Menu

هكذا عرفت العم عمر البرغوثي "أبو عاصف"

الأسير قسام البرغوثي يكتب: "أعقل الناس"

صورة تعبيرية

فلسطين المحتلة - بوابة الهدف

الآن وبعد ثلاثة أيام على رحيله وخسارته، أكتب عن رجل تحتضنه الآن الأرض التي أحبها وأحبته، عن رجل لم يبلغ عمري الآن سنوات اعتقاله ولن يبلغ بعد عمر سنوات نضاله. أكثر من ثلاثين عاما قضاها في الأسر والبعد والحرمان، لم تثنه يوما عن النضال ولم تفقده الأمل والإيمان بالنصر الحتمي لحظة. ناضل حتى لفظ آخر أنفاسه. كان حرا وصلبا، متجذرا في الأرض ومتجذرة فيه. لم تغره هامشيات الحياة ولم تحيده يوما عن ميادين النضال، فظل مخلصا لوطنه وقضيته التي أبقاها أساسا لحياته وكل مكونات الحياة الشخصية كانت على الهامش. كان الصخرة التي لم تحركها أقوى التيارات في الوقت الذي لم يحتمل فيه كثيرون أبسط التيارات، فانجرفوا معها كخرقة بالية وطافوا في كل الوديان، يبحثون عن غصن يابس يتشبثون به لينتشلهم، أو أن يتركوا لأنفسهم السباحة مع كل مياه تجري!

أن تؤمن بقضية ما يعني أن تفني عمرك في سبيلها. هكذا كان العم عمر، هكذا آمن وهكذا ربى، وهكذا علّم كل من عرفه وعايشه. وكل نهر على منبعه أمين. وما أكتبه الآن عدة مواقف ولقاءات جمعتني بالعم عمر. حاولت أن أصيغها بطريقة قصصية. هذه القصص هي عن تلك المواقف التي تتعدى بقليل عدد أصابع اليد... والتي جمعتني به في الأيام التي قضاها خارج السجن على طول سنوات عمري، وبعضها بعد أن كبرت والتقيته في السجن. عن مواقف بسيطة كان ينتهزها ليبث الأمل وحب الأرض والناس والصبر والجلد، مواقف قليلة سأكتب عنها فماذا سيكتب من عايش سنوات نضاله كلها.


أعقل الناس

أسمع عنه من أبي، وأمي، وأبناء عمومتي، وأصدقائي الأكبر مني سنا. معظم الذين كنت أعرفهم، يتحدثون عنه، عن صبره، عن قوته وجلده وأشياء كثيرة...

مصطلحات كانت جديدة على مخزون الكلمات التي أسعفني عمري حينها وتعلمتها، في البيت أو في المدرسة. كنت أخجل من السؤال عن معانيها. وكنت أوهم نفسي أنني قد أتعلمها في حصص المدرسة. وكم كنت غبيا حينها! فمثل تلك المصطلحات حتى يومي هذا، لم أجدها في مناهج السلطة التعليمية كلها.. لا في كتب المدرسة ولا في الجامعة!

يتحدث عنه الجميع. كنت أتخيله مثل شخصية "أبو الركاب" في مسلسل "الموت القادم من الشرق" التاريخي، الذي كتم صرخاته حين وضعوا النار على جسده. تصورته ربما بسبب اسمه كعمر المختار الثائر الليبي، تشوقت للقائه قبل أن أعرفه. أتخيل قوة يده حين أسلم عليه. أهي كقوة يد أبي؟ هكذا كنت أتخيل وأحاول أن أقارن بعد السلام عليه.

عصر يوم صيفي إن لم تخنّي الذاكرة، كنا نلعب كرة القدم في ملعب صغير بحارتنا "وادي الشيخ"، سمعنا أصوات أغان وأناشيد وطنية تنبعث من بعض السيارات، جمع من الناس يقفون على دوار القرية، يستعدون للذهاب لاستقباله، تركنا اللعب، وبعضنا ذهب صوب التجمع والسيارات، سيذهبون لملاقاته للسيارات،
هكذ فهمت. رحت أتساءل بيني وبين نفسي: أي شخص عظيم سيلاقون؟ ولماذا له كل هذا الاحترام؟ ألهذه الدرجة يحظى الأسير باحترام الناس وحبهم؟ لماذا؟!

