Menu

البديلُ الثوريّ: أزمةٌ حزبيّةٌ أم اختلالُ البِنية المجتمعيّة؟

وسام رفيدي

بوابة الهدف الإخبارية - نشر في العدد 31 من مجلة الهدف

رغمَ الاعترافِ الواسعِ من قوى اليسارِ الفلسطينيّ بأزمته، إلّا أنّ الأسبابَ التي تساقُ لتفسير الأزمة، وكذا الحلول المطروحة للخروج منها؛ تختلفُ، ليس بين قوّةٍ يساريّةٍ وأخرى فحسب – وهذا طبيعيٌّ لأسبابٍ لا مجالَ للخوض بها هنا – بل أيضًا داخلَ القوّةِ الواحدة. ولعلَّ أكثرَ الأسبابِ المطروحةِ مدعاةً للغرابة – وللسخريّة إن شئتم – هي وضعُ كلّ الأسباب على أكتاف الظرف الموضوعيّ: انهيار الاتّحاد السوفييتي، سرقة اليمين الفلسطيني للقرار الوطني والقيادة معًا، عدم تبلور البِنية الطبقيّة بما يخلقُ إشكاليّاتٍ عديدةً (لحزب الطبقة العاملة) في امتداده الشعبيّ، والعامل الأخير هذا، هو نتاجُ تفكّكِ البِنية الاجتماعيّة تحصيلًا كما يظهرُ لمن يتبنّى هذا التحليل. أسبابٌ كهذهِ تمكّن اليسار من القول: أنا فل الفل، والمشكلة ليست عندي.

واضحٌ أنّ اليسارَ بارعٌ في التنظير، وبراعتُهُ تظهرُ أكثرَ ما تظهرُ في قدرته على تبرير انتكاساته وتراجعاته وخطاياه التاريخيّة. هذهِ المقالة لن تطال جانبين اثنين: نقد تنظيرات اليسار المشار لها حول أزمته، اجتراح حلول ومخارج. فالمقالةُ هذهِ لا تتسّعُ لهذا التوسّع، حسبُها أن تعالجَ جزئيّةً واحدة/ سؤالًا واحدًا: هل نحنُ أمامَ أزمةٍ حزبيّةٍ أم هو اختلالُ البُنى المجتمعيّة ككل؟

لأبدأ بنقد الشق الثاني من السؤال ينبغي تأكيد الإجابة بنعم على الشق الأول، وهو أن يكون هناك اختلالٌ في البِنية المجتمعيّة بفعل التبعيّة للمركز الرأسمالي، أو بفعل الإلحاق الكامل للاقتصاد بمشروعٍ استعماريٍّ استيطاني، أن يكونَ هذا هو الواقعُ، فلا يعني هذا بأيّ حالٍ واقعًا معوّقًا للمشروع الثوري البديل، ففي كلّ تجارِب حركات التحرّر العالميّة، وتجارِب الحركات الثوريّة، لتحقيق الاستقلال الوطنيّ أو للتخلّص من نظامٍ مستبدٍّ عميلٍ لرأس المال العالميّ والإمبرياليّة، كان الاختلالُ سمةً مميّزةً للبِنية المجتمعيّة. مصدرُ هذا الاختلال بيّن: الإمبرياليّة في سعيها لضمان التبعيّة التامّة، على كلّ الصعد، حيث تعملُ على إعادة بناء البِنية المجتمعيّة لخدمة مشروعها الإمبرياليّ، وتلك (إعادة البناء) لن تنتجَ سوى بنيةٍ متخلخلةٍ وحتى متفكّكة. ففي كوبا مثلًا، لم يكن نظامُ باتيستا البائد – وبصفته رأسَ البِنية المجتمعيّة – أكثرَ من سمسارٍ تافهٍ لكبرى الشركات الأمريكيّة؛ الأمرُ الذي أمكن الأمريكيّين من صياغة بِنيةٍ مجتمعيّةٍ لخدمة نظام السمسرة والشركات، ومع ذلك نحجت حركةُ 26 تموز بقيادة كاسترو، بتجنيد الفلّاحين والعمال في حركةٍ ثوريّةٍ ناجزةٍ أطاحت بالسمسار ومشغّليه.

أمّا في الجزائر – النموذج الأبرز في التاريخ المعاصر على حجم همجيّة السياسة العنصريّة الفرنسيّة الإمبريالية وبربريّتها – فـ(إعادةُ) صياغة بِنية المجتمع وصلت حدَّ الإبادة، كما فعل المستعمرُ الأبيضُ في الأمريكيّتين، ومع ذلك لم يمنع هذا من انطلاق الثورة وانتصارها.

