Menu

تلخيص كتاب المفكر الماركسي الشهيد د. حسين مروة: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية

غازي الصوراني

تلخيص كتاب المفكر الماركسي الشهيد د. حسين مروة:

 

النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية

 المجلد الأول [1]

الحلقات من (6 – 11)

القسم الثاني : بذور التفكير الفلسفي

الفصل الثالث: المعتزلة، والصراع المعتزلي الاشعري

 اسم المعتزلة تاريخياً:

ترددت كلمة "الاعتزال" وكلمة "المعتزلة" كثيراً في تاريخ الصراع السياسي – الفكري في الاسلام قبل نشوء هذه الجماعة التي استقر عليها اسم "المعتزلة" في نهاية القرن الأول للهجرة وأواخر القرن السابع للميلاد، وأصبحت كلمة "الاعتزال" منذ ذلك الحين تعني الاشارة إلى مذهب هذه الجماعة بما تفرد به من آراء في جملة من "الأصول" الاعتقادية الاسلامية، وبما تفرد به كذلك من منهج عقلي في معالجة هذه الآراء. [2]

من المعروف، تاريخياً، ان مبدأ ظهور المذهب "الاعتزالي" هو الخلاف بين الحسن البصري وتلميذه وأصل بن عطاء في مسألة "مرتكب الكبيرة": أكافر هو ام مؤمن؟.

فقد كان رأي الحسن البصري انه "منافق"، وكان رأي تلميذه واصل انه "فاسق". ومؤدي الرأي الأول ان مركتب الكبيرة ليس مكتمل الايمان، لانه يقول شيئاً ويضمر شيئاً آخر، وهذا هو معنى "المنافق"، فهو اذن يستحق ما يستحقه غير المؤمن من الجزاء في الآخرة. [3]

ومؤدى الرأي الثاني – رأي واصل- انه مؤمن من حيث الاعتقاد، ولكنه يعطل احكام الشريعة من حيث العمل بارتكابه الكبيرة، وهذا معنى "الفاسق". ولكن ما جزاؤه في الآخرة؟ . هنا قدم واصل صيغة جديدة للوضع الذي ينبغي ان يكون لمرتكب الكبيرة من حيث الايمان والكفر. وكانت الصيغة التي ابتكرها واصل هي القول بأن -أي مرتكب الكبيرة- في "منزلة بين المنزلتين"، أي أنه في مرتبة وسط بين المؤمن والكافر، فليس هو اذن بالمؤمن ولا بالكافر.

والواقع ان القول بالمرتبة الوسط الذي حدد به مؤسس مذهب "الاعتزال" واصل بن عطاء مكان مرتكب الكبيرة، قد حدد في الوقت نفسه المكان الوسط أيضاً للمعتزلة بالذات بين الطائفتين الرئيستين في هذه المسألة: طائفة الخوارج، وطائفة المرجئة.

فقد حكم الخوارج على مرتكب الكبيرة بأنه كافر اذ جعلوا الايمان قائماً على ركنين متلازمين: الاعتقاد، والعمل معا. اما المرجئة فقد حكموا له بأنه مؤمن، اذ جعلوا الايمان مجرد الاعتقاد الداخلي، ولم يعدوا الاقرار باللسان ولا القيام بالاعمال جزءاً من الايمان، وبهذا يكون "المعتزلة" وسطا بين طرفين نقيضين.

ان مسألة "مرتكب الكبيرة" كانت هي محور الخلاف في مدرسة الحسن البصري بين الاستاذ وتلميذه وأدت إلى "اعتزال" التلميذ – واصل- ثم إلى قيام مذهب "المعتزلة" على مبدأ "المنزلة بين المنزلتين" أو الأمر. [4]

نشأة هذا المذهب متصلة الجذور والاصول بما سبقها من حركات فكرية لها هي كذلك جذورها واصولها في الواقع الموضعي من حركة تطور المجتمع العربي – الاسلامي في عصر زاخر بالصراع الذي كان سياسياً وان كانت صيغته الظاهرة دينية محضاً أول الامر، ودينية – فكرية في عهدها المتأخر.

القاعدة النظرية في مسألة مرتكب الكبيرة عند المعتزلة، مرتبطة بنشأة المعتزلة كمذهب فكري في العقائد الاسلامية.

القاعدة النظرية التي وضعها واصل بشأن مرتكب الكبيرة في سياق الكلام على الخوارج والمرجئة، لم تكن في معزل عن الواقع العربي – الاسلامي بما كان يصطرع فيه حينذاك من آراء وخلافات ومواقف سياسية، وان اتخذت هذه القاعدة "المعتزلية" وجهها النظري المجرد وطابعها الديني الخاص.

