لم يحدث في تاريخ الثورات الوطنية في بلدان العالم الثالث؛ أن عقدت اتفاقيات سياسية مع الاحتلال قبل أن يوقع على معاهدة صلح؛ تفضي بالحصول على الاعتراف بالاستقلال الوطني الكامل. هكذا كانت ثورة فيتنام والجزائر، حيث كانت المفاوضات تعقد بشأن الاستقلال الوطني في وقت كانت المقاومة المسلحة تجري على أشدها مع المستعمر الأمريكي والفرنسي.
حالة اتفاقية اوسلو هي حالة استثنائية في تاريخ المقاومة ضد الاحتلال، حيث تم فيها الاعتراف الفلسطيني الرسمي التام بدولة الكيان الصهيوني العنصري التي قامت على أنقاض شعبنا؛ دون أن يعترف هذا الكيان الغاصب بدولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 67 حسب البرنامج المرحلي الذي يتعاطى مع مشروع حل الدولتين والذي يحظى بإجماع دولي. لقد كان بالإمكان التوصل إلى اتفاقية حكم ذاتي ضمن اتفاقية كامب ديفيد، حيث لا فروقات كبيرة بين اتفاقية أوسلو وبين مرحلة الحكم الذاتي التي أقرتها معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي تم التوصل إليها برعاية أمريكية، أيضًا وبجهود كيسنجر الدبلوماسية؛ القائمة على أساس نظرية الخطوة خطوة، لكن منظمة التحرير الفلسطينية؛ عارضت وقتها مسألة الحكم الذاتي التي جاءت كملحق أساسي في اتفاقية كامب ديفيد وظل مقعد المفاوض الفلسطيني شاغرًا؛ فما هو الشيء الذي تغير في الوضع السياسي العربي والدولي حتى يصل المفاوض الفلسطيني إلى اتفاقية تم رفضها قبل ذلك بسنوات من قبل منظمة التحرير؟.
حقيقة كان التفكير لدى الجانب الفلسطيني باستثمار الانتفاضة الشعبية الأولى؛ استثمارًا سياسيًا عن طريق التوصل إلى اتفاق مرحلي مع الكيان الإسرائيلي؛ يفضي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 67، لكن كانت هذه الرؤية السياسية غير موضوعية؛ لأنها أغفلت طبيعة نشوء وتأسيس هذا الكيان الصهيوني، وكونه أيضًا ركيزة أساسية من ركائز الجبهة الإمبريالية، ولن يسمح بإلحاق الهزيمة الكاملة به، حتى وإن توصل إلى اتفاق مرحلي تحت وطأة الانتفاضة.
بالتوصل إلى اتفاقية أوسلو بعد ذلك كامتداد لمؤتمر مدريد للسلام؛ تولد ظرف جديد، حيث أصبح تطبيقها أكثر صعوبة وتعقيدًا من أي وضع مضى، ذلك أنها أنتجت تغييرًا نوعيًا في طبيعة النضال الوطني الفلسطيني الذي ما زال في مرحلة التحرر الوطني، حيث أفرز هذا المنعطف التداخل المتزايد بين الوطني والاجتماعي والاقتصادي، وبين النضال ضد الاحتلال والاستيطان والتهويد؛ من أجل التخلص من الاتفاقيات المتفرعة عنها المجحفة.
إن التجربة تعلمنا أن الكيان الصهيوني لا يقيم وزنًا للاتفاقيات السياسية والأمنية التي يعقدها؛ لأن المشروع الصهيوني العنصري التوراتي يعد دولته العنصرية التوسعية؛ أهم بكثير من حالة سلام يتم التوصل إليها مع العرب التي وصفتهم جولدا مائير بعد حادثة إحراق المسجد الأقصى بأنهم أمة نائمة، وذلك هو ما أكدته بالفعل الأعوام الطويلة التي مضت على توقيع الاتفاقية التي تم فيها نهب الأرض في الضفة الغربية المحتلة بإقامة المستوطنات والإبقاء على وضع الإدارة المدنية الذاتية بشكل دائم، وكذلك ما يجري من ممارسة سياسة تهويد متسارعة للأماكن المقدسة الإسلامية في القدس والخليل، وأيضًا ما صرح به نتنياهو قبل أن يغادر موقعه كرئيس وزراء حكومة الكيان الصهيوني اليمينية؛ بأنه في حالة فوزه بالانتخابات القادمة، فإنه سيعمل على ضم كل المستوطنات وغور الأردن وهو ما يعني عمليًا إلغاء هذه الاتفاقية المشؤومة من قبل العدو الإسرائيلي، والسؤال: متى يلغي الجانب الفلسطيني هذه الاتفاقية التي ألحقت أكبر الأضرار بالقضية الفلسطينية كقضية وطنية تحررية.. لا تحتاج إلى مرحلة انتقالية طالت مدتها الزمنية وتحولت بها هذه القضية إلى قضية إنسانية وأمنية؛ عنوانها البارز المساعدات الإغاثية وصرف الرواتب لدى موظفي السلطة والوصول إلى تفاهمات بشأن التهدئة وفك الحصار عن القطاع؟!.