وفي فلسطين، فالتشوّهُ الحاصلُ في البِنية المجتمعيّة تاريخيًّا نتيجةَ المشروع الصهيونيّ، ولاحقًا نتيجةَ الإلحاق الأردني، لم يحل دون نشوء الثورة المعاصرة. يكفي للتدليل أنّ مجملَ البُنى المجتمعيّة قبل عام 48، جرى عمليًّا تحطيمُها مع الاقتلاع والتطهير، خاصّةً بالسيطرة على الأرض، ومحو كلّ مظاهر المأسسة المدينيّة؛ خاصّةً في مدن الساحل. أمّا في الضفّة الغربيّة بعد عام 48، فقد جرى تهميشُها لصالح الضفّة الشرقيّة، ولم يكن الحالُ في القطاع بأفضل. كل ذلك لم يحل دون انطلاق الثورة.

باختصار: أيُّ تفكّكٍ أو اختلالٍ في البُنى المجتمعيّة لا ينفي وجودَ طبقاتٍ وفئاتٍ شعبيّةٍ ترى مصلحتها في التحرّر من الاستبداد والاستغلال، وأيُّ تفكّكٍ أو اختلالٍ في البُنى المجتمعيّة لم يحل دون بناء حركاتٍ وأحزابٍ ثوريّةٍ مقاتلةٍ تأخذُ على عاتقها، ليس فقط ضخّ الوعي الثوري في صفوف الطبقات والفئات الشعبيّة، بل وقيادة نضالها نحو التحرير.

تحالف – نقد – تحالف

بمعنى ما، فإنّ ذلك الشعارَ الذي رفعه اليسارُ موجِّهًا للعلاقة مع اليمين الفلسطيني، يمكن اعتباره صدى لشعار الثلاثينات الذي رفعه الكومنتيرن حينها للعلاقة بين الأحزاب الشيوعيّة والأحزاب الاشتراكيّة لمواجهة الفاشيّة، كما يمكن التماس جذوره في الأدب السياسيّ العالميّ لليسار في شعار التحالف بين الطبقة العاملة، وأحزاب البرجوازيّة الوطنيّة في البلدان المستعمرة، الذي كان لينين نظّره في مطلع عشرينات القرن الماضي.

ليس النقاشُ حولَ أهميّة التحالف في مرحلة التحرّر الوطني بين كل الفئات والمشارب السياسيّة والفكريّة ذات المصلحة في التحرير، فتجميع ما أمكن من القوى في معركة التحرير مسألةٌ بدهيّة، عسكريًّا وسياسيًّا، خاصّةً إذا ما أخذنا بالاعتبار مجافاةَ الظرف الموضوعي، وتحديدًا خذلان الأنظمة العربيّة، الوطنيّة قبل العميلة، ومحدوديّة قدرات الشعب الفلسطينيّ قياسًا بقدرات وممكنات المشروع الصهيوني، في ظلّ تراجع حركة التحرّر العربيّة. إنّ السؤال يتمحوّر حول ما إذا كان التحالفُ يتمّ على قاعدة التسليم بقيادة اليمين للمرحلة، فيما واجب اليسار (تصويب) مسار اليمين عبر نقده على قاعدة: ليس فقط التحالف بل التسليم بقيادته؟ أم يتمّ على قاعدة العمل على بناء البديل الثوريّ لقيادة اليمين لحركة التحرّر الوطني؟ وما يبرّر هذا السؤال هو المآلُ الذي وصلت إليه القيادةُ اليمينيّةُ باستسلامها للمشروع الصهيوني، واعترافها بحقّه في فلسطين؛ الأمرُ الذي يستوجبُ نقاشَ طابعِ العلاقة التاريخيّة مع هذا اليمين، خاصةً – وهو الأهمُّ – أنّ العديد من تحليلات اليسار كانت قد تنبّأت بمآل اليمين هذا. وعليه، فهل اتّخذ اليسارُ خطواتٍ لمنع اليمين من الوصول لما وصل إليه، عبرَ بناء نفسه بديلًا ثوريًّا للانهيار اليميني المحتمل والمستشرف مستقبلًا؟

كان الرفيقُ الراحل الحكيم قد أشار مرّةً في مداولاتٍ داخليّة، وبما يشبهُ النقدَ الذاتيَّ ومراجعة السياسات، أنّ الجبهةَ الشعبيّةَ كانت (تضطرّ) للتنازل عن موضوع الإصلاح الديموقراطيّ في المنظّمة خلال جولات اجتماعاتِ المجلس الوطني لصالح الحفاظ على الوحدة الوطنيّة. أي استمرارًا منطقيًّا لما وصفه الحكيم: استمرّ اليمينُ في هيمنته وتنازلاته وسياساته، واستمرّ اليسارُ في (وحدته الوطنيّة) غطاءً لسياسة اليمين هذه، وعليه فشعار/ قانون: تحالف – نقد - تحالف لا ينتهي فقط بالتحالف، بل ينتهي أيضًا بانفلات اليمين؛ لأنّ النقد لم يكن على قاعدة البديل، بل على قاعدة الصوت المعارض، ألا يذكّرنا هذا اليوم، مثلًا، بطرح اليسار نفسه (كبيضة القبان) في بعض المؤسسات بين القطبين: اليمين الليبرالي واليمين الأصولي؟

