Menu

إلى الشَّاعِر الرَّائي الحاضِرِ أبداً سَعْدِي يُوسُف

عبد الرحمن بسيسو

الشاعر العراقي سعدي يوسف

الانْصِهَارُ الْمزْجِيُّ الْكُليُّ

أَوْ آلِيَّةُ تَكْوِيْن الْقِنَاعِ النَّبَاتِ فِي قَصِيْدةِ "نَبْتٌ مُتَسَلِّقٌ"

تَتَكَوَّنُ قَصِيْدَةُ: "نَبْتٌ مُتَسَلِّق"(1) مِنْ مُتَتَالِيَتَيْنِ شِعْرِيَّتَيْنِ: مُتَوَسِّطَةٌ وقَصِيْرَةٌ، فَتَضُمُّ المُتَتَالِيَةُ الأُوْلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَطْراً، فِيْمَا تَقْتَصِرُ الثَّانِيَةُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْطُرٍ فَحَسْبُ. ويَدلُّ هَذَا الْحَجْمُ المَضْغُوطُ إِلى أَقْصَى حَدٍّ مُمْكِنٍ، إِضَافَةً لِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَدُلَ عَلَيْهِ فِي سِيَاقَات أُخْرى، عَلَى أَنَّ الْقَصِيْدَة لَا تَتَوخَّى إِدْخَالَنَا عَالمَاً رُؤْيَاوِيَّاً وَاسِعَاً، بِقَدْرِ مَا تَتَوَخَّى تَرْكِيْزَ انْتِبَاهِنَا عَلَى لَحْظَةٍ وَحِيْدَةٍ تَمَّ اقْتِنَاصُهَا مِنْ ثَنَايَا تَجْرِبَةِ رُؤْيَا دَاخِلِيَّةٍ، بَالِغَةِ الاتِّسَاعِ والْعُمْقِ، جَمَعَتِ الشَّاعِرَ بِذَلِكَ الْكَائِنِ الطَّبِيْعِيِّ الَّذِي نَعِيْشُ وإِيَّاهُ فِي عَالَمٍ وَاحِدٍ، وَنَكَادُ لَا نَكْتَرِثُ بِوُجُوْدِهِ إِلَّا قَلِيْلاً.

وَلِأَنَّ الشَّاعِرَ سَعْدِي يُوْسُف يَكْتَـرِثُ كَثِيْراً لِوُجُودِ كُلِّ مَوجُودٍ، فَيَسْعَى، بِتَبَصُّرٍ شِعْرِيٍّ تُفْصِحُ الْقَصِيْدةُ عَنْهُ، لِلْكَشْفِ عَمَّا يَكْمُنُ خَلْفَ ظَاهِرِ كُلِّ مَوْجُودٍ عَادِيٍّ ومَأْلُوفٍ مِنْ بُذُورِ صُوَرٍ شِعْرِيَّةٍ قَابِلَةٍ لِلإِيْنَاعِ فِي صِيَغٍ إِبْدَاعِيَّةٍ مُفْعَمَةٍ بِعَمِيْقِ الرُّؤَى، وَذَلِكَ عَبْرَ إِضَاءَةِ هَذَا الْعَادِيِّ الْمَأْلُوفِ وَجَعْلِهِ فَرِيْدَاً مُمَيَّزاً، واسْتِثْنَائِيَّاً، وذَا قُدْرةٍ عَلَى إِثَارَةِ الدَّهْشَةِ المُنْطَويَةِ عَلَى ثَراءٍ دلاليٍّ؛ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ، فِي هَذِهِ الْقَصِيْدةِ، أَنْ يُجَلِّيَ وُجُودَ "كَائِنٍ طَبِيْعِيٍّ" مُسْرِفٍ فِي الْوُجُودِ؛ فَلَا هُوَ يُلْفِتُ انْتِبَاهَنَا، إِذْ نَمُرُّ بِهِ، إِلى وُجُوْدهِ، وَلَا نَحْنُ نَرَاهُ لِنَلْتَفِتَ، ولَوْ قَلْيْلاً، إِليْه.

يُضِيءُ الشَّاعِرُ وُجُوْدَ هَذَا "الْكَائِنِ الطَّبِيْعِيِّ" إِذْ يَنْفَتِحُ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيِّهِ، بِاعْتِبَارهِ "أَنَاهُ الْمُغَايِرَ" الَّذِي يَتَفَاعَلُ مَعَهُ كَـ"ذَاتٍ" هِيَ الْقُطْبُ الرَّئِيْسُ الثَّانِي فِي تَكْوِيْن قِنَاعِهِ الشِّعْرِيِّ الْخَائِضِ تَجْرِبَةَ الْقَصِيْدَةِ، ونَاطِقِهَا الْمسْكُونِ صَوْتُهُ بِصَوتِ الشَّاعِرِ الَّذِي انْخَرطَ مَعَهُ فِي تَجْرِبَةِ "رُؤْيَا دَاخِلِيَّةٍ" أَنْسَنَتْهُ، فَأَنْتَجَتْ، عَبْرَ تَفَاعُلِ قُطْبَيْهَا، قِنَاعَاً شِعْرِيَّاً حَمَلَ اسْمَهُ: "نَبْتٌ مُتَسَلِّقٌ"، وخَاضَ تَجْرِبَةَ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُما، فَصَارَ هُو: النَّبْتُ الإنْسَانُ الشَّاعِرُ، والشَّاعِرُ النَّبْتُ الإنْسَانُ.

الزَّمَنُ، وجَدلِيَّةُ الإِنْسَانِ والطَّبِيْعَةِ

تَقْتَنِصُ الْقَصِيْدَةُ لَحْظَةً دَالَّةً مِنْ لَحَظَاتِ جَدَلِيَّةِ الإِنْسَانِ والطَّبِيْعَةِ، وتَنْفَتِحُ عَلَى تَبَصُّرٍ شِعْرِيٍّ فِي تَواشُجٍ هَذِه الْجَدَلِيَّةِمَعِ الزَّمَنِ الْوجُودِيِّ، وفِي انْخِراطِ قُطْبَيْهَا فِي دَوْرَاتِ حَيَاةٍ وَمَوتٍ؛ وَوُجُودٍ وعَدمِ، فَتَتَفَاعَلُ الْعَنَاصِرُ والْمُكَوِّنَاتُ الْعَائِدَةُ لِكِلْتَا الذَّاتَيْنِ المُتَفَاعِلَتِيْنِ: أَنَا الشَّاعِرِ (الإِنْسَانِ) وأَنَا النَّبْتِ (الطَّبِيْعَة) فِي مَجْرى صَيْرُوْرَةِ الْقَصِيْدَةِ - التَجْرِبَةِ؛ بَانِيَةً التَّجْرِبَةِ؛ ومُكَوِّنَةً الْقِنَاعَ؛ وفَاتِحَةً أُفُقَ انْبِثَاقِ لُغَةٍ جَدِيْدَةٍ تَنْجُمُ عَنِ انْصِهَارِ لُغَتَيْنِ: لُغَةِ الإِنْسَانِ، ولُغَةِ الطَّبِيْعَةِ؛ أَيْ لُغَةِ الْقِنَاعِ التي هي لُغَةِ "الشَّخْصِ الثَّالثِ" الَّذِي هُوَ خَائِضُ التَّجْرِبَةِ الْمَائِرةِ فِي الْقَصِيْدةِ، ومُنْشِيءُ النَّصَّ الَّذِي يَقُولُهَا، ونَاطِقُهُ المسكونُ صَوتُهُ بِصَوتين مُتَفاعِلَيْن:

بَعْدَ عَامٍ أَوِ اثنينِ، أَبْلغُ أَعْلَى السِّيَاجْ

إِنَّهَا الْأَرْضُ

تَدْفَعُنِي مِنْ عُرُوْقِي لِأَبْلُغَ أَعْلَى السِّيَاجْ

وَهِيَ الشَّمْسُ

تَخْتَارُ طَاوِلَةً

ثُمَّ تُجْلِسَنِي كَيْ تُقَدِّمَ لِي كَأْسَهَا طَافِحَاً بِالْهِيَاجْ.

وَالْهَوَاءُ الَّذِي يَتخَلَّلُنِي

صَارَ يَعْبَقُ بِي

وَأَنَا أَقْطَعُ الْخُطَوَاتِ الْأَخِيْرَةَ

نَحْوَ أَعَالِي السِّيَاجْ...

رُبَّمَا بَعْدَ عَامٍ، أَوِ اثْنَيْنِ...

لَكِنَّ طَيْراً بَنَى عُشَّهُ تَحْتَ إِبْطِيْ يُسَائِلُنِيْ:

هَلْ سَتَمْضِيْ مَعَ الْخُطُوَاتِ الْأَخِيْرَةِ

كَيْ تَتَمَزَّقَ، مُخْتَرقَاً، دَامِيَاً، بِكَسِيْرِ الزُّجَاجْ؟(2).

