Menu

المثقّفُ العربي: غيابٌ على المستوى الرسمي وفقدان "العصبيّة الجماهيريّة"

عبد المجيد بن شاوية

بوابة الهدف الإخبارية

كلُّ القوى الفاعلة عالميًّا تخطّط وتهندس نظريًّا وتصوّرًا، وتترجم ما ترسمه عمليًّا في سياساتها الاستراتيجيّة في علاقاتها بالجيوبوليتك الدولي والإقليمي، قادتها على وعيٍ تامٍّ بمدى طبيعة تفكيرهم وتصوّراتهم السياسيّة والاستراتيجيّة. لقد تحقّق لهم ما يمكنُ التفكير فيه، ولا زال المزيد من المخطّطات التحكميّة في مناطقَ عديدةٍ من العالم دون استثناء المنطقة العربيّة من المحيط إلى الخليج، لمَ لا؟ وخبراؤهم ومفكّروهم ومثقّفوهم حاضرون في دوائر السياسة والاقتصاد والثقافة؛ تُسمع أصواتُهم ويُعمل بأفكارهم على أرض الواقع، ويُستأنس بها في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، ألم يدعُ الرئيسُ الأمريكي أوباما في أولِّ خطوةٍ له على كرسي الرئاسة في اجتماعٍ موسّعٍ كلَّ الخبراء من كل الأطياف الفكريّة والاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة والدينيّة والعلميّة...؟ فماذا عن القادة العرب لدينا في علاقاتهم بالعقل والفكر والسياسة والاجتماع والاقتصاد؟ أين المثقّف في خريطة السياسات الرسميّة لكل أنظمة الدول العربيّة؟ ألا يندب المثقّف الفعلي حظوظه في واقع التخلّف السياسي والثقافيّ والعلميّ وفي حلقات أوساطه سواءً الرسميّة أو المدنيّة؟ لماذا هذا الجحود والنكران للمشاريع الفكريّة والثقافيّة من قبل الأنظمة السياسيّة في بلداننا؟ هل مردُّ ذلك كون إرادات الشعوب غائبةً مغيّبةً بفعل الذاتي والموضوعي معًا؟ أين هي "العصبيّة الجماهيريّة والشعبيّة"؛ مجازًا، بلغة ابن خلدون في علاقة المثقّف الواعي والرائد بالجماهير الشعبيّة العربيّة والإسلاميّة؟ على ماذا يتكئ مثقّفونا للعمل على خلق فسحة التأثير في تصوّرات رؤساء الشعوب العربيّة والإسلامية وحكوماتهما، ولاعتبارهم فيما يفكّرون فيه وبه؟ لماذا يجد المثقّفون والمفكّرون والفلاسفة أنفسهم في دول العالم العربي معزولين حتى داخل أوساطه الشعبيّة التي يفكرون ويجهدون أنفسهم من أجلها؛ فأحرى بهم لدى الأوساط الرسميّة في كل توجهاتها، ومن يدور في فلكها من رجال أعمالٍ، وأحزابٍ، ونقاباتٍ، وجمعياتٍ، تتبع للمجتمع المدني..؟

