Menu

عرب ويهود.. لعبة الشهيد عمر أبو عصب

ثائر أبو عياش

تعبيرية

من باحات المسجد استطاع عمر الحصول على قطعة خشب من شجرة الزيتون ليصنع منها "بارودة"، طوال اليوم جلس على عتبات المنزل وبسكينه نجح في الحصول على شكل قريب لشكل البارودة، ابتسم وتوجه إلى أزقة العيساوية وقام بجمع أصدقائه من أجل توزيع الأدوار ليعبون لعبة "عرب ويهود"، قال لهم: أربعة سيكونون عرب، وأربعة آخرون سيكونون يهود، اليهود يذهبون إلى الحارة الشرقية والعرب إلى الحارة الغربية، وتبدأ اللعبة بإلقاء الحجارة على اليهود، ولكن بدون أن تصل الحجارة عليهم من أجل أن لا يتضرر أحد.

أحد الاصدقاء يقول لعمر: لنقوم بالقرعة لمن سيقوم بدور الشهيد؟ يرد عمر: اختاروا أي شخص من مجموعة العرب. يقف الجميع حائر أمام هذا القرار لقد كان عمر بالعادة يقوم بالقرعة لمن يمثل دور الشهيد، وكان يختار دوره كيهودي لأنه كان يعلم أن الجميع يريد أن يلعب دور المقاوم، كان يعتبر عمر اليهود هم الأقوى دائماً ويمتلكون السلاح والقوة، وفي كل لعبة كان يقوم باعتقال أحد الاصدقاء ووضعه داخل السجن الذي قاموا باختياره بجانب دكان أبو وديع ذلك العجوز الذي كان يعشق رؤية الأطفال وهم يلعبون "عسكر وحرامية"، لأن أبو وديع يعرف اسم هذه اللعبة ما قبل عام 1948 بهذا الاسم، ولم يكن ينزعج منهم بتاتاً.

عمر لا يتقبل الهزيمة ويحب أن يظهر دائماً كشخص قوي بين أصدقائه، وهذا ما يجعله دائماً يُمثّل دور اليهودي القوي الذي يمتلك العتاد العسكري والقوة الخارقة والدبابات والطائرات والجميع يقف في صفهم ويدعمهم، أما الفلسطيني فوحدة يواجه هؤلاء اليهود. بدأ الجميع متردد في اللعب وكأن هناك اتفاق ضمني أن شيء ما خطأ يحدث، وفي ظل الصمت الذي خيم على المجموعة قال عمر ليكسر الصمت: لنبدأ اللعب ما بكم تقفون هكذا؟ وبدأت المجموعات بالتوزيع مجموعة العرب "الفدائي، المناضل، القسامي، المقاوم..." مجموعة العرب ترتدي اللثام بالكوفية الفلسطينية وبين يديها أعلام الأحزاب الفلسطينية، ومجموعة اليهود يحملون "بواريد" من خشب، وكل شخص من مجموعة الجنود يضع على كتفه غصن زيتون كأنه جهاز لاسلكي، ويرتدون نظارات سوداء.

بدأت الاشتباكات، مجموعة المقاومين قامت برشق مجموعة الجنود بالحجارة، فيما تقوم مجموعة الجنود بإطلاق الرصاص عليهم عن طريق تحريك الخشبة "البارودة" وتقليد أصوات الرصاص، ويصرخ الجنود عليهم وكانت مجموعة الجنود بارعة في تبديل حرف الحاء بالخاء اثناء الصراخ، وقذف علب العصير الفارغة كأنها "قنابل غاز وصوت"، وتطورت اللعبة حتى وصلت مطاردة مجموعة الجنود لمجموعة المقاومين والمجموعة الأخيرة هربت من الرصاص، ومنهم من وقع شهيداً ومنهم أسيراً ومنهم جريحاً. قامت مجموعة المقاومين بوضع أحد الاصدقاء على لوح خشبي ووضع العلم الفلسطيني على جسده وبدأوا بالهتاف بعدما رفعوه على الاكتاف "بالروح بالدم نفديك يا شهيد"، كان المشهد كأنه حقيقة حتى أن أحد الأصدقاء قام بالبكاء على صديقه الشهيد، في ظل هذا المشهد كان عمر يقف متفرجاً على ما يحدث، وهو الأمر الذي أثار استغراب اصدقائه وأثار استغراب سكان الحي الذين يقفون بالعادة يشاهدون مرح الأطفال. انتهت اللعبة بانتصار مجموعة "العرب"، وعاد كل طفل إلى بيته، في المساء أرسل عمر رسالة إلى أصدقائه عبر مجموعة الواتس آب قبل أن يغادرها يقول فيها: "اذكروني بالخير أصدقائي وسامحوني"، وفي مساء اليوم التالي الموافق 17.11.2021 توجه إلى أزقة القدس القديمة يحمل بين يديه سكين المطبخ التي كان فيها يصنع "البارودة" التي يلعب بها، وفي قلبه يحمل نبضات الطفولة، واثق من نفسه يمشي بخطواته حتى شاهد من مسافة قريبة جنديين إسرائيليين حقيقيين، لباسهم وبنادقهم وضحكاتهم تؤكد له أنهم جنود، وفي عقله أيضاً يحمل قواعد اللعبة وهو كان يفهم تماما دور الجندي اليهودي، وكان ذكاء منه أنه طوال اللعب مع أصدقائه يختار هذا الدور يريد أن يفهم نقاط القوة والضعف لدى هؤلاء الجنود.

