعبية، أو عبر المبادرات العفوية الشعبية، يعلن تمسكه بها، إنها بالأساس رموز ريفية بامتياز لا مدينية، علماً أن الأصول الريفية القريبة للفئات المدينية جعل من الأخيرة أيضاً حاملاً لتلك الرموز، مع أن بعض تلك الفئات، شأن الفئات الوسطى المتأوربة أو المتأمركة، هي أيضاً تُظهر تعلقها بتلك الرموز ولو من باب التباهي الاجتماعي والديكور اللازم للمجاملة العامة كسلوك متوقع أحياناً من البعض! أو حتى من باب تسويق خياراتها وتوجهاتها.

    طبعاً لا يعني كل هذا أن الشعور والإحساس والعمل وفق مقتضيات تأكيد الهوية الوطنية محصور بالريف دون المدينة، فالقضية الوطنية ما زالت هي العامل الأكثر أهمية في الانحياز للهوية الوطنية سواء في الريف أو في المدينة، وبالتالي وإن كانت نشأة الهوية وطابعها ريفيين، فإن إعلان التمسك بها وتعزيزها مسألة تطال العموم الفلسطيني في كافة مواقعه الديموغرافية، ريف ومدينة ومخيم، وفي كافة المواقع، فلسطين التاريخية والشتات، إن هذا لا يقلل نهائياً من الخطورة المتعلقة بمكونات الهوية ورموزها والمتأتية من ظواهر واتجاهات عدة، ورغم أن التفصيل بهذا خارج نطاق محدودية هذا المقال، ولكن حسبنا الإشارة لتأثيرات الفكر الليبرالي المعولم المشوه للهويات الوطنية المحلية، وكذا لمخاطر التطبيع على تشويه الوعي الوطني وتالياً الهوية، وكذلك للتشوه السياسي الذي أصاب المشروع الوطني، كمشروع مقاوم لتحرير الوطن والعودة، بحيث انتعشت الهويات الدينية والطائفية والجهوية والعائلية، وأخيراً على سياسات السلطتين؛ الأوسلوية وتقزيمها لفلسطين كأرض الهوية في الضفة والقطاع، والدينية الإسلاموية التي في خطابها وسلوكها تقزم الهوية الوطنية لانتماءات دينية.