تُضِيءُ الْقَصِيْدَةُ الْخَصَائِصَ الْجَوْهَرِيَّةَ الَّتـِي تُوَحِّدُ دَوْرَةَ حَيَاةِ الإِنْسَانِ مَعْ دَوْرَةِ حَيَاةِ الطَّبِيْعَةِ، مُوْحِيَةً بِالْمُفَارَقَةِ الْوُجُوْدِيَّةِ السَّاخِرَةِ الْوَاسِمَةِ حَرَكَةَ صُعُودِ الإِنْسَانِ، أَوِ النَّبَاتِ، فِي الْحَيَاةِ؛ فَمَعْ كُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَيٌّ مِنْهُمَا صَاعِدَاً بِاتِّجَاهِ الْحَيَاةِ المُفْعَمَةِ بالنُّضْجِ والإِثْمَارِ والتَّوهُّجِ، يَكُوْنُ قَدْ عَبَرَ خُطْوَةً أُخْرى، تُوَاكِبُهَا، بِاتِّجَاهِ الْمَوْتِ؛ هَذَا الْكَامِنُ فِي خُطُوَاتِ صُعُودِ الْحَيَاةِ نَفْسِهَا نَحْوَ أَقْصَىَ عُلُوٍّ هِيَ مَطْبُوعَةٌ عَلَى السَّعْيِ إِلى بُلُوْغِهِ.

وهَكَذَا لا يَعُودُ الْمَوْتُ مُجَرَّدَ مَوْجُوْدٍ، أَو حَالٍ، يَسْقُطُ عَلَى الْحَقِيْقَةِ الإِنْسَانِيَّة، أَوِ النَّبَاتِيَّةِ، مِنْ خَارِجِهَا، فَالإِنْسَانُ، وَالنَّبَاتُ، يَغُذَّانِ الْخَطْوَ فِي دُوْرُبِ الْحَيَاةِ، وعَلَى سَلَالِمِهَا، فَيْمَلآنِ بِفَاعِلِيَّة وُجُودْهِمَا، الزَّمَنَ الَّذي لَيْسَ بِمَقْدُرِهِمَا إِيْقَافُهُ فِي لَحْظةٍ مَنْشُودَةٍ مِنْهُ تَكُوْنُ هِيَ الأَبَدُ؛ إِنَّهُمَا يَتَشَوَّقَانِ لِإِيْنَاعِ بُذُوْرِ الْحَيَاةِ وإِنْضَاجِ ثِمَارِهَا، غَيْرَ أَنَّهُمَا يُدْرِكَانِ، عَبْرَ تَوَحُّدْهِمَا الْمَاهَوِيِّ فِي ذَاتِ الْقِنَاعِ المُدْرِكَةِ، أَنَّ فِي اكْتِمَالِ نُضْجِهِمَا اكْتَمَالاً لِجَنِيْنِ الْمَوْت الْكَامِنِ فيِ رَحْمِهِمَا، وتَهْيِئَةً لِلَحْظَةِ مِيْلَادِهِ؛ فَالْحَقِيْقَةُ الْحَيَاتِيَّةِ الإِنْسَانِيَّةُ، كَمَا هِيَ الْحَقِيْقَةُ الْحَيَاتِيَّةُ النَّبَاتِيَّةُ، "وُجُودٌ لِلْمَوْتِ"، أَيْ أَنَّ الْمَوْتَ هُوَ نِهَايَةُ طَرِيْقِ وُجُوْدِهِمَا الْحَيَاتِيِّ، فَهُمَا تَقْتَرِبَانِ مِنْهُ مَعْ كُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُوانِهَا صَوْبَ "أَعْلَي السِّيَاجِ"! تِلْكَ، إِذَنْ، هِي حَقِيْقَةُ الْحَقِيْقَتَيْنِ، إنَّهَا: "وُجُودٌ لِلْمَوْتِ، أَيْ أَنَّ الْمَوْتَ نِهَايَةَ طَرِيْقِ وُجُوْدِهَا، لِذَا هِي تَمُوتُ كُلَّ لَحْظَةٍ؛ لِأَنَّهَا كُلَّ لَحْظَةٍ تَتَّجِهُ فِي سَيْرِهَا صَوْبَ نِهَايَةِ طَرِيْقِهَا فِي الْوُجُوْدِ"(3).

إِنَّ الْقِنَاعَ الَّذِي يُوحِّدُ الإنْسَانَ والطَّبِيْعَةَ فِي كَيْنُونَتِهِ وذَاتِهِ الْمُلْتَحِمَتَيْنِ، والَّذِي يُكَثِّفُ فِي هُوِيَّتِهِ الْمُنْصَهِرةِ الْمُكَوِّنَاتِ جَدَلِيَّةَ الْحَيَاةِ والْمَوْتِ، إِنَّمَا يَصْعَدُ بِقُوَّةِ دَفْعٍ ذَاتِيٍّ تَنْبَعِثُ مِنْ عَنَاصِرِ الْخَلْقِ الْكَامِنَةِ فِيْهِ، ومِنْ تِلْكَ الَّتِي يَجْتَافُهَا مِنْ مَجَالِهِ الْحَيَوِيِّ الْمُفْعَمَةِ مُكَوِّنَاتُهُ بِعَنَاصِرِ الْخَلْقِ: الْأَرْضِ، والشَّمْسِ، والرِّيْحِ، "نَحْوَ أَعَالِي السِّيَاجِ" لِيَتَمَزَّقَ ويَمُوْتْ. وَلَكِنَّهُ، وَقَدْ شَارَفَ الْوُصُوْلَ إِلى ذُرْوَةِ عَالَمِ الْحَيَاةِ حَامِلاً صَخْرَتَهُ، كَمَا سِيْزِيْفَ، أَيْ حَامِلاً عِبْءَ إِنْضَاجِ الْحَيَاةِ، وإِثْرَاءِ الزَّمَنِ، وإِغْنَاءِ الْوُجُودِ، بِجَهْدِ خَطْوِهِ الْخَلَّاقِ، لَا يَخْرُجُ مِنْ تَجْرِبَتِهِ خَاسِراً، وَلَا تَكٌونُ حَرَكَةُ صُعُوْدِهِ فِي الْحَيَاةِ حَرَكةً عَبَثِيَّةً، أَوْ عُقُوبَةً إلَهِيَّةٍ، كَمَا هِيَ حَالُ "سِيْزِيْفَ" وصَخَرَتِهِ فِي الدَّلَالَةِ الأُسْطُوْرِيَّةِ الْقَدِيْمَةِ؛ ومَا ذَلِكَ إلَّا لِكَوْنِ الثَّمَرةِ الَّتِي أَنْضَجَتْهَا تَجْرِبَةُ صُعُوْدِهِ فِي الْحَيَاةِ "نَحْوَ أَعَالِي السِّيَاجِ" الَّتِي عِنْدَهَا يَرْبُضُ الْمَوْتُ مُنْتَظِرَاً، إِنَّمَا تَكْتَنِزُ بِذْرَةَ حَيَاةٍ أُخْرى تَتَوَاصَلُ مَعَهَا دَوْرَاتُ الْحَيَاةِ خَالِدَةً بِتَجَدُّدِهَا، وَمُتَجَدِّدِةً بَجَهْدِ الْخَطْوِ، وبِلَا انْقِطَاعٍ، إِلَّا انْتِقَالِيَّاً وبَرْزَخِيَّاً، إِنْ وُجِدَ.

لَمْ يَكُنْ لِحَركَةِ الْجَدَلِ الْمَائِرةِ فِي القَصِيْدةِ بَيْنَ الْحُرِيَّةِ، كَوَعْيٍ لِلضَّرُوْرَةِ، وبَيْنَ الضَّرُوْرَةِ، أَيَّاً كَانَتْ طَبِيْعَتُهَا، وَهِيَ الْحَرَكةُ الْحَاكِمَةُ عَلَاقَةَ الْقِنَاعِ بِالْحَيَاةِ، وبِالطَّبِيْعَة الْكَوْنِيَّةِ الشَّامِلَةِ، إلَّا أَنْ تُسْفِرَ عَنْ ثِمَارِهَا الْكَانِزَةِ خُلَاصَاتِهَا الَّتِي أَبْصَرَهَا الْقِنَاعُ: "طَيْراً بَنَي عُشَّهُ تَحْتَ إِبْطِيْ"، فَالْقِنَاعُ، فِي هَذِهِ الصُّوْرَةِ الشَّعْرِيَّةِ اللَّافِتَةِ، هُوَ الإِنْسَانُ والنَّبَاتُ مُلْتَحِمَيْنِ فِي هُوِيَّةٍ مُنْصَهِرةِ الْمُكَوِّنَاتِ، وجَسَداً كُلِّيَاً ذَا "إِبْطٍ" صَارَ حَيِّزاً تُظَلِّلُهُ غُصُونٌ وارِفَةُ الأَوْراقِ، فَمَا كَانَ مِنْ رَمْزَ الْحُرِيَّةِ إِلَّا أَنْ يَبْنِىَ "عُشَّهُ" فِي رِحَابِه!