وسنرى – بعد- ان المعتزلة سيخوضون مع خصومهم معركة تتحول عملياً إلى معركة دموية تتبناها دولة بكامل اجهزتها في عهدين متناقضين من عهود الدولة العباسية.

وسنرى بذلك صحة استنتاج احمد امين القائل بأن رأي المعتزلة في مسألة مرتكب الكبيرة "يستتبع آراء سياسية خطيرة"، ولذلك "اضطر المعتزلة ان يطبقوا نظريتهم على الاعمال التي عملت منذ نشب الخلاف بين المسلمين" بين العثمانية والعلوية، ثم بين العلوية والأموية والخوارج. [5]

مذهب المعتزلة لم يظهر من الفراغ، ولم يقم على الفراغ، وانما خرج من تلك البذور الفكرية التي تنامت سريعاً بفضل ما احدثته افكار القدرية والجهمية من تفاعل النقيضين في مسألة حرية الانسان ومسؤوليته عن افعاله، ومن توافقهما معا – رغم تناقضهما في هذه المسألة- على النظر العقلي في العقائد الاسلامية، وعلى الرجوع إلى التأويل العقلي للنصوص الاسلامية، وان اختلفت وجهة كل منهما في هذا التأويل.

من هنا نقول ان البحث العلمي يرفض ما قد يستفاد من رواية الشهرستاني السابقة ومن الروايات المماثلة لها بشان نشأة المعتزلة ونشاة اسمها، من ان هذه الحركة ظهرت -أول ما ظهرت- حركة فردية قام بها شخص معين، هو واصل بن عطاء، كما يرفض البحث العلمي ما قد يستفاد من ظواهر تلك الروايات من ان انتقال واصل منحلقة في مسجد البصرة إلى حلقة أخرى في المسجد نفسه، هو الذي يحدد نشاة الحركة "المعتزلية"، بحيث يبدو – على هذا – انها وجدت بصورة عفوية ارتجالية فجائية اقترنت بعمل جسدي انفعالي آني، وبتغيير شخص معين مجلسه من مكان إلى مكان آخر، وليس بين المكانين سوى بضع خطوات. [6]

 

المبادئ الأساسية لمذهب المعتزلة :

مؤرخو الفرق الاسلامية يقسمون المعتزلة إلى عدة طوائف أو فرق، وينسبون كل طائفة أو فرقة إلى واحد من كابار مفكريهم ويسمونها باسمه، فيقولون مثلاً: الواصلية نسبة إلى واصل بن عطاء، والنظامية نسبة إلى ابراهيم بن سيار النظام .. الخ وقد عدهم الملطي عشرين فرقة، واوصلهم البغدادي إلى اثنين وعشرين فرقة.

اما الشهرستاني فيذكر منهم اثنتي عشرة طائفة، ثم يقسمهم مؤرخو الفرق إلى: معتزلة البصرة، ومعتزلة بغداد.

الاصول الخمسة فهي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومهما افتراق المعتزلة طوائف وفرقا فان هذه "الاصول الخمسة" هي الجامع بينهم.

اما الفوراق بين طوائفهم وفرقهم فهي ما يسمونها الفروع الواردة على تلك الاصول، وقد حصلت هذه الفوارق أو الفروع خلال تطور المذهب كلما ازداد الاتصال بين كبار مفكريه وبين الفكر الفلسفي في مختلف مصادره الخارجية، وكلما تعمقت الصلة بين الفكر العربي – الاسلامي والثقافات الفلسفية، ولا سيما اليونانية بعد انتشار الترجمة في العهد العباسي.

الخياط صاحب كتاب "الانتصار" وهو من كبار مفكري المعتزلة في القرن الثالث الهجري (القرن التاسع الميلادي) يقول: "وليس يستحق احد منهم (يقصد المعتزلة) اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين منزلتين والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

يبدأ الشهرستاني كلامه على المعتزلة بقوله: "ويسمون أصحاب العدل والتوحيد". فهذان المبدآن أكثر تحديداً وتمييزاً للخصائص التي تفرد بها المعتزلة بين مختلف الفرق والمذاهب الاسلامية.

وقد كان دي بور De Boer على حق اذ لحظ ان لقب "أهل العدل" هو اخص لقب اطلق عليهم "حينما توجه تفكيرهم