خلال شهري أيلول وتشرين الأول عام 1918، وأثناء وجودها في سجن برسلاو، كتبت روزا لوكسمبورغ كتيبا عن الثورة الروسية. لم تستعمل روزا فقط الصحف الألمانية كمصدر لمعلوماتها إنما اعتمدت أيضا على الصحف الروسية التي كان رفاقها يهربونها لها إلى داخل زنزانتها. لكنها لم تنته من كتابته، فعند بداية الثورة الألمانية كانت روزا خارج أسوار السجن.
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتيب عام 1922، بعد وفاة روزا لوكسمبورغ، على يد رفيقها بول ليفي. هذه الطبعة لم تكن كاملة، وعام 1928 صدرت طبعة جديدة على اعتبار أنها مخطوطة تم العثور عليها حديثا.
كانت روزا لوكسمبورغ من أكثر المتحمسين لثورة أكتوبر وللحزب البلشفي، وأوضحت ذلك في كتيبها، عندما كتبت:
“كل ما يمكن لحزب أن يقدمه من شجاعة وبعد نظر ثوري واتساق في لحظة تاريخية مفصلية، لينين وتروتسكي وبقية الرفاق استطاعوا أن يقدموه على أحسن وجه. كل الشرف والقدرة الثورية التي تفتقر إليهما الاشتراكية الديمقراطية الغربية تمثلا في البلاشفة. انتفاضة أكتوبر لم تكن الخلاص الفعلي للثورة الروسية، لكنها كانت أيضا الخلاص للاشتراكية الأممية” (1).
كما كتبت:
“ليس مهما هذا السؤال التكتيكي الثانوي أو ذاك، ولكن قدرة البروليتاريا على الفعل، وقوة العمل، وإرادة الاشتراكية على القيام بشيء مماثل. من هنا، مضى لينين وتروتسكي ورفاقهما قدماً كمثال للبروليتاريا في العالم، وكانوا الوحيدين الذين استطاعوا الهتاف مع أولريخ فون هوتن: “لقد تجرأنا!”.
هذا الأمر أساسي ودائم في السياسة البلشفية. في هذا المعنى فقد قدموا خدمة تاريخية خالدة لسيرهم على رأس البروليتاريا الدولية واستيلائهم على السلطة السياسية والعمل على حل المشاكل في سبيل تحقيق الاشتراكية، ولأنهم فرضوا حلا نموذجيا يحتذى به في كل العالم للنزاع بين رأس المال والعمال… بهذا المعنى، إن المستقبل في كل مكان يرتبط بـ”البلشفية”” (2).
على الرغم من إشادتها الكبيرة بثورة أكتوبر، اعتبرت روزا لوكسمبورغ أن القبول بكل ما فعله البلاشفة دون تمحيص لن يكون في خدمة الحركة العمالية. الأسلوب الماركسي في التحليل، وفقا لها، كان بعدم قبول أي فكرة دون إخضاعها للنقد الثوري.
وكان واضحا أن ظروف عزلة الثورة الروسية سببتها خيانة الاشتراكية الديمقراطية الغربية الأمر الذي أدى إلى تشوهات في تطورها. من دون الدعم الثوري الأممي، “لا مجال إلا أن تصبح أكبر الطاقات وأكبر التضحيات المبذولة من البروليتاريا داخل بلد واحد إلى تشابك لمتاهة من التناقضات والأخطاء” (3).
بعد أن كشفت عن بعض تلك التناقضات والأخطاء، أبرزت بوضوح عن أسبابها، قائلة:
“كل ما يحدث في روسيا هو أمر مفهوم ويمثل سلسلة حتمية من الأسباب والنتائج، نقطة البداية والنهاية هي: فشل البروليتاريا الألمانية واحتلال ألمانيا الإمبريالية لروسيا. ذلك يعني أنك ستطلب من لينين ورفاقه ما يفوق قدرتهم في مثل هذه الظروف حيث توجب عليهم اعتماد أفضل أشكال الديمقراطية، ديكتاتورية العمال، وتحقيق الاقتصاد الاشتراكي المزدهر. بموقفهم الثوري المصمم، وقوتهم المثالية على العمل وولائهم غير القابل للكسر للاشتراكية الأممية، ساهموا بما تسمح لهم قدراتهم بذلك في ظل ظروف صعبة إلى حد بعيد” (4).