رحت وصديق لي نلتصق بإحدى السيارات لنركب فيها فور انطلاقها، حين بدأ التحرك، جاء بعض الشبان وركبوا السيارة، ولم يعد لنا فيها أي متسع، ركضنا خلف سيارة أخرى بيضاء مفتوحة من الخلف ولها صندوق، كان فيها شبان وصبية من جيلي، كانت تسير ببطء، كنت وصديقي نركض بأقصى ما لدينا من سرعة، بعض الصبية يضحكون علينا وبعضهم يدعونا للإسراع، واصلنا الركض، كان السائق يتحدث على الهاتف ثم تباطأ أكثر عند مطب. وصلنا السيارة وتعلقنا على القفص من الخلف، انتبه لنا أحد أقارب العم عمر، أمرنا بالقفز من السيارة، رفضنا طلبه وأخذت سرعة السيارة تزداد، وفي النهاية قفزنا رغما عنه. مع القفزة شيء ما جذبنا نحو الأمام فكدنا نسقط على وجهينا، لولا أن تداركنا الأمر بالأيدي. تعالت ضحكات من بالسيارة ومن بينهم ذلك الشاب. شعرت بخيبة الأمل وظلت عيناي لا تفارقان ذلك الشاب الذي طردنا شر طردة دون أن أعرف السبب؟! وغابت السيارة. وقفت وصديقي نؤشر للسيارات بأيدينا التي كانت كما لو صعقت بالكهرباء إثر تلك القفزة ولم تكن السيارات المسرعة آبهة بأيدينا الصغيرة. فعدنا للعب.

كانت الشمس قد غربت وتبقى لنا القليل من الضوء الذي يتيح لنا بصعوبة رؤية الكرة البيضاء الممرّغة بالتراب. بقينا نلعب حتى سمعنا صوت أبواق السيارات، ركضنا حتى الشارع، بدأنا بعدّ السيارات، كنت وقتها غير راغب بالتسليم عليه بسبب تلك الطردة. عرفنا السيارة التي تقل العم عمر دون أن نراه، ثم رأيت السيارة التي طردنا منها، بقيت أحدق في الشاب وأتمنى أن يسقط، عبثا كنت أحاول، وذلك ما أثار احتقاني أكثر. توجه أصدقائي للسلام عليه، فلم أذهب نكاية في ذلك الشاب الذي يمت للعم بصلة قرابة. بعد أيام عرف والدي أنني لم أسلم عليه، أفهمته موقفي، فأقنعني بالذهاب فذهبت معه. في الطريق حدثني أبي عن سنوات المطاردة في الجبال، تحدث عن ملاحقتهما من قبل الجيش الصهيوني.. وتمزق قدمه واحتمائه وراء صخرة يعتليها الجنود، الذين انشغلوا بإطلاق النار على العم عمر بعد أن لاذ بالفرار. أشار أبي إلى تلك المنطقة التي كانت فيها أغصان التين تتساقط حول العم عمر حين يصيبها الرصاص. على مدخل البيت سلّم والدي على بعض الأشخاص الذين كانوا خارجين من البيت، وقف أبي مع أحدهم، وأنا شردتْ عيناي نحو سيارة استجابت بصوت حاد وأضواء صفراء لنداء جهاز التحكم الذي يحمله أحدهم.

دخلنا البيت، كان حول العم عمر مجموعة من الأشخاص، وقف مرحبا بنا، عانق أبي ثم انحنى بقامته وعانقني. شعرت بخشونة لحيته على خدي الأجرد، ربت على ظهري، ضربات كانت قوية لكنها لا تخلو من حنان. عرفني وعرف اسمي، سألني عن سبب تسميتي بهذا الاسم، أجبتُ بسرعة. ابتسم وربت على كتفي، أحمر وجهي، ثم انشغلوا في حديث لم أفهمه، رحت أختلس النظر إليه، وكلما كان يضبطني أنظر إليه، أنشغل بشيء ما! رحت أقارن بينه وبين أبي حين ارتفع صوت العم عمر: قال شو؟ لازم تعقل! قالها وأخذتْ نبرة صوته تهدأ شيئا فشيئا. أخذ يفسّر وهو ينظر إلي، كأن الحديث يوجه إلي، أو هكذا تخيّلت.

