أتم جنرالات التطبيع في السودان ؛ مرحلة جديدة من انقلابهم المستمر ضد الإرادة الجماهيرية؛ مسقطين شركاؤهم المدنيين في سياسات النهب والفساد والتطبيع، على حساب التغيير الذي بذلت لأجله دماء السودانيين وتضحياتهم، في تحركهم لإسقاط نظام عمر البشير في ديسمبر 2018، حيث جاءت التركيبة الحاكمة بشقيها العسكري الوريث للنظام القديم، والمدني الذي رأى دوره في تنفيذ الإرادة الاستعمارية في السودان، وطيلة الفترة التالية للثورة تنافس الطرفين في محاولة الاستقواء بمواقف دولية واقليمية معادية للسودانيين، وإن اتفق الطرفان على التطبيع مع الكيان الصهيوني، باعتبار ذلك مخرجًا لاسترضاء جملة من سادتهم الغربيين والمحليين لأجل البقاء في السلطة.
من المهم ألا نسعى لإسقاط أحكام جاهزة في مواقف كهذه، والتشبث بالموقف المبدئي الرافض لكل ما من شأنه تغييب الإرادة الحرة للجماهير، ولكن من العبث أن نتجاهل حقائق أساسية؛ كان لها دورها في صناعة هذا المسار، ومن ضمنه ما حدث وما قد يليه. من الممكن فهم سعي العسكر للحصول على غطاء دولي ضد السودانيين، باعتباره جزءًا من مسار بدأه عمر البشير، للخلوص من أي أثمان مترتبة على ما ارتكبته هذه الزمرة ضد السودانيين من ممارسات، وفي مقدمتها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي اقترفوها خلال حملاتهم القمعية في أنحاء السودان، أو في تصديهم الوحشي للحراك الثوري ضد نظام البشير، كذلك تحالفهم مع النظم الرجعية العربية التي تمولهم، وتضافر جهودهم ضد كل حراك ثوري ذو عمق جماهيري حقيقي، لكن مساعي النخبة المدنية للانسلاخ عن الجماهير التي خاضت الثورة في الشارع، والتنكر لتطلعاتها لحساب الرهانات على موقف أمريكي وغربي داعم، كانت استعدادًا مبكرًا للغدر بهذه الجماهير متى توفر الثمن المناسب.
في المنافسة السلطوية ضيقة الحسابات مع العسكر؛ تحدثت النخبة المدنية الشريكة في الحكم باسم الجماهير وإرادتها والديمقراطية والثورة، وفي الواقع مضت قدمًا في بذل التعهدات بإنفاذ توصيات البنك الدولي لتجويع السودانيين، والانخراط في برنامج التطبيع مع العدو الأول للشعوب العربية؛ الكيان الصهيوني، ولم تتورع للحظة في عقد صفقات لتغطية جهود "حميدتي" و"البرهان" لتصفية الحسابات وتحقيق تفرّد شبه مطلق داخل الجيش، وآخرها لم تمضِ عليه أسابيع من الآن.
الرهان على المُستعمِر، وانتظار بيانات الخارجية الأمريكية؛ خسارة مضمونة، وجريمة بحق الوطن والذات، والتعامل مع الجماهير داخل السودان وخارجه بمنطق الاستخدام والفهلوة السياسية؛ خيانة تستحق المحاكمة، لكن التصدي الآن للمسار الانقلابي وإعادة الاعتبار لإرادة الجماهير هو واجب، لا مناص منه ولا بديل عنه.. لا لإعادة حكومة حمدوك؛ بدلًا من حميدتي والبرهان، ولكن لإنصاف الشعب السوداني في مواجهة كليهما، لأجل الحرية، والسيادة الوطنية على المصير والقرار، ودفاعًا عن حق كل سوداني في هذا الجيل وكل جيل قادم في حياة حرة كريمة له ولأولاده؛ حرمه منها المُستعمِر والمتعاونين المحليين وأباطرة القمع العسكري؛ من لصوص وسفاكي دماء. مع السودان وشعبه وحريته، ضد الوصاية كما ضد انقلاب القتلة أو السماح لهم بالفرار بجرائمهم الحالية أو السابقة، مع السودان المتصل بعروبته، والمزدهر بموارده، والممسك بناصية التغيير لأجل مستقبل أفضل لنا جميعًا.. فهنا وعلى أرض هذا الجزء المحطم من العالم، واجبنا ألا نسقط فرادى، لا أمام الصهيوني أو أدواته أو وكلاء القهر.. سنعيش معًا ونقاتل معًا وننتصر معًا.. في السودان كما في فلسطين.