تنازل عن لعبته في الحي وعن دراجته الهوائية وعن كل أحلامه وألعابه ليلعب لعبة الموت، في تلك الثواني القليلة بين بنادق الجنود، أصبح الواقع كما هو "جنود من جيش الاحتلال يمطرون جسد طفل بوابل من الرصاص أثناء محاولته تنفيذ عملية طعن"، هذا الطفل الذي قام بتوزيع حلوى "الحلقوم" على أبناء صفه بدون مناسبه يوم شهادته، كان يحلم هذا الطفل بأن يصبح طاهياً مثل والده. أدرك عمر حقيقة الصراع، أن التوازن لا يحدث إلا بالفعل لأن الكلمات لا تقيم أوطاناً، ولذلك أرسل إلى أمه يقول لها: "يما يا حبيبتي بعرف أن هذه آخر رسالة مني بس بدي أحكيلك شغلة، أنه أنا بحبك وبتمنى ترضي علي وتسامحيني!".

لم يكتف بهذه الرسالة، بل أرسل إلى والده يقول له: "يابا يا حبيبي يا تاج راسي، أنت أدرى فيَّ وأعلم بمستقبلي وكل شيء صار منك حلو يابا دير بالك على حالك وعلى خواتي". قفز عمر بالسكين وبدأ يلعب لعبته فوق رؤوس الجنود، مع كل ضربة كان يتذكر بيت خالة حاتم أبو ريالة الذي هدمه الاحتلال ثلاث مرات، ويتذكر أيضاً دموع الحسرة في عينين خاله، وفي خضم تلك الذكريات أدرك شيء مهم هو أن هذه المرة اللعبة أصبحت حقيقة، وأن ما يحدث هو تجسيد للواقع الذي نعيشه، كان الشعور يختلف، لقد تبدل الدور وأصبح الآن هو من مجموعة المقاومين "مجموعة العرب"، وبات يفهم أن القوة ليست فقط بالطائرات والدبابات والفسفور الأبيض وبالبنادق، بل بالإرادة الحتمية بالنصر التي تحمل معها استعدادنا الدائم للتضحية في سبيل هذا النصر. هذه المرة وعلى عتبات التاريخ وبين أزقته كان الرصاص حقيقي ويخترف الجسد الحقيقي، سلاح حقيقي لا وهمي يحمل بداخله حقيقة الصراع، جسده يرتطم بالحائط وصوت الحقيقة "صوت الإرهاب" يصب فوقه، عيناه بدأت تغمض، بدأ يتذكر صديقه عندما يمثل هذا الدور حاول أن يفتح عيناه، ولكن عبث.. كل شيء حقيقي هذه المرة حتى الموت. بدأ يتذكر أنه لم يختار دور الشهيد في اللعبة الأخيرة لأنه كان يريد أن يكون شهيد، ولكن ليس أن يكون في لعبة، بل كحقيقة وفعلا أصبح عمر شهيد، وأدرك عمر عندما تتحول اللعبة لحقيقة يستطيع أطفال فلسطين ممارسة لعبة إنسانية في واقع أكثر إنسانية.