في وقت تحوّل العوامل الموضوعية الثورات إلى خطأ فادح، أما العوامل الذاتية الكامنة في القيادة فتجعل هذه الأخطاء أمرا خطيرا. إنها تحتوي على مخاطر خاصة عندما تتحول إلى فضائل: “لا يبدأ الخطر فقط عندما يحولون الفضائل إلى ضرورة ويجمدون مجمل النظام النظري للتكتيكات التي فرضت عليهم في مثل هذه الظروف الصعبة، ويريدون تقديم ذلك كنموذج للتكتيكات الاشتراكية للاشتراكية الأممية” (5).
ولكن كان ذلك فكرة خطيرة على وجه التحديد، عندما استغلتها الأحزاب الستالينية (وكذلك من قبل بعض الذين يعتبرون أنفسهم معادين للستالينية).
انتقدت روزا لوكسمبورغ البلاشفة في السلطة لما اعتبرته سياستهم الخاطئة فيما يتعلق بما يلي:
مسألة الأراضي.
مسألة القوميات.
الجمعية التأسيسية.
الحقوق الديمقراطية للعمال.
سنتناول كل مسألة على حدة.
السياسة الاشتراكية للأراضي، قالت روزا لوكسمبورغ، يجب أن تهدف إلى تشجيع تحقيق اشتراكية الانتاج الزراعي:
“… وحده التأميم الواسع للأراضي، والوسائل التقنية الأكثر تقدما وتركيزا للانتاج الزراعي، يمكن أن يكون نقطة الانطلاق لتحقيق الطريقة الاشتراكية للانتاج. بالطبع، ليس من الضروري تجريد صغار الفلاحين من أراضيهم، ويمكننا بكل ثقة تركهم حتى يكتسبوا طوعيا مزايا متقدمة من الانتاج الاجتماعي وإقناعهم بمزايا الاتحاد داخل التعاونيات وثم إدراجهم في الاقتصاد الاشتراكي بشكل عام. كل الإصلاحات الاقتصادية الاشتراكية المتعلقة بالأراضي يجب أن تبدأ بشكل واضح مع الملكيات الكبيرة والمتوسطة. هنا لا بد من تحويل كل حق بالملكية لصالح الأمة، أو الدولة، التي، مع الحكومة الاشتراكية، تهدف إلى الأمر نفسه لأنها وحدها تتيح تنظيم الانتاج الزراعي المترابط مع متطلبات الانتاج الاجتماعي بشكل واسع” (6).
ومع ذلك، كانت السياسة البلشفية، على العكس من ذلك: “كان الشعار الذي أطلقه البلاشفة يعتمد على ضبط وتوزيع الأراضي بواسطة الفلاحين… ليس فقط… تدبيرا اشتراكيا، بل حتى يقطع الطريق على مثل هذه التدابير، لأنه يراكم العقبات أمام التحول الاشتراكي للعلاقات الزراعية”(7).
روزا لوكسمبورغ كانت على حق، كما أثبتت الأيام، وكانت كلامها نبويا، عندما أشارت إلى أن توزيع الأراضي على الفلاحين من شأنه تعزيز الملكية الخاصة في الريف، وبالتالي سيزيد مجموعة جديدة من الصعوبات في مجال تحقيق اشتراكية القطاع الزراعي في المستقبل:
“في السابق لم يكن هناك سوى مجموعة صغيرة من النبلاء والرأسماليين المالكين للأراضي وأقلية صغيرة من البرجوازيين الأثرياء الذين يعارضون الإصلاح الاشتراكي للأراضي. ومصادرة الأراضي على يد حركة جماهيرية ثورية كان مجرد لعبة أطفال. ولكن اليوم، بعد أن تحقق “الضبط” [المصادرة]، فإن معارضة كل محاولة لتحقيق اشتراكية الانتاج الزراعي ستكون كبيرة، فالفئة الحديثة والمطورة من الفلاحين المالكين للأراضي ستدافع عن بأسنانها وأظافرها ضد كل هجمة اشتراكية” (8).
وأهمية هذه الحقيقة- عزل الطبقة العاملة الصغيرة في بحر من العداء، من الفلاحين الرأسماليين الصغار، أنها أُثبِتت بصعود ستالين!