لَقَدْ أثْمَرَتْ حَرَكَةُ الْجَدَلِ بِيْنَ الْحُرِّيَةِ والضَّرُوْرَةِ إِمْكَانيَّةَ تَخَلُّقِ مَزِيْدٍ مِنَ الأَجْنِحَةِ الَّتِي يْمْكِنِ لِطَائِرِ الحُرِّيَةِ أَنْ يُحَلِّق بِهَا ذَاهِبَاً صَوْبَ آفَاقٍ أَعْلَى وَأَبْعَدَ، وذَلِكَ لَحْظَةَ اكْتِمَالِ تَكَوُّنِ أَجِنَّةِ العَصَافِير الصَّغِيرةِ القَاطِنَةِ عُشَّاً بَنَاهُ هَذَا الطَّائِرُ الْحُرُّ تَحْتَ إِبطِ الْقِناعِ الَّذي هُوَ طَائِرُ حُرٌّ مِثْلُهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ، بِالضَّبطِ، إيَّاهُ؛ ومَا هَذِه اللَّحْظَةُ، فِي ضَوءِ شَبَكَةِ دَلَالَاتِ الْقَصِيدةِ، إلَّا لَحْظَةَ تَمَزُّقِ الْقِنَاعِ، ومَوْتِهِ، الَّتِي هِيَ لَحْظَةُ مِيْلادِ العَصَافِيْرِ الْمُجَنَّحَةِ، ولَحْظَةُ شُروعِهَا فِي التَّحْلِيقِ، مُنْطَلِقَةً مِنْ عُشِّهَا القَابِعِ تَحْتَ إِبْطِ الْقِناعِ الَّذي مَاتَ للتَّوِّ، صَوبَ رحَابَةِ الْحَيَاةِ الْمُتَجَدِّدةِ، وَنَحْوَ أَبْعَدِ مَدَاراتِ الْوُجُودِ الْحَيَوِيِّ، وأَعْلَاهَا.

وَلِأَنَّ الْقِنَاعَ يَأْمُلُ، أَوْ لَعَلَّهُ يُدْركُ الآنَ، أَنْ لَيْسَ لِمَوْتِهِ، وقَدْ بَلَغَ خَطْوهُ الحَيَاتِيُّ الْوُجُودِيُّ الْخَلَّاقُ "أَعَالي السِّيَاجِ"، أَنْ يَنْطَوِيَ عَلَى شَيءٍ سِوَى انْبِعَاثٍ جَدِيْدٍ يُوَسِّعُ مَجَالَ الْحُرِّيَّةِ، ويُقَلِّصُ حُضُورَ الضَّرورة؛ فَإنَّهُ، وقَدْ كَانَ لِتَجْرِبَتِهِ الْحَيَاتِيَّةِ الْوُجُودِيَّةِ أَنْ تَهِبَ الإِنْسَانَ والطَّبِيْعَةَ، الَّذِي هُوَ إِيَّاهُمَا فِي كَيْنُونَةٍ مُلْتَحِمَةٍ، إِمْكانِيَّةَ التَّحْلِيْقِ بِأَجْنِحَةِ جَدِيْدَةٍ تَتَكَوَّنُ الْآنَ فِي "أَعْشَاشِ الْعَصَافِيرِ" الْمائِرةِ تحْتَ إبِطِهِ؛ لَيُوَاصِلُ الصُّعُودَ، بِدَافعٍ فِطْرِيِّ مُتَأَصِّلٍ فِي جَوهَرِ هُوِيَّتِهِ، وبِتَوْقٍ وُجُوْدِيٍّ لَاهِبٍ، صَوبَ الذُّرْوَة، مُوْقِنَاً أَنَّ فِي مَوْتِهِ الْحَتْمِيِّ الْقَادِمِ مِيْلادَ حَيَاةٍ جَدِيْدَةٍ تَنْهضُ عَلَى خُلاصَاتِ تَجْربَتِهِ، وتَتَجَاوَزُهَا صَوبَ تَجَارِبَ أَغْنَى وأَسْمَى، فَالْعَنَاصِرُ والْقُوى الَّتِي تَدْفَعُ خَطْوَهُ، أَوْ تَرْفَعُهُ، بِقُوَّتِهَا الْخَالِقَةِ، لِبُلُوغِ "أَعَالِي السِّيَاجِ"، لِيُدْرِكَ، إنْ بَلَغَهَا مَوْتَهُ واكْتِمَالَ وُجُودِهِ فِي رِحَابِ الْحَيَاةِ، هِيَ نَفْسُها خَالِقَةُ الْحَيَاةِ الْجَدِيْدةِ، وفَاتِحَةُ الْوُجُودَ عَلَى آفَاقٍ أَبْعَدَ وأَعْلَى:

كَيْفَ أُمْسِكُ نَفْسِي، إِذَنْ

إِنَّهَا الْأَرْضُ

وَالشَّمْسُ

وَالرِّيْحُ

تَرْفَعُنِي، هَكَذَا، نَحْو أَعْلَى السِّيَاجْ.(4).

وهَكَذَا نَجِدُ، تَأْسِيْسَاً عَلَى مَا اسْتنْبَطَتْهُ قِراءَتُنَا الْقَصِيْدةَ مِنْ مُعْطَيَاتٍ، أَنَّ تَجْرِبَةَ التَّمَاهِي الدِّيَالِكْتِيْكِيِّ، أَوِ الرُّؤْيَا الدَّاخِلِيَّةِ، ولا سِيَّمَا حِيْنَ تَتَركَّزُ عَلَى الْتِقَاطِ لَحْظَةٍ عَادِيَّةٍ ومَأْلُوْفَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ حَيَاةِ النَّبَاتِ الْمُنْدَغِمَةِ بِحَيَاةِ الإِنْسَانِ، لِأنَّ الشَّاعِرَ قَدْ رَأَهَا لَحْظَةً مَوَّراةً بِالصُّورِ الشِّعْرِيَّةِ الْفَرِيْدَةِ والْمُفَعَمَةِ بِالدَّلالَةِ الْوُجُوْدِيَّةِ والمَغْزَى؛ فَإِنَّهَا تَتَكَفَّلُ بِتَولِيْدِ لُغَةٍ ثَالِثَةٍ تُمَكِّنُ الشَّاعِرَ مِنَ اقْتِنَاصِ جَوْهَرِ التَّجْرِبَةِ، ومِنْ تَجْسِيْدِهَا، شِعْرِيَّاً، فِي نَصٍّ بَالِغِ الْحَيَوِيَّةِ، والْكَثَافَة، والثَّرَاءِ الدَّلاليِّ، حَيْثُ يَتَجَاوَبُ انْبِنَاءُ التَّجْرِبَةِ، كَتَجْرِبَةٍ ثَالِثَةٍ، مَعْ حُضُورِ الْقِنَاعِ، كَشَخْصٍ ثَالِثٍ، ومَعِ انْبِثَاقِ هُوِيَّتِهِ، كَهُوِيَّةٍ ثَالِثَةٍ، مَعْ تَجْلِيَةِ وُجُودِهِ، وإظْهَارِ فَاعِلِيَّتِه، عَلَى مَدَى الْقَصِيْدةِ – التَّجْرِبَةِ، كَرَمْزٍ ورامِزٍ فِي آنٍ مَعَاً، وحَيْثُ تَنْصَهِرُ هَذِهِ التَّجَاوُبَاتُ فِي لُغَةِ الْقَصِيْدَةِ الَّتِي تَعْكِسُ، ضِمْنَ مَا تَعْكِسُه، الآلِيَّةَ الْجَمَالِيَّةَ البِنَائِيَّةَ الَّتِي نَهَضَ إِعْمالُهَا بِبِنَاءِ النَّصِّ، وتَكْوِيْنِ الْقِنَاعْ.

الْإِنْسَانُ والنَّبْتُ: كَيْنُونَةٌ مُلْتَحِمَةٌ

مَا مِنْ مُصْطَلحٍ أَرَاهُ مُلَائِمَاً لتَوصِيْفِ هَذِهِ الآلِيَّةِ، الَّتِي أَحَسُبُ أَنَّ القِراءَةَ السَّابِقَةَ قَدْ أفْصَحَتْ عَنْ مَاهِيَّتَهَا، غَيرَ "الانْصِهَارِ الْمَزْجِيِّ الْكُلِّيِّ"، النَّاجِمِ، كَمَا لاحَظْنَا، عَنْ تَفَاعُلِ مُكَوِّنَاتِ الإِنْسَانِ والنَّبَاتِ وخَصَائِصِهِمَا الْمُشْتَرَكَةِ، كَذَاتَيْنِ فَاعِلَتَيْنِ ومُنْفَعِلَتَيْنِ، دَاخِلَ دِيَالِكْتِيْكِ التَّمَاهِي الَّذِي يَصَبُّ، عَبْرَ دِيَالِكْتِيْكِ التَّنَاصِّ، كُلَّ مَا يَنْتُجُ عَنْهُ فِي تَجْرِبَةِ الْقِنَاعِ الْمَرْوِيَّةِ، بِصَوتِهِ، فِي قَصِيْدَتِهِ، وَفِي أَصْلَابِ هُوِيَّتِه الْعَمِيْقَةِ الْمُتَشَكِّلَةِ عَبْرَ صَيْرُوْرةِ تَجْرِبَتِه، وفِي تَحَوَّلاتِهِ الْمُتَجَلِّيَةِ فِي أَقْوَالِهِ ونَبَراتِ صَوتِه.

وهَكَذَا نَقْرأُ فِي تَجْرِبَةِ الْقِنَاعِ تَجْرِبَةَ الإِنْسَانِ وَالنَّبْتِ الْمُتسَلِّقِ فِي آنٍ معاً، ونُصْغِي، فِي صَوْتِ الْقِنَاعِ، إِلى صَوْتٍ مَسْكُونٍ بِصَوْتَيْنِ، وَنَتَعَرَّفُ فِي مُكَوِّنَاتِ هُوِيَّتِهِ القَوَاسِمَ المُشْتَرَكَةِ الَّتِي تُوحِّدُهُمَا فِي كَيْنُوْنَةٍ مُلْتَحِمَةٍ؛ فَهَا نَحْنُ نُصْغِي إِلى لُغَةِ الطَّبِيْعَةِ الْحَيَّةِ مَسْكُونَةً بِلُغَةِ الإِنْسَانِ فِي رَنِيْنِ حَرَكَةِ التَّسَلُّقِ الصَّاعِدَةِ مِنْ بَاطِنِ الأَرْضِ، حَيْثُ الْجُذُورِ الْأُوْلِى، إِلى أَعَالِي السِّيَاجِ، حَيْثُ النِّهَايَاتِ الْمَفْتُوحَةِ عَلَى بَدْءٍ جَدِيْدٍ.

وهَا نَحْنُ نُصْغِي إِلى نَبْرِ الأصْواتِ، الْجَاعِلَةِ هَذِه اللُّغَةِ كَلَامَاً، فِي نَبْرِ الْأَصْوَاتِ الْمُنْبَعِثَةِ مِنْ تخلُّلِ الْهَواءِ أَوْرَاقَ النَّبَات، وفِي هَمْسِ حَركَةِ الطَّير وَهُوَ يَبْنِي عُشَّهُ الصَّغِيْرَ فِي ثَنَايَا تِلْكَ الأَوْرَاقِ الْمُظَلِّلَةِ الْغُصُونَ، والْحَاجِبَةَ أَعْشَاشَ الْعَصَافِيرِ عَنِ الْعُيُونِ، وَفِي ذَلِكَ الصَّوتِ الْخَفِيِّ الدَّامِي الَّذِي يُلامِسُ وِجْدَانَنَا قُبَيْلَ أَنْ تَسْمَعَ آذَانَنَا صَوْتَ تَمَزُّقِ عُرُوقِ النَّبْتِ المُتَسَلِّقِ لَحْظَةَ مُلامَسَتِهَا "كَسِيْرِ الزُّجَاجْ"؛ وَكأَنَّمَا هُوَ صَوتٌ يَشِي، فِي الوَقْتِ عَيْنِهِ، بِصُوْرَةِ انْهِمَارِ الدَّمِ مِنْ عُرُوْق إِنْسَانٍ اسْتَهَدَفَهُ "كَسِيْرُ الزُّجَاجِ" ومِنْ شَرايِينِهِ الْمَجْرُوْحَةِ.

هَا نَحْنُ نُصْغِي، إِذَنْ، إِلى لُغَةِ الإِنْسَانِ فِي صَوْتِ الْقِنَاعِ، دُوْنَ أَنْ نَشْعُرَ بِانْفِصَالِهَا عَنْ لُغَةِ الْكَائِنِ الطَّبِيْعِيِّ السَّاكِنِ وِجْدَانَهُ؛ فالنَّبَاتُ، كَالإنْسَانِ، كَائِنٌ زَمَانِيٌّ، يَحُسُّ وَقْعَ الزَّمَانِ، ولَعَلَّهُ، مِثْلَهُ، يُدْرِكُ مَعْنَاهُ، بَلْ إِنَّهُ، وِفَقَ مَا تَقُولُ الْقَصِيْدةُ، لَيُدْرِكَهُ تَمَامَاً؛فَهُوَ يَحْسُبُهُ بِدِقَّةٍ حَذِرَة: "بَعْدَ عَامٍ أَوِ اثْنَينِ أَبْلغُ أَعْلَى السِّيَاجْ".

وللنَّبَاتِ، كَمَا لِلإِنْسَانِ، عُرُوقٌ، وفِي عُرُوقِهِ يَجْرِي دَمٌ، وَهُوَ فِي بَهْجَةِ صُعُوْدِهِ صَوْبَ الشَّمْسِ الْمُنِيْرَةِ الْوَهَّاجَةِ، أَوْ فِي بَهْجَةِ احْتِفَاءِ الشَّمْسِ بِصُعُوْدِهِ نَحْوَهَا،إِنَّمَا يَتَصَوَّرُ نَفْسَهُ يَجْلِسُ وإيَّاهَا إِلى طَاوِلةٍ تَخْتَارُهَا هِيَ، لِيَحْتَسِيَ كَأْسَهَا مَعَهَا: كَأْسَ النُّورِ، والْحُرِّيَّةِ، والتَّجَدُّدِ الدَّائِمِ، وتَجَلِّي إِنْسَانِيَّةِ الْوُجُودِ ... إِلخ، ثُمَّ إِنَّهُ لَيَخْطُو، ويَخْطُو، ثُمَّ يَخْطُوْ، وبِخُطُواتِهِ الْمُوَاكِبَةِ خَطْوَ الإِنْسَانِ، والْمَسْكُونَةِ بِهِ، إِنَّمَا يَمْلأُ الزَّمَن بِحيَوِيَّةِ كَائِنَاتِ الْحَيَاةِ الدَّافِقَةِ، فَيُثْري الْوُجُودَ، ويُجَلِّي حَقِيْقَةَ لُحْمَتِهِ الْكُلِّيَةِ الْجَامِعَةِ!

وهَا هُوَ الْقِنَاعُ يَتْـرُكَ سُؤَالَ الطَّائِرِ بِلَا جَوابٍ إِلَّا الإِصْغَاءَ مَعَهُ، وَبِإرْهَافِ حَمِيمِيْمِيٍّ، إِلى نَدَاءَاتِ الأَرضِ، والشَّمْسِ، والرِّيْحِ، وإلَّا الاسْتِجَابَةِ لِمشْيْئَاتِهَا الَّتِي تُجَلِّي مَشيْئَةَ الْوُجُودِ الْحَقِّ، الَّذِي شَاءَ لِلإِنْسَانِ أَلَّا يَكُفَّ عَنِ السَّعْيِ اللَّاهِبِ لامْتِلَاكِ الْمَزِيْدِ مِنَ الأَجْنِحَةِ الَّتِي تُمَكِّنَهُ مِنَ الطَّيَـرانِ، ومِنْ مُتَابَعَةِ التَّحْلِيْقِ مَعِ الْكَلِمَاتِ الرَّائِيَةِ، ومَعْ آخَرِيْهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، والْأَحْيَاءِ، والْكَائِنَاتِ، وَشَتَّى الْمَوْجُوْدَاتِ، فِي مَدَاراتِ وُجُودٍ إِنْسَانيٍّ حُرٍّ لَا يَنِيِّ يَفْتَحُ، بِالأَجْنِحَةِ الْخَفَّاقَةِ، أَبْوابَهَا، فَيُجَلِّي وُجُوْدَهَا، ويُوَسِّعُهَا مُنْبِئَاً، طِيلَةَ الْوقْتِ، بِجَدْوَى الْفِعْلِ الْإِنْسَانِيِّ، الْفَرْدِيِّ والْجَمْعِيِّ، الْخَلَّاقِ، وَبِلَا نَهائِيَّةِ مَدَارَاتِ الْوُجُودْ.

وَلَئِنْ كَانَ الإِنْسَانُ الشَّاعِرُ قَدِ اتَّخَذَ مِنَ الطَّبِيْعَةِ وكَائِنَاتِهَا مَنْبَعَاً اسْتِلْهَامِيَّاً لَا يَنْضُبُ لاسْتِدْعَاءِ، أَوِ ابْتِكَارِ، الاسْتِعَارِاتِ والرُّمُوُزِ وَالأَخْيِلَةِ والصُّورِ الَّتِي يُصَيِّرُهَا كَلِمَاتٍ تُمَكِّنُهُ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْ ذَاتِهِ، ومِنْ تَصْويِرِ أَحْوَالِهِ، وقَولِ تَجَارِبِهِ، وبَثِّ رُؤَاهُ ونَجْوَاهُ؛ فَإِنَّ الْقِنَاعَ؛ أَيْ النَّبْتَ الْمُتَسَلِّقَ هُنَا، وَبِوصْفَه كَائِنَاً حَيَّاً يُوحِّدُ فِي ذَاتِهِ الْمُلْتَحَمَةِ حَيَوِيَّةَ الإِنْسَانِ والْكَائِنِ الطَّبِيْعِيِّ، فَيَتَحَرَّكُ، فِي اللَّحْظَةِ عَيْنِهَا، فِي كِلا الْعَالَمَيْنِ: الطَّبِيْعِيِّ وَالإِنْسَانيِّ اللَّذَيْنِ يُشَكِّلانِ مَجَالَهُ الْحَيَوِيَّ الْمفْتُوحَ، لَا يُعَبِّرُ عَنْ ذَاتِهِ الْمُلْتَحِمَةِ، وَلَا يَقُولُ تَجْرِبَتَهُ الْمُنْصَهِرةَ بِانْصِهَارِ تَجْرِبَتَيِّ قُطْبَيْهِ فِي تَجْرِبَةٍ وَاحِدَةٍ، باسْتِدْعَاءِ اسْتِعَارَاتٍ، وَرُمُوْزٍ وَأَخْيِلَةٍ، وَصُوَرٍ شِعْرِيَّةٍ، وكَلِمَاتٍ، مِنْ خَارِجِ جَسَـدِهِ، بَلْ إِنِّهُ لَيَتْركُ لِجَسَدِهِ حُرِّيةَ التَّعْبِيْرِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ خَلالِ حَرَكَتِهِ الْحُرَّةِ؛ ومَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ جَسَدَهُ، أَيْضَاً، هُوَ نَاتِجُ انْصِهَارِ جَسَدَيِّ قُطْبَيْهِ: الإِنْسَانِ، والنَّبْتِ، فِي جَسَدٍ ثَالِثٍ هُوَ جَسَدُهُ كَقِنَاعٍ شِعْرِيٍّ، فَلَا نَكُونُ، والْحَالةُ هِيَ هَذِهِ بِالضَّبْطِ، إِزَاءَ اسْتِعَارَةِ شَيْءٍ للتَّعْبِـيْر عَنْ شَـيْءٍ آخَرَ عَلَى سَبِيْل الْمَجَازِ!

وإِلى ذَلِكَ، فَإنَّنَا لَانَكُونُ، كَمُتَلَقِّيْنَ وقُرَّاء، إِزَاءَ إِسْـقَاطِ ذَاتٍ عَلَى مَوْضُوعٍ، أَوْ مَوْضُـوعٍ عَلَى ذَاتٍ. بَلْ إِزَاءَ كَيْنُـوْنَةٍ وَاحِدَةٍ مُلْتَحِمَـةٍ تَضُفُرُ ذَاتَيْنِ مُتَفَاعِلَتَيْنِ، فَاعِلَتَيْنِ ومُنْفَعِلَتَيِنِ، فِي إِهَابٍ انْصِهَارٍ مَزْجيٍّ يُجَلِّي حُضُورَ كَيْنُونَةٍ ثَالِثَةٍ لَا "النَّبْتُ"، بِحُضُوْرِهَا، مُجَرَّدَ مَثِيْلٍ "أَلِيْغُورِيٍّ Alegory"، أَوْ صُوْرَةٍ كِنَائِيَّةٍ لِلإِنْسَانِ مُسْتَعِيْراً صُورَتَهُ ومُعِيْراً إِيَّاهُ صَوْتَهُ، بَلْ يَكُونُ قِنَاعَاً يُوحِّدُ النَّبْتُ بِالإنْسَانِ، والإنْسَانَ بالنَّبْتِ، فِي إطَارِ مَا قَدْ يُوصَفُ، إِنْ اسْتَعَرْنَا مُصْطَلحَاً بَلاغِيَّاً تَقْرِيْبِيَّاً، بِاسْتِعَارةٍ كُلِّيةٍ مُوَشَّعَةٍ ومُلْتَحِمَةٍ تُحَقِّقُ حُضُورهُمَا الْحَيَويَّ فِي كَيْنُونَةٍ مُلْتَحِمَةٍ، مَوَّارةٍ بالتَّفَاعُلِ الْخَلَّاقِ بَيْنَ قُطْبَيِّ الْقِنَاعِ الْمُتَجَلِّي، فِي الْقَصِيدةِ، بِاعْتِبارهِ رَمْزاَ كُلِّيَّاً مَقْطُونَاً بالرَّامِزِ الَّذِي هُوَ إِيَّاه.

وَإِلى ذَلِكَ، وتَأْسِيْسَاً عَلَى نَتَائِجِ تَفَحُّصِ كَيْفِيَّاتِ اشْتِغَالِ دِيَالِكْتِيْكَيِّ التَّمَاهي والتَّنَاصِّ فِي مَجْرى صَيْرُوْرةِ تَجْرِبَةِ الرَّؤْيَا الدَّاخِلِيَّة، سَيَكُونُ بِمَقْدُوْرِنَا أَنْ نَلْحَظَ حُضُورَ، وفَاعِلِيَّةَ مَوَرَانِ، مُسْتَويَيِّ الْمُفَارَقَةِ الظَّاهِرَةِ والْمُحَايَثَةِ البَاطِنَةِ فِي جَسَدِ الْقِنَاعِ الْمُلْتَحِمِ: فِي بِنْيَتِهِ، وهُوِيَّتِه، ولُغَتِهِ، وصَوْتِهِ؛ فَلَا نَكُونُ، والحَالُ هِيَ هَذِهِ، إِزَاءَ "آلِيَّةِ حُلُولٍ"، بَلْ نَكُونُ فِي قَلْبِ "بُؤرةِ تَفَاعُلٍ، وَلَا نَكُونُ إِزاءَ "حَالةِ تَراكُبٍ"، أَوْ "تَوَاكُبٍ"، أَوْ "تَجَاوُرٍ"، أَوْ "تَصَاحُبٍ"، أَوْ حَتَّى حَالَةَ "تَمَرْئٍ مُتَنَاظِرٍ"، بَلْ فِي بَوتَقَةِ "انْصِهَارٍ مَزْجِيٍّ كُلِّيٍّ" تُلْغِي، بِمَشِيْئَة إِنْسَانٍ "يَحْيَا شِعْرِيَّا عَلَى اْلأَرْضِ"، وُجُوْدَ الْأَسْيِجَةِ والْحَواجِزِ والْحُدُودِ الَّتِى أَمْعَنَ التَّوَحُشُ الْبَشَريُّ الْمُنْتَهِكُ حُقُوقَ الإِنْسَانِ والطَّبِيْعَةِ، والْمُسَلَّحُ بِالْجَشَعِ الاسْتِحْوَاذِيِّ التَّمَلُّكِيِّ، وبِالْغُرُورِ الْعُنْصِريِّ، وبِالْعُلُومِ الشِّرِّيْرَة الْفَاتِكَةِ، وبالتِّقَانَةِ السَّوداءِ، فِي إقَامَتِهَا بَيْنَ عَالَمَيِّ الإِنْسَانِ والطَّبِيْعَةِ، وعَلَى نَحْوٍ يُلْغِي وُجُودَهُمَا مَعَاً، لِيُؤَسِّسَ عَلَى أَنْقَاضِهِمَا اسْتِمْرارِيَّةَ وُجُودِه!

إِنَّهَا، إِذَنْ، آلِيَاتُ اشْتِغَالٍ جَدَلِيِّ شِعْرِيٍّ تَفْتَحُ قُطْبَيِّ الْقِنَاعِ: الإنْسَانِ والطَّبِيْعَةِ، عَلَى تَفَاعُلٍ حَمِيْميَّ وخَلَّاقٍ، لِتَبْنَيَ عَالَمَاً ثَالِثَاً هُوَ الْعَالُمُ الْكُلِّيُّ الشَّامِلُ الَّذِي يَخُوْضُ فِيْهِ الْقِنَاعُ تَجَارِبَ حَيَاةٍ ومَوْتٍ، لِيَنْفَتِحَ، مَعْ انْتِهاءِ كُلِّ تَجْرِبَةٍ، عَلَى تَجْرِبَةٍ جَدِيْدةٍ تُنْبئُ بِهَا أَجْنِحَةُ الْعَصَافِيْـرِ الآخِذَةُ فِي التَّشَكُّلِ، بِإِرَادَةِ إِرَادَةِ الْوُجُوْدِ الْكُلِّيِّ، فِي "عُشِّ عَصَافِـيْرَ" بَنَاهُ "طَائِرُ حَيَاةٍ حُرَّةٍ" تَحْتَ إِبْطِ "إِنْسَانِ وُجُودْ".

قَصِيْدةٌ وامِضَةٌ، وقِنَاعٌ يَتَكَوَّنُ

فِي ضَوءِ مَا تَقدَّمَ مِنْ مُعْطَيَاتِ الْقِرَاءَةِ النَّصِّيَّةِ، والتَّحِلِيْلِ النَّقْدِيِّ، سَيَكُونُ لَنَا أَنَّ نُلاحِظَ، بِجَلاءٍ، أَنَّ التَّرْكِـيْزَ الشَّدِيدَ عَلَى اقْتِنَاصِ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ تَجْرِبَةٍ عَادِيَّةٍ وَمَأْلُوْفَةٍ، أَوْ الْتِقَاطِ حَالَةٍ مُفْرَدَةٍ مِنْ حَالَاتِ الْوُجُودِ الَّتِي تُوحِّدُ ذَاتَ "كَائِنٍ بَشَريٍّ" صَارَ إِنْسَانَاً، بِذَاتِ "كَائِنٍ طَبِيْعِيٍّ" تَأَنْسَنَ، قَدْ أَفْضَى إِلى الْتِصَاقِ مُؤَشِّرِ بِنَاءِ النَّصِّ وتَكْوِيْنِ الْقِنَاعِ بِالْمِحْوَرِ الَّذِي تُؤَسِّسِهُ حَرَكَة التَّفَاعُلِ بَيْنَ قُطْبَيِّ الْقِنَاعِ، مُبَاشَرَةً وبِلَا وَسِيْطٍ، إِذْ كُبِحَ هَذَا الْمَؤَشِّرُ عَنِ الْوَثْبِ صَوبَ أُصُولِ مَصْدَرِيَّة تَتَجَاوَزُ مَصْدَرَيِّ هَذَيْنِ الْقُطْبَيِنِ، وذَلِكَ لِلتَّركِـيْزِ عَلَى تَفَاعُلِهِمَا الْحَيَوِيِّ الآنِيِّ الْمُفْضِي إِلى إِنْتِاجِ الطَّاقَاتِ الثَّلاثِ:الدِّرَامِيَّةِ، والرَّمْزِيَّةِ، والمَوْضُوْعِيَّةِ؛ أَيْ الطَّاقَاتِ الشِّعْريةِ فِي كُلِّيَّتِهَا التَّفَاعُلِيَّةِ الكَامِنَةِ فِيْهِمَا فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ، والنَّاجِمَةِ عَنْ مَورانِ تَفَاعُلِهِمَا الْخَلَّاقِ: تَمَاهِيَاً وتَنَاصَّاً، فِي مُخَيَّلَةِ الشَّاعِرِ الَّذِي اخَتَارَهُمَا قُطْبَيْنِ لِقِنَاعِهِ الَّذِي شَرَعَ يَخُوضُ التَّجْرِبَةَ الْمَرْوِيَّةَ فِي هَذِهِ الْقَصِيْدةِ الْوَامِضَةِ والْمَحْمُولَةِ كَلِمَاتُهَا عَلَى أَثِيْـرِ صَوتِهِ، لِتَمُوْجَ مَدُلَوْلَاتُهَا فِي فَضَائِهَا الدَّلَاليِّ الرُّؤْيَاوِيِّ الْمَفُتَوحِ عَلَى تَأْوِيْلاتٍ تَتَعَدُّدُ بِتَعَدُّدِ أَحْوالِ الْقُرَّاءِ، وتَجَارِبِهِمْ، وخِـبْراتِهِمْ، وَمَعَارِفِهِمْ، وَأَزْمِنَةِ القِرَاءَاتِ، ومَنْظُوراتِ الْقِراءَةِ.

وبِطَبِيْعَةِ الْحَالِ، سَيَكُونُ لِمَوَرانِ التَّفَاعُلِ بَيْنَ قُطْبِيِّ الْقِنَاعِ فِي وِجْدانِ الشَّاعِرِ، وفي نَسيْجِ النَّصِّ، أَنْ يُؤسِّسَ مُمْكِنَاتِ بِنَاءِ شبكةِ رُمُوزٍ مُفْعَمَةٍ بِمَعَانٍ ودَلالاتٍ تَنْجُمُ عَنْ تَفَاعُلِ مُكَوِّنَاتِ التَّجْرِبَةِ الْمُلْتَحِمَةِ الَّتِي يَخُوضُهَا الْقِنَاعُ فِي الْقَصيْدةِ الَّتِي هُوَ رَمْزُهَا الْكُلِّيُّ، ومُبْتَكِرُ رُمُوزِهَا، ونَاسِجُ خُيُوطَ شَبَكَاتِهَا الدَّلالِيَةِ، وبَانِي بُنَاهَا، وصَائِغُهَا، ونَاطِقُهَا الْحَامِلُ صَوتَهَا عَلَى صَوْتِهِ النَّابِضِ بَنَبِراتِهَا، فِي كُلِّ حَالٍ وآنٍ.

وَمَا مِنْ شَكٍّ، فِي أَنَّ لِنُهُوضِ تَجْرِبَةِ "الرُّؤْيَا الدَّاخِلِيَّةِ" عَلَى سَعْيٍّ شَاعِرِيٍّ لِاكْتِشَافِ خَصَائِصِ "الإنْسَانِ" وجَمَالِيَّاتِ لُغَتِهِ الْكَامِنَةِ فِي "الكَائِنِ الطَّبِيْعِيّ: فِي الأحِيَاءِ، والأَشْياءِ، والْكَائِنَاتِ، وشَتَّى الموجُوداتِ، وَلَا سِيَّمَا النَّبَاتِيَّة مِنْهُا هُنَا، وَعَلَى اكْتِشَافِ خَصَائِصَ "الكَائِنِ الطَّبِيْعِيِّ" وجَمَالِيَّاتِ لغته الكامِنَةِ فِي وِجْدانِ الإنْسَانِ، إِنَّمَا هُوَ الَّذِي مَكَّنَ النَّصَّ مِنْ أَنْ يَكُوْنَ تَجْسِيْداً إِبْدَاعِيَّاً حَيَوِيَّاً لِتَجْرِبَةِ الْقِنَاعِ، بِقَدْرِ مَا مَكَّنَ الْقِنَاعَ مِنْ أَنْ يَقُولَ تَجْربَتَهُ الَّتِي تَقُولُهَا صَيْرُرَوةُ النَّصُّ؛ إِذْ تَمَّ تَوْظِيْفُ الحَسَاسِيَّةِ الإِنْسَانِيَّةِ، والْفِكْرِ الْحِسِّيِّ والتَّصَوُّرِيِّ، والتَّفْكِيْـرِ الشِّعْريِّ التَّأَمُّلِيِّ، وحَركِيَّةِ النَّبَاتِ، وجَدَلِيَّةِ حَيَاتِهِ ومَوْتِهِ، وتَشَكُّلاتِهِ الْحِسَّيةِ المُتَنَوْعَةِ، وتَمَّ صَهْرُهَا جَمِيْعاً فِي بَوتَقِةِ لُغَةٍ واحِدَةٍ تَسْتَوعِبُ، بِسَبَبِ شَاعِرِيَّتِهَا الْعَالِيَةِ وانْفِتَاحِ مُخَيِّلَتِهَا، كَوامِنَ التَّجْرِبَةِ، فَتُجَسِّدُهَا مُقْتَنِصَةً مَا هُوَ خَفيٌّ وغَامِضٌ، أوْ مَحْجُوبٌ، مِنِ دَاخِلِ مَا هُوَ عَادِيٌّ ومأْلُوفٌ، لِتُجَلِّيَ حُضُوْرَهُ الإِدْهَاشِيَّ عَبْـرَ إِطْلَاقِ آجْنِحَةِ الْخَيَالِ، وتَفْجِيْـرِ يَنَابِيْعِ الرُّؤْى بِإِعْمَالِ التَّأَمُّلِ الشِّعْرِيِّ فِي كُلِّ مَا هُوَ حِسِّيٌ مَلْمُوسٌ، وعَادِيٌّ مَأْلُوْفٌ.

وَلِأَنَّ الرُّؤْيَا الَّتـِي تَبُثُّهَا الْقَصِيْدَة هِيَ، فِي الْبَدْءِ والْمُنْتَهَى، رُؤْيَا الْقِنَاعِ؛ وَلِأَنَّ الْقِنَاعَ لَا يَتَأَمَّلُ مَوْضُوْعَاً خَارِجَاً عَنْهُ، وَلَا يَتَأَمَّلُ شَيْئَاً غَيْـرَ ذَاتِهِ، أَوْ شَيْئَاً مَسْكُونَاً بِأَسْئِلَةٍ غَيْـرَ أَسْئِلةِ ذَاتِهِ الْمُتَلَهِّفَةِ لإِدْرَاكِ أَجْوِبَةٍ مُقْنِعَةٍ لِلْعَقِلِ الشَّاعِرِيِّ المُتبَصِّرِ عَنْهَا، وَلِأَنَّ الْقِنَاعَ لَا يَنْطِقُ، وَلَا يَخُوْضُ، فِي قَصِيْدَتِهِ إِلاَّ تَجْرِبَتَهُ؛ فَإِنَّنَا لَنَحُسُّ، فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ الْقَصِيْدةِ - التَّجْرِبَةِ، أَنَّ الإنْسَانَ والنَّبْتَ يَتَأَمَّلانِ بَعْضَهُمَا بَعْضَاً، كَذَاتَيْنِ مُتَفَاعِلَتَيْنِ، فَاعِلَتَيْنِ ومُنْفَعِلَتَيْنِ، ومُنْخَرِطَتَيْنِ فِي صَيْرُوْرَةِ الْتِحَامٍ سَيُجَسِّدُهُ الْقِناعُ، وأَنَّ كُلَّاً مِنْهُمَا يُعَبِّرُ، بِلُغَتِهِ، وبِإشَارَاتِ جَسَدهِ، وإيْمَاءَاتِهِ، عَنْ رُؤْيَتِهِ الْخَاصَّةِ لِـ"أَنَاهُ المُغَايَرِ - لِآخَرِهِ"، بِيْنَمَا الْقِنَاعُ، إِذْ يُعبِّـرُ عَنْ ذَاتِهِ، فَإِنّمَا هُوَ يُعَبِّـر عَنْهُمَا وَقَدْ صَارا ذَاتَاً واحِدِةً، وَإِذْ يَقُوْلُ تَجْرِبَتِهِ فَإِنَّهُ يَقُوْلُ تَجْرِبَتَهُمَا الْمُلْتَحِمَةِ، وَإِذْ يَبُثُّ رُؤْيَتَهُ لِنَفْسِهِ، ولِلْعَالَمِ، فَإِنَّهُ لَيَبُثُّهَا مَسْكُونةً بِرؤْيَتَيْهِمَا الْمتَوَاشِجَتينِ فِي أَصْلَابِهَا.

وهَذَا كُلُّهُ هُوَ مَا سَنْدْرِكُهُ عَلَى نَحْوٍ تَامٍ، ومُكْتَمِلٍ، لَحْظَةَ اكْتِمَالِ التَّجْرِبَةِ الَّتِي يَكْتَمِلُ تَكَوُّنُ الْقِنَاعِ مَعْ تَوقُّفِ صَيْرُوْرَتِهَا؛ أَيْ مَعِ اكْتِمَالِ الْقَصِيْدَةِ الَّتِي سَتنْفَتِحُ شَبَكَةُ دَلَالَاتِهَا الْكُلِّيَةِ عَلَى تَجْلِيَةِ مُكَوِّنَاتِ هُوِيَّتِهِ المُتَوَاشِـجَةِ مَعْ رُؤْيَتِهِ لِذَاتِهِ الْمُلْتَحِمَةِ، ولِلْعَالَمِ، ولِلْحَيَاةِ والْوُجُودِ، والَّتِي يَسْتَحِيْلُ تَعَرُّفُهَا، عَلَى نَحْوٍ لَا يُجَانِبُ الصَّوابَ، بِمَعْزلٍ عَنِ ضَفْرِ خُلاصَاتِ قِراءَاتٍ تَأْوِيْلِيَّةٍ مُتَعَدِّدَةِ الْمَدَاخِلِ، والْمَنْظُوْرَاتِ، والْمُسْتَوَيَاتِ، والأَبْعَادِ، لِعَلاقَاتِ تِلْكَ الشَّبَكَةِ الدَّلالِيَّةِ الَّتـِي تَفْردُ خُيُوطَهَا الْمُتَشَابِكَةِ النَّسِيْجِ فِي فَضاءِ الْقَصِيْدَةِ، دَاعِيَةً إِيَّانَا، كَقُرَّاءَ ومُتَلَقِّيْنَ ونُقَادٍ، أَنْ نَقْرأَ حَرَكَتَهَا الدَّلَالِيَّةَ بِأَنَاةٍ وَإِمْعَانٍ، وَأَنْ نَلْتَقِطَ مَدْلُوْلَاتِ دَوَالِهَا الْمُتَعَالِقَةِ، لِنَتَمَكَّنَ مِنْ إِدْرَاكِ مَغْزَاهَا الْوُجُوْدِيِّ الْإنْسَانيِّ الْعَمِيْقِ.

وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَوْلَا اشْتِغَالُ آَلِيَّةِ "الانْصِهَارِ الْمَزْجيِّ الْكُلِّيِّ" الَّتِي أَفْضَتْ إِلى التِحَامِ "أَنَا الشَّاعِر" بـ"أَنَا النَّبْتِ الْمُتسَلِّقِ" فِي بِنْيَةِ الْقِناعِ الِمُتَكَوِّن عَبْـرَ صَيْرُوْرَة التَّجْرِبَةِ الَّتِي يَخُوضُهَا ويَرْوِيْهَا، بِلُغَتِهِ وصَوْتِه، فِي الْقَصِيْدَةِ، لمَا أَمْكَنِ للنَّبْتِ الْمُتَسَلِّقِ أَنْ يَتَجَاوُزَ دَائِرةَ الْمَثِيْلِ الْكِنَائِيِّ لِيَدْخُلَ دَائِرَةَ الْقِنَاعِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْقِنَاعِ الشِّعْريِّ أَنْ يتَحَقَّقَ: كَيْنُونَةً حَيَوِيَّةً، ورَمْزاً كُلِّيَاً، ورَامِزَاً، بِمُجَردِ أَنْ يَنْطِقَ الْقَصِيْدَةَ صَوتٌ مُغَايِرٌ لِصَوْتِ الشَّاعِرِ، أَوْ صَوتٌ مَنْسُوبٌ إِلى كَائِنٍ طَبِيْعِيٍّ لا يَنْطِقُ غَيْـر صَوتِه، إِذْ لَا بُدَّ لِأَعِماقِ صَوْتِ الْقِنَاعِ أَنْ تَظَلَّ مَأْهُولَةً بِنَاتِجِ تَفَاعُلِ صَوْتِيِّ كِلا القُطْبَيْنِ اللَّذِيْنِ يُشَكِّلانِهِ كَقِنَاعٍ مُحْكَمِ التَّكْوِينِ، ولا بُدَّ لِصَوْتِهِ الْمَسمُوعِ أَنْ يَظَلَّ مَسْكُونَاً بِصَوْتَينِ تَتَمَازَجُ نبراتُهُمَا وَقَدْ تَحَوَّلَتْ وانْصَهَرَتْ دَاخِلَ بَوْتَقَةِ تَفَاعُلِهُمَا الَّتِي هِيَ بِنْيَتُهُ ذَاتُهَا، ولَا بُدَّ أَنْ يُفْضِي تَحْلِيْلُ بِنْيَةِ الصَّوتِ هَذِهِ إِلى إِدْراكِ كُمُونِ صَوْتَيِّ "أَنَا الشَّاعِر، و"أَنَا أَنَاهُ المُغَايِرِ"، فِي أَعْمَاقِهَا البَعِيْدةِ، فَلا يَصْعَدُ أيٌّ مِنْهُمَا إلى السَّطْحِ لِيُغَيِّبَ صَوْتَ الْقَناعِ، أَوْ لِيُمَزِّقَ نَبْرَهُ، وَيَشْرَخَ لُحْمَتَهْ!

ولأَنَّ لَحْظَةَ مِيْلادِ نَاطِقِ الْقَصِيْدَةِ، كَقِنَاعٍ شِعْرِيٍّ، هِيَ ذَاتُهَا لَحْظَةُ مِيْلَادِهِ، كَكَيْنُونَةٍ مُبْتَدَعَةٍ، وكَرَمْزٍ ورامِزٍ،؛ فَإِنَّ آلِيَّةَ الانْصِهَار الْمَزْجِيِّ الْكُلِّيِّ الَّتِي كَفَلَتْ للنَّبْتِ المُتَسَلِّقِ أَنْ يتَحَقَّقَ كَقِنَاعٍ مُكَوَّنٍ بِإحْكامٍ، هِيَ الَّتِي كَفَلَتْ تَحَقُّقَهُ، فِي اللَّحْظَةِ عَيْنِهَا، كَرَمْزٍ مَقْطُونٍ بِرامِزٍ يَتَحَرَّكُ فِي نِطَاقِ شَبَكَةٍ مِنَ الرُّمُوزِ الَّتِي تَنْبُعُ مِنْ مُكَوِّنَاتِ تَجْرِبَتِهِ، وهُوِيَّتِهِ، وتُسِهِمُ فِي تَشْكِيْلِهِما، بِحَيْثُ تَصْعُبُ، فِي حَالِ إِحْكامِ بِنَاءِ النَّصِّ وتَكْوِيْنِ الْقِناع، مُلاحَظَةُ وُجُودِ تَطَابِقٍ بَيْنَ الْقِناعِ والشَّاعِرِ، أَوْ بَيْنَهُ وبَيْنَ "الأَنَا الْمُغَايِرِ" حَتَّى وإنْ كَانَ مُسَمَّيَاً بِاسْمِهِ.

رَمْزٌ كُلِّيٌّ، وصَوْتُ كَائِنٍ وُجُودِيٍّ مُطْلَقْ

لِغِيَابِ التَّطَابُقِ بَيْنَ الْقِناعِ وأيٍّ مِنْ قُطْبَيهِ، أَنْ يَحُولَ دُونَ اعْتِبَارِهِ مَحْضَ مُوَازٍ أُمْثُولِيٍّ لِفِكْرةٍ مُحَدَّدةٍ، أَوْ لِمَدْلُول مُتَعَيَّنٍ، يَقْبَعَانِ خَارِجَهُ فِيْمَا هُوَ، كَدَالٍ كِنَائِيٍّ بَلَاغِيٍّ، يُؤَشِّرُ علَيْهِمَا مُحِيْلاً إِلَيْهُمَا نَفْسَهُ والْفِكرةَ الَّتي يُجَسِّدُهَا، وذَلِكَ لِأَنَّ مَدْلُوْلَاتِهِ الْنَّاجِمَةَ عَن إِحْسَانِ قِرَاءَتِهِ وإجادةِ تَأويله، كَمَا مَغْزاهُ الكُلِّيِّ، إِنَّمَا يَكْمُنَانِ فِيْ كَيْنُونَتِهِ، ويَتَجَلَّيَانِ، إِشَارِيَّاً، عَبْر مَا تَبُثُّهُ صَيْرُوْرةُ تَجْربَتِهِ الْمَحْمُولَةِ عَلَى كَلِمَاتٍ وَصُورٍ شِعْرِيَّةٍ مُفْعَمَةٍ بِالدَّلالاتٍ والعَلامَاتٍ وتَدَفُّقَاتِ مَعَانِي الرُّمُوزِ وتَأًوِيْلاتِها.

وإِلى ذَلِكَ، فَإِنَّ الصَّوتَ الَّذِي يَصِلُنَا مِنْ أَعْمَاقِ الْقِنَاعِ النَّاطِقِ هَذِهِ الْقَصِيْدَةِ: "نَبْتٌ مُتَسَلِّقٌ"، إِنَّمَا هُوَ، كَمَا قَدْ بَيَّنَ التَّحْلِيْلُ النَّصِّيُّ، صَوْتُ كَائِنٍ جَوْهَرِيٍّ مُطْلَقٍ، كَائِنٍ يُوَحِّدِ فِي ذَاتِهِ الْمُلْتَحِمَةِ، وفِي هُوِيَّتِهِ الْجَدِيْدةِ الْمُتَشَكِّلَةِ عَبْـرَ صَيْرورةِ تَجْرِبَتِهِ، خَصَائِصَ كَائِنَيْنِ حَيَّيْنِ هُمَا الْكَائنُ الْبَشَريُّ (الإِنْسَانُ الشَّاعِرُ)؛ والْكَائِنُ الطَّبِيْعِيُّ الْمُؤَنْسَنُ (النَّبْتُ الْمُتَسَلِّقُ).

إِنَّهُ، إِذَنْ، كَائِنٌ جَدِيْدٌ لَمْ يَسْبِقْ لَنَا أَنْ تَعَرَّفْنَاهُ، أَوْ صَادَفَنَا وُجُوْدُهُ، مِنْ قَبْلُ؛ إِنَّهُ كَائِنٌ تَخَلَّقَ فِي رَحْمِ "تَجْرِبَةِ رُؤْيَا دَاخِلِيَّةٍ" مُحَفَّزَةٍ بِـ"تَمَاهٍ دِيَالِكْتِيْكِيٍّ خَلَّاقٍ"، احْتَضَنَ الشَّاعِرَ الرُّؤْيَاوِيَّ الَّذِي قَالَ: "كُلُّ الْوُجُوهِ تَتَحَوَّلُ إِلى وجُوْهٍ مُقَدَّسَةٍ، والشَّجَرَةُ تُحَدِّثُنِي"(5)، مَعْ هَذِهِ الشَّجَرةِ وقَدِ اتَّخَذتْ، فِي هَذِهِ الْقَصِيْدةِ، هَيْئَةَ "نَبْتٍ مُتَسَلِّقٍ"؛ لِيَصُوْغَ وَجْهَاً جَمِيْلاً لِكَائِنٍ إِبْدَاعِيٍّ تَمْتَصُّ هُوِيَّتِهُ، وتَبُثُّ، جَوْهَرَ الْحَيَاةِ فِي عَالَمَيِّ الإِنْسَانِ والطَّبِيْعَةِ؛ فَيَكُونُ هُوَ الطَّبِيْعَةُ الْحَيَّةُ وَقَدِ امْتَصَّتْ جَوْهَرَ الإِنْسَانِ، وخُلاصَةَ خُلاصَاتِ أَسْئِلَتِهِ الْوُجُودِيَّةِ المُتَفَاعِلَةِ مَعْ أَسْئِلَتِهَا، وجعلتهُمَا مُحْتَوىً جَوْهَرِيَّاً لَهَا، ويَكُونُ هُوَ الإِنْسَانُ وَقَدِ امْتَصَّ جَوْهَرَ الطَّبِيْعَةِ وحَقِيْقَةَ كَونِهَا مَجَالَهُ الْحَيَوِيَّ الْوَحِيْدَ، وجَعَلَهُما مُحْتَوىً جَوْهَرِيَّاً لَهُ؛ لِيَكُوْنَ، مَعْ هَذَا الانْصِهَارِ الْمَزْجِيِّ الْكُلِّيِّ، هُوَ الْخَطُّ الْمُمتَدُّ مِنْ آدَمَ إِلى آخِر إِنْسَانٍ سَيُولَدُ، وَهُوَ الجِسْرُ الَّذِي يَصِلُ إِنْسَانَ هَذَا الْعَصْرِ الْعِلْمِيِّ التِّقَانِيِّ، اللاَّطَبِيْعِيِّ، بِأَوَّلِ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ وُجُوْدِهِ فِي مَجَالِ وُجُوْدِهِ الْحَيَويِّ الَّذِي هُوَ الطَّبِيْعَةُ؛ أَيْ بِلَحْظَةِ الْوِحْدَةِ الْمُلْتَحِمَةِ بَيْنَهُمَا؛ لَحْظَةِ الرُّوْحِ الْكُلِّيَةِ الَّتـِي تَجَلَّتْ فِي الْكائِنِ الْبَشَريِّ والْحَيَوانَاتِ والنَّبَاتَاتِ والْجَمَادَاتِ، وفي شَتَّى الأَشْيَاءِ والظَّواهِرِ وَالْكَائِنَاتِ والْمَوجُوْدَاتِ الَّتِي تُجَلّي وُجُودَ الْوجُودِ فِي "وُجُوهٍ مُقَدَّسَةٍ" يُضِيْئُهَا احْتِجَابُهُ خَلْفَ أَنْوارِهَا النَّابِعَةِ مِنْ سُطُوعِ أَنْوارهِ، فِيْمَا هِيَ تُحَدِّثُ الشَّاعِرِ الَّذِي يُصْغِي إِلى صَوتِ صَمْتِهَا، فَيُحَدِّثُهَا، فِيْمَا هُوَ يُحَدِّثُ، إِذْ يُحَدِّثُهَا، نَفْسَهُ، والنَّاسَ!

هوامش وإشارات:

سعدي يوسف: ديوان سعدي يوسف، المجلد الثَّاني، دار العودة، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1988، ص 374.

سعدي يوسف، الْمَصْدَر السَّابق: ص 374.

فؤاد رفقة: الشِّعْر والموت، دار النَّهار للنشر، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1973، ص 23، 24.

سعدي يوسف: الْمَصْدَر السَّابق، ص 375.

سعدي يوسف: ديوان سعدي يوسف، المجلد الأول، مقدمة الديوان: سعدي يوسف، الشَّاعِر الَّذِي رأى، بقلم: طراد الكبيسي، ص 28.

مُلاحَظَة: النَّصُّ النَّقديُّ المنشورِ هُنَا مُضَمَّنٌ في كتاب: "أُصولُ القناع الشِّعري (1): الأصْل الطَّبيعي" الَّذي سيَصْدُرُ قريباً عن دار "خُطُوط وظلال".