أحمر وجهي وشعرت بحرارة تتدفق في رأسي، بدأ يتحدث عن طول النفس وقصره، عن رفاق طريق النضال الطويل، عن الأثمان التي يجب أن تُدفع، استرشد بأمثلة لم أحفظها، يتلوا أسماء رفاق دربه الذين استشهدوا في الأسر وخارجه، عن أناس غير فلسطينيين ضحوا بأعمارهم وحياتهم في سبيل قضيتنا، عن عز الدين القسام السوري الأصل... والتفت إلي مرة أخرى، وعاد يتكلم بأشياء لم أفهمها، فهمت من الحديث أنّ الذين غادروا حين دخلنا يدعونه لأن "يعقل"! علت نبرة صوته مجددا: هو أنا حرامي عشان أعقل؟ أو أصير مع السلطة بصير عاقل؟! وأطلق ضحكة أتبعها بتنهيدة وراح يردد: "هذه الحياة التي اخترناها وهم اختاروها، وعائلاتنا مش أحسن من عائلات الناس اللي بتضحي. الفرق أننا اخترنا أن نظل للآخر...".

لم أكن حينها أجرؤ على الاستيضاح منه ومن أبي. كنت أكتفي بالاستماع ومداراة خجلي واحمرار وجهي كلّما وجه العم عمر بصره إلي أثناء الحديث.

بعد وقت قصير جاء ضيوف. لم يكن عدد الكراسي كافيا، وقف أبي وسلم عليهم  وعلى العم عمر، وأشار لي بالاستعداد للمغادرة، سلّمت على العم عمر وانتهزت فرصة انشغال أبي بالسلام على أحد الضيوف، وملأتُ يدي بحبات "الملبّس" وسبقته للخارج.

أشعل أبي سيجارته وراح يشير إلى حارة كاملة ببيوتها وأسوارها. كانت شجيرات الصبّار كأنها تغطي المنطقة، بعد قليل أشار أبي لبيت على يسارنا، وحدثني كيف  عندما كان مطاردا كان أصحاب هذا البيت يطلبون من أحد أبنائهم المغادرة، ليبيت أبي مكانه. كنت أثناء حديثه منهمكا بمضغ حبات  الملبّس الملونة التي تملأ فمي، وحين انتهيت بادرت أبي بالسؤال: "لماذا يدعو هؤلاء العم عمر لأن يعقل؟ ماذا فعل؟"

تحدث أبي كثيرا وحاول قدر المستطاع أن يبسّط لي حتى أفهم، وجل ما فهمته أنه كان أعقل من الذين يدعونه بـ"أن يعقل" وأن العم عمر من خير الناس، لم تغيره الدنيا كما غيرتهم، والكثير من الأشياء التي استعصت على فهمي آنذاك.

اشتريت لأبي علبة سجائر من نوع "فريد"، وعدتُ للعب مع الأصدقاء. بعد أن كبرت، طالني الاعتقال وبدأت أدرك معالم الطريق وأؤمن بخياراته، سمعتها في لحظات تحرري "إعقل، سارح والناس مروحة، مبيوعة" وغيرها من المصطلحات والأوامر التي تستفز كل شعرة من جسدي، شعرت كم هي مستفزة وكم تجرح، تستفزّك وهي تخرج من المحب ومن الشامت، كلها مستفزة  وإن اختلفت، فإنها تختلف في المقدار الذي تستفزك فيه. كنت في كل مرة أتساءل: هل العقل والتعقّل في ترك حياة النضال؟ هل العقل في التخلي عن أحلامنا وأحلام شعبنا؟ هل العقل في التخلي عن القيم النبيلة والمبادئ التي تربينا عليها؟ إن كان العقل أن نتخلى عن حلم من أحلام طفولتنا ونضالنا فسحقا للعقل. فهناك فرق بين العقل والجبن.

وداعا يا أعقل الناس.

سجن نفحة 28.3.2021

المصدر: وكالة وطن