على سبيل المثال في فرنسا؛ كان صوت سارتر يسمع، حسب ما أورده الراحل المفكّر والمؤرخ هشام جعيط في أحد حواراته، ومعلومٌ أن كل الأصوات والعقول المفكّرة تُسمع عند الحاكمين، وكلّ فئات المجتمعات الغربيّة وغيرها، كاليابان، والصين.         
إنها الأسئلة الحارقة في كل أذهان التوّاقين إلى خلق فسحةٍ وجوديّةٍ للسلطة المعرفيّة داخل كلّ أوطان العالم العربي، وفي كلّ عقلٍ يحلم بتثبيت سلطة العقل وتبيئته داخل الأوساط والمؤسّسات المجتمعيّة، في مواجهة التخلّف والرجعيّة على جميع المستويات داخل كياناتها، رسميًّا وشعبيًّا. لقد افتقدت شعوب العالم العربي بوصلة الفكر والعقل طيلةَ قرونٍ من الزمن، إلى أن وصل إلى حدٍّ لا يطاق في زمننا الحاضر؛ بفعل الإجهاز على سلطة المعرفة، واغتيال العقل، وإطالة آماد سياسات التجهيل من قبل الأنظمة السياسيّة الرسميّة؛ فانحصر وجود المثقّفين في أوساطٍ محدودةِ المفعوليّة، بعد نهج آلياتٍ عدّةٍ لمحاصرة فعل المثقّف في إمكانيّة التواصل مع الجماهير والمساهمة في تغيير الوعي الجماهيري؛ إذ إنه في أحسن الأحوال يسهم من بعيدٍ – نسبيًّا بشكلٍ غيرِ كافٍ – في خلخلة الأفكار والمعتقدات الباليّة المتوارثة أبًّا عن جدّ، عبر التأليف، أو التدريس، أو اللقاءات المحدودة التي تُسرق خلسةً من قبضة التحكّم الرسمي؛ إذ إنّ كلَّ آليات الاشتغال الرسميّة عملت على إقصاء الفعل الثقافي وتهميشه، وقص أجنحته بكل الوسائل الممكنة.. لذلك لم تعد صورة المثقّف تجسد نمطًا من أنماط الحياة المتميّزة برمزيتها وسلطتها وعلو شأنها في تصوّرات مجتمعات العالم العربي. ومن ثَمَّ لم يسمع صوته كما تسمع أصوات السياسي الرسمي والحزبي أو النقابي أو أشباه المثقّفين المنضوين تحت جبّة الأنظمة، الذين يؤثّثون المشاهد على خشبات المسرح المجتمعي.
إذنْ، فنحن إزاء القطيعة التامّة بين المثقّف المنشغل بقضايا الشعوب وهمومها، وبين السلطات القائمة من جهةٍ، وبين الجماهير الشعبيّة من جهةٍ ثانية، هذه القطيعة لا تسمح بظهور الفعل الثقافي والفكري في أروقة خلايا التفكير الرسمي في علاقته بمؤسسات الدولة وبالمصالح المرتبطة بها، ولا بما يمكن العمل عليه لتفعيل العقل السياسي الرسمي في أبعاده الوطنيّة والتاريخيّة والحضاريّة، إضافةً إلى حجب الرؤى والتصوّرات الثقافيّة والفكريّة والعلميّة في العديد من المنابر، سواءً أكانت إعلاميّةً، أو تربويّةً، أو مؤسساتيّة، على عكس ما هو معتملٌ به في الدول الديمقراطيّة في علاقات مؤسساتها بمثقّفيها ومفكّريها وفلاسفتها ومؤرّخيها. وبالمحصّلة؛ غياب الذّات الثقافيّة والعلميّة فيما هو مفروضٌ فيها حضورُها بأعلى درجة، وباعتبارها الجهاز العصبي، والقلب النابض لكلّ المؤسّسات المجتمعيّة التي تجسّد الروح الوطنيّة والحضاريّة؛ فكيف يتسنّى لها أن تكونَ حاضرةً في الأدنى منها التابعة لها، في مختلِف المؤسّسات المجتمعيّة الأخرى، كيف ما كانت طبيعتها وأدوارها؛ لذا، فلا غرابة من غياب صورة المثقّف في أعين الجماهير العاديّة وشبه العاديّة، إلى حدّ القطيعة كما ذكرنا، حيث لم تكرّس، ولم تنمّط صورته ونمذجته في مخيّلة الفرد والجماعة معًا. كل هذا يجعل الشعوب العربيّة في منأى عن صورة المثقّف بسنواتٍ ضوئيّة، والدليل على هذا هو ما يفكّر به الإنسان الجماهيري في استحضار نماذجَ تؤطّر رؤيته للحياة في كلّ مجالاتها؛ بعيدًا عن الثقافيّ والفكريّ والعلميّ. فالشاهد على هذه الصورة النمطيّة للمثقّف يمكننا الاطلاع عليها في العديد من الدول المتقدّمة؛ لنقف على حجم الحضور المكثّف لنموذج المثقّف فيها، بشكلٍ يشدُّ النظر.

طبعًا، قد لا نقف على صورةٍ كاملةٍ في تجلّياتها المتعدّدة، ولكنها حاضرةٌ بالشكل الذي يخدم مصالحَ عليا لما تخطّط له المؤسّسات السياسيّة والاستراتيجيّة الرسميّة؛ فالقاعدة العامة هي محاولات إقحام المثقّف في هذه البلدان في حلبة التنافسيّة الحضاريّة – إن لم نقل الصراعيّة، أو التدافعيّة – وفي تفعيل التنظير الثقافي عمومًا في كلّ الجبهات لإحراز المكانة اللائقة بها في سلم الهرم الدولي والمجتمعي.

في هذا الإطار؛ تأتي تساؤلات المهتمّ والمتأمّل في وضعيّة مثقّف العالم العربي؛ إيجابيًّا أو سلبيًّا، ثم النظر إلى أسباب عدم وجود سلطة المثقّف الفعليّة في توجيه سياسات الأنظمة السياسيّة وتأطيرها وتصوراتها، ومحايثة تجليّاتها في أبعادها؛ اجتماعيًّا، سياسيًّا، اقتصاديًّا، ثقافيًّا، أيديولوجيًّا، على أساس أن السلطة المعرفيّة تشكّل محدّدًا وجوديًّا في علاقة الكائن الإنسانيّ بكل إحداثيّات وجوده؛عموديًّا وأفقيًّا، ليطرح السؤال الآتي: إلى أي حدٍّ سيبقى المثقّف خارج عقول دول العالم العربيّ وأنظمته ومؤسساته ومجتمعاته؟.