ومع ذلك، لم يكن أمام لينين وتروتسكي أي بديل. صحيح أن برنامج الحزب البلشفي ينص على تأميم كل الأراضي. وأن لينين جادل بقوة ضد الاشتراكيين الثوريين الذين كانوا يؤيدون فكرة توزيع الأراضي على الفلاحين. مع ذلك، عام 1917، عندما تتطلبت مسألة الأراضي حلا فوريا، تبنى لينين على الفور شعار الاشتراكيين الثوريين الأكثر إدانة، أو حتى الحركة الفلاحية العفوية. وإذا لم يفعل البلاشفة ذلك، كانت ستقع الطبقة العاملة المُدنية التي يقودها في عزلة عن الريف، وستكون الثورة قد ولدت ميتة، أو على الأكثر قصيرة الأجل (كما كان الحال مع الثورة المجرية عام 1919).
أي استراتيجية أو تكتيك بلشفي يمكن التغلب على التناقض الأساسي في الثورة الروسية، خاصة أنه يكمن ضمن طبقتين متناقضتين، الطبقة العاملة والفلاحين، الأولى جماعية، والثانية فردية. في بداية العام 1906 كان تروتسكي قد افترض أن احتمال الثورة المقبلة، حيث ستقود الطبقة العاملة الفلاحين، ستنهي تعارض الأخيرين المرير مع العمال إلا أن الثورة يمكن أن تنقذ قوة العمال من الإطاحة:
“البروليتاريا الروسية… ستواجه عداء منظما ناتجا عن ردة فعل الناس وجهوزية البروليتاريا لتقديم المساعدة لتنظيم الثورة. عندما تترك لوحدها، فمن الأكيد أنه سيتم سحق الطبقة العاملة في روسيا على يد الثورة المضادة عندما يوجه الفلاحون هجومهم إلى الطبقة العاملة. لن يبقى شيئا للعمال، وسينعكس ذلك على مصير الحكم السياسي، وبالتالي مصير الثورة الروسية بمجملها وامتدادا إلى الثورة الاشتراكية في أوروبا” (9).
تحليل روزا لوكسمبورغ لسياسة البلاشفة المتعلقة بالأراضي يظهر حقيقة الوضع في الثورة الروسية، ويشير إلى المخاطر المتكررة الكامنة في السياسات البلشفية. ولكن الوضع لم يسمح للبلاشفة اتخاذ أي سياسة ثورية للأراضي إلى جانب تلك التي نفّذوها: الخضوع للإرادة الديمقراطية والعفوية للفلاحين لتوزيع الأراضي المصادرة من مالكيها.
لم تكن روزا لوكسمبورغ أقل انتقادا للسياسة البلشفية المتعلقة بمسألة القوميات، فقد حذرت من الأخطار التي تهدد الثورة:
البلاشفة مسؤولون جزئيا عن أن الهزيمة العسكرية تحولت إلى انهيار وانهزام روسيا. بالإضافة إلى ذلك، البلاشفة أنفسهم، وإلى حد كبير، زادوا من الصعوبات الموضوعية لهذا الوضع من خلال وضعهم لشعارهم موضع التنفيذ: ما يسمى بحق الشعوب بتقرير مصيرها- أو الذي كان يشير ضمنيا- إلى تفكك روسيا” (10).
وبدلا من اعتماد شعار حق الشعوب بتقرير مصيرها اقترحت روزا سياسة “العمل على تحقيق وحدة القوى الثورية على امتداد الإمبراطورية… والدفاع بالأسنان والأظافر عن وحدة أراضي الأمبراطورية الروسية كمجال للثورة ومعارضة كل أشكال الانفصال، والتضامن البروليتاري غير الانفصالي في جميع الأراضي ضمن نطاق الثورة الروسية بوصفها القيادة السياسية العليا” (11).
كم كانت روزا لوكسمبورغ على خطأ في هذه المسألة!
لو عمل البلاشفة بنصيحتها بشأن هذه المسألة لكانت قد تمكنت الطبقات الحاكمة في الدول المضطهدة سابقا أكثر فأكثر من حشد الجماهير الشعبية إلى جانبها وزيادة عزلة السلطة السوفياتية. من خلال اعتماد حق الشعوب في تحقيق مصيرها داخل الدول المضطهدة سابقا يمكن كسب الوحدة الثورية لجميع الشعوب. وكان ذلك السبيل الذي استطاع البلاشفة من جمع التفاف على الأقل جزء من الأراضي التي فقدت في الحرب العالمية وبداية الحرب الأهلية- في أوكرانيا، على سبيل المثال. وبسبب الانحراف عن سياسة حق الشعوب في تقرير مصيرها صُدَّ الجيش الأحمر عند أبواب وارسو، وثم جلبوا لأنفسهم كراهية الجورجيين عندما احتلوا جورجيا وأغرقوها بنظام بيروقراطي معاد للديمقراطية (12).