بين الحزب البديل والحزب المعارض بونٌ واسع. الأوّل ينبني وَفْقَ نُظُمٍ وقواعدَ وآلياتٍ تتجهّزُ للقيام بدور البديل بالإطاحة بالسلطة والحلول محلّها، ولا يسارعن أحدٌ مغرض ويتصوّر أنّها دعوةٌ لحسم دموي مع اليمين الفلسطيني، بل وإسقاطه عبر التكتيل الجماهيري ونضال الشارع، فيما الثاني يجد نفسه مولعًا باللعب على ملعبها: يقوم بدور المعارض لسياساتها دون القدرة على ممارسة تأثيرٍ يذكر على تلك السياسات، ولسان حال اليمين في هذه الحال كما كان يتردّد بين أوساط اليسار في وصف ياسر عرفات ونهجه في التعامل: قولوا ما تشاؤون وأفعل ما أشاء، وهكذا سار حال الثورة الفلسطينيّة المعاصرة.

ولكن للحقيقة، ففي مرحلةٍ معيّنةٍ تفكّر اليسارُ في طرح نفسه بديلًا. في عام 1974، عند طرح البرنامج المرحلي (وهو الخطوة الأولى في سلسلة الانهيارات التي استبدلت فكر التحرير وممارسته بفكر الدولة وممارسته وتسوياتها وأشكالها وتصوّراتها) حينها التقط اليسارُ خطورةَ الفكر السياسي الوليد الموسوم بالواقعيّ زورًا، والساعي للتصالح مع المشروع الاستعماري فعلًا، فاتّخذ قراره الجريء بتشكيل جبهة الرفض التي كان من المعوّل عليها أن تشكل، عبر موقفها من البرنامج المرحلي، وعبر ممارسة القتال والمقاومة، بديلًا للقيادة اليمينيّة، لكن سرعان ما عاد اليسارُ ليكونَ جزءًا من (النظام) بقيادة اليمين، فغرق هو الآخرُ في لعبة البحث عن شكل الدولة طمـأنةً للرأي العام ولو على حساب مقولة التحرير.

إذن، لم تكن العلاقةُ مع اليمين علاقةَ: تحالف – نقد - تحالف، بل علاقة التسليم بالأمر الواقع: قيادة اليمين للمرحلة. ورغم ما يُسجّل لبعض قوى اليسار، الجبهة الشعبيّة بشكلٍ خاص، استقلاليتها الظاهرة واتخاذها للعديد من المواقف؛ رفضًا للتذيل لسياسات اليمين قبل أوسلو وبعده، رغم ما دفعته من أثمانٍ – ليست الملاحقةُ من الأجهزة الأمنيّة إلا واحدةً منها – إلّا أنّها لا زالت تعتصم بازدواجيّةٍ غريبةٍ بتمسّكها بمواقف/ شعارات حول المنظّمة والوحدة الوطنيّة والدولة عفا عليها الزمن، ولا تشكّل بأيّ حالٍ مدخلًا للبديل، بل لاستمرار تأدية دور المعارض (المحترم)، وهو ما عالجتُهُ في مقالاتٍ سابقةٍ من على هذا المنبر. تلك الازدواجيّةُ لا تبشر بأن اليسار يبني نفسه ومواقفه وسياساته؛ بديلًا للقيادة اليمينيّة، وإذا كانت الظروفُ والمعطياتُ والمخاطرُ الناتجةُ عن المجلس الوطني وبرنامجه المرحلي عام 1974، تبرّر طرح موضوع البديل، فإنّ الانخراط عبر أوسلو لم يبق لدعاة (تحالف – نقد – تحالف) أية مبرّراتٍ للمزيد من التنظير للشعار ذاته، بل هذا يتطلّب جعل قضيّة البديل مصيريّةً وملحاحةً أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى. أمّا المدخلُ لذلك، وبعجالةٍ غيرِ محمودةٍ، فهو ذو شقّين؛ تنظيميّ وسياسيّ. أما التنظيميّ فهو التوجّهُ لبِنيةٍ تنظيميّةٍ مقاومة، وأمّا السياسيّ فهو اعتبار إعادة بناء المنظّمة، تتمّ على قاعدة العودة للميثاق، وتأكيد وحدة المقاومين بديلًا للشعار الملتبّس الوحدة الوطنيّة، وثالثًا وليس أخيرًا: محاسبة القيادة اليمينيّة على ما اقترفته طوال عمر مرحلة أوسلو بعزلها عن موقعها؛ قطعًا دون غفلان ما نعتقده بَدَهِيًّا: الانحياز للمقاومة برنامجًا وممارسة، النضال الاجتماعيّ التقدميّ ضدّ الممارسات والثقافة الأصوليّة الرجعيّة.