في المسألة القومية، وكذلك مسألة الأراضي، أخطأت روزا لوكسمبورغ لأنها انطلقت من مبدأ القرار الشعبي، وهو مبدأ مركزي لأفكارها وأعمالها بشكل عام.
واحدة من الانتقادات التي وجهتها روزا لوكسمبورغ إلى البلاشفة كانت الجمعية التأسيسية. فكتبت:
“صحيح أن لينين ورفاقه كانوا يدعون بشدة إلى عقد الجمعية التأسيسية حتى حين انتصارهم في أكتوبر، وهذه المسألة كانت إحدى النقاط الأكثر عنفا في هجمات البلاشفة ضد حكومة كيرنسكي.
في الواقع، يقول تروتسكي في كتيبه المثير للاهتمام، من أكتوبر إلى بريست- ليتوفسك، أن ثورة أكتوبر تمثل “خلاص الجمعية التأسيسية” وكذلك للثورة بشكل عام. “وعندما قلنا”، يتابع، “ان الوصول إلى الجمعية التأسيسية لا يتم من خلال مجلس زيريتيلي ولكن فقط من خلال استيلاء السوفيتات على السلطة، كنا على حق تماما”.
بعد الدعوة إلى الجمعية التأسيسية، حلها القادة أنفسهم في 6 كانون الثاني عام 1918.
ما اقترحته روزا لوكسمبورغ في كتيبها كان الاعتماد على سلطة السوفيات إلى جانب الجمعية التأسيسية. ولكن الحياة نفسها أظهرت بوضوح أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى ازدواجية السلطة، التي من شأنها تهديد جهاز سلطة العمال، السوفيتات. برر قادة البلاشفة حلّ الجمعية التأسيسية في البداية على أساس أن الانتخابات قد أجريت بموجب قانون عفا عليه الزمن الذي أعطى حجما أكبر لأقلية غنية من الفلاحين الذين رفضوا، في الجلسة الأولى والوحيدة من الجمعية، إقرار القوانين المتعلقة بالأراضي، والسلام وبنقل السلطة إلى السوفيتات. روزا لوكسمبورغ ردت على هذا بالقول ان البلاشفة كان يمكنهم بكل بساطة إجراء انتخابات جديدة وفق قانون لا يعاني من التشوهات.
ولكن السبب الحقيقي لهذا الحلّ كان أعمق من ذلك.
كان كل ذلك نتيجة أن السوفيتات كانت تمثل منظمات الطبقة العاملة في حين اعتمدت الجمعية التأسيسية على أصوات الفلاحين. لذا لم يكن من قبيل المصادفة أن لا يحظى البلاشفة، الذين كانوا يمثلون الأغلبية الساحقة في المؤتمر الثاني للسوفيتات في 8 تشرين الثاني عام 1917 والذي انتخبه نحو 20 مليون شخص، على تأييد أكثر من ربع الجمعية التأسيسية التي انتخبها كل سكان روسيا. الفلاح، السعيد بملكيته الخاصة، لا يمكن أن يعرّف عن نفسه كبلشفي، حتى لو كان سعيدا بالدعم الذي يقدمه البلاشفة بما خص توزيع الأراضي والنضال من أجل السلام. لذا كانت السوفيتات تشكل دعما أكثر موثوقية للسلطة العمالية من الجمعية التأسيسية أكثر من أي وقت مضى.
ولكن هناك سببا أساسيا آخر- لا علاقة له بغلبة عدد الفلاحين بين سكان روسيا- بعدم وجود جمعية تأسيسية (برلمان) إلى جانب السوفيتات. فالأخيرة هي شكل محدد من أشكال حكم الطبقة العاملة، وفي الوقت نفسه كان البرلمان شكلا محددا من أشكال الهيمنة البرجوازية.
في الواقع، خلال الثورة الألمانية غيّرت روزا لوكسمبورغ رأيها تغييرا جذريا وعارضت شعار الحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقل في ألمانيا: “مجالس “العمال” والجمعية الوطنية”. وبالتالي كتبت في 20 تشرين الثاني عام 1918:
“كل من ينظّر من أجل تحقيق الجمعية الوطنية يكون، بوعي أو بغير وعي منه، ينقل الثورة من المستوى التاريخي إلى مستوى الثورة البرجوازية، ويكون عميلا مموها للبرجوازية أو ممثلا غير واعيا للبرجوازية الصغيرة…
البدائل لا تكمن في الاختيار بين الديكتاتورية والديمقراطية. هناك الديمقراطية البرجوازية والاشتراكية الديمقراطية. ديكتاتورية البروليتاريا هي الديمقراطية بالمعنى الاشتراكي للكلمة”(13).
وكان نقد روزا للبلاشفة لأنهم مسؤولين عن تقييد وتقويض الديمقراطية العمالية. وبشأن هذه المسألة وبحسب التاريخ المأساوي لروسيا [الحقبة الستالينية] الذي يثبت أن كلامها كان، نبويا، وصحيحا تماما.
الجزء الأساسي من كتيب روزا لوكسمبورغ عن الثورة الروسية، كما كل كتاباتها وخطبها، كان يركز على إيمانها بالعمال، واقتناعها بأنهم، هم وحدهم، قادرين على التغلب على الأزمة التي تواجه الإنسانية. فقد اعتبرت بحماس أن الديمقراطية العمالية هي جزء لا يتجزأ من الثورة البروليتارية والاشتراكية:
“… الاشتراكية الديمقراطية ليست شيئا يبدأ فقط في أرض الميعاد بعد إنشاء أسس الاقتصاد الاشتراكي، ولا يأتي كهدية عيد الميلاد للشعب الذي يستحقها، في غضون ذلك، دعمت بإخلاص حفنة من الطغاة الاشتراكيين. الاشتراكية الديمقراطية تبدأ في وقت واحد مع بدايات تدمير الحكم الطبقي وبناء الاشتراكية. إنها تبدأ في نفس اللحظة لاستيلاء الحزب الاشتراكي على السلطة. تماما كما هو الأمر مع ديكتاتورية البروليتاريا.
نعم، الديكتاتورية! ولكن هذه الديكتاتورية تتمثل في طريقة تطبيق الديمقراطية، وليس في القضاء عليها، وبحيوية تشن هجمات صارمة على الحقوق الراسخة والعلاقات الاقتصادية للمجتمع البرجوازي، بدونها لا يمكن تحقيق التحول الاشتراكي. ولكن هذه الديكتاتورية يجب أن تكون عملا طبقيا وليس أن تقودها أقلية باسم الطبقة”(14).
على الرغم من أنها دعمت من دون تردد ديكتاتورية الطبقة العاملة الموجهة ضد أعداء الاشتراكية، واعتبرت أن الديمقراطية الكاملة والمتسقة وحدها يمكن أن تضمن سيادة الطبقة العاملة، ويمكن أن تعطي مجالا لإمكانياتها الهائلة. واعتبرت أن البلاشفة انحرفوا عن هذا المفهوم:
“الافتراض الضمني الكامن في نظرية لينين- تروتسكي عن الديكتاتورية هو التالي: التحول الاشتراكي هو صيغة جاهزة تكمن في جيب الحزب الثوري، والذي يحتاج إلى إخراجها فتصبح قيد التنفيذ. لم يكن الأمر كذلك لسوء الحظ- أو ربما لحسنه. وبعيدا عن كونه مجموعة من الوصفات الجاهزة التي لا تحتاج إلا إلى التطبيق، التطبيق العملي للاشتراكية كنظام اقتصادي واجتماعي وقضائي هو شيء مخفي في ضباب المستقبل. ما لدينا من امكانات في برنامجنا ليس سوى عدد قليل من المعالم الرئيسية التي تشير إلى الاتجاه العام الذي نبحث في سبيله عن الإجراءات الضرورية، وتغلب عادة المؤشرات السلبية على ذلك. وبالتالي نحن نعرف أكثر أو أقل ما يجب القضاء عليه في البداية من أجل تمهيد الطريق أمام الاقتصاد الاشتراكي. ولكن عندما يتعلق الأمر بطبيعة آلاف القضايا والإجراءات العملية، الكبيرة والصغيرة، الضرورية لإدخال المبادئ الاشتراكية في الاقتصاد والقانون وجميع العلاقات الاجتماعية، فإن كل ذلك لا يمكن العثور عليه في برنامج أي حزب اشتراكي أو نص مكتوب. هذا ليس عيبا إنما هو الذي يجعل من الاشتراكية العلمية متفوقة على تلك الطوباوية. ينبغي للنظام الاشتراكي لأي مجتمع أن يكون، وأن يكون فقط، نتاجا تاريخيا، يولد من تجاربه الخاصة، ويولد في سياق تحقيقه، ونتيجة للتطورات التاريخية الحية، الذي- تماما كالطبيعة العضوية، للتحليل الأخير، يشكل جزءا من هذه العادة الدقيقة التي تنتج لأي حاجة اجتماعية حقيقية وسائل إشباعها، إلى جانب العمل في الوقت عينه على الحل. ومع ذلك، من الواضح أن الاشتراكية بحكم طبيعتها لا يمكن فرضها أو إقرارها بمرسوم من الأعلى [فتوى]” (15).
وتوقعت روزا لوكسمبورغ أن ائتلاف عمال روسيا لن يكون نشطا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية:
“… الاشتراكية سيتم فرضها من وراء عدد قليل من المكاتب الرسمية بواسطة عشرات من المثقفين… ومع قمع الحياة السياسية، السوفيتات تصبح مقيدة أكثر فأكثر، من دون انتخابات عامة، وبدون حرية غير مقيدة للصحافة، ومن دون صراع حر للأفكار، ستموت الحياة في كل مؤسسة عامة، وتصبح مجردة من الحياة، وتبقى البيروقراطية فقط باعتبارها عنصرا نشطا. ستتراجع الحياة العامة تدريجيا، وبعض العشرات من قادة الحزب الذين لا تنضب طاقتهم وبخبرة لا حدود لها يأمرون ويحكمون. من بينهم، في الواقع، عشرات من العقول الرائدة والنخبة من الطبقة العاملة يدعَون من وقت إلى آخر إلى لقاءات حيث يصفقون لخطابات القادة، ويوافقون على القرارات المقترحة بالإجماع- وبالعمق، تحكم عصبة، ديكتاتورية، بالطبع ليست ديكتاتورية البروليتاريا، ديكتاتورية حفنة من السياسيين، إنها ديكتاتورية بالمعنى البرجوازي، بمعنى حكم اليعاقبة” (16).
نقد روزا لوكسمبورغ للثورة الروسية، كما هو حال جميع كتاباتها، لا يمكن أن يقدم أي عزاء للنقاد الإصلاحيين للاشتراكية الثورية، ولكن يمكن أن يكون بمثابة مساعدة لأولئك الذين يرغبون في الحفاظ على عِلم عمل الطبقة العاملة حيا وغير مقيد. نقدها للحزب البلشفي يندرج ضمن أفضل التقاليد الماركسية، وضمن مقولة كارل ماركس الأساسية: “النقد غير الرحيم لكل الأشياء الموجودة”.
هذا النص هو الجزء السابع من كتيب توني كليف- روزا لوكسمبورغ- الصادر عام 1959 (الذي أعيدت مراجعته عام 1969) في العدد الثاني والثالث لدورية الاشتراكية الدولية
الهوامش:
(1). R. Luxemburg, The Russian Revolution (New York, 1940), p.16.
(2). R. Luxemburg, The Russian Revolution, p.56.
(3). R. Luxemburg, The Russian Revolution, p.5.
(4). R. Luxemburg, The Russian Revolution, pp.54-55.
(5). R. Luxemburg, The Russian Revolution, p.55.
(6). R. Luxemburg, The Russian Revolution, p.18.
(7). R. Luxemburg, The Russian Revolution, P19.
(8). R. Luxemburg, The Russian Revolution, pp.20-2l.
(9). L. Trotsky, Itogy i Perspektivy (Moscow, 1919), p.80.
(10). R. Luxemburg, The Russian Revolution, p.23.
(11). R. Luxemburg, The Russian Revolution, p.29.
(12). نقد روزا لوكسمبورغ لسياسة البلاشفة بشأن المسألة القومية هو استمرار للفروقات معم حول هذه النقطة لأكثر من عقدين، يمكن الاطلاع على المزيد حول هذا الموضوع في هذا الرابط- روزا لوكسمبورغ والمسألة الوطنية.
(13). R. Luxemburg, Ausgewählte, vol.II, p.606.
(14). R. Luxemburg, The Russian Revolution, p.54.
(15). R. Luxemburg, The Russian Revolution, pp.45-46.
(16). R. Luxemburg, The Russian Revolution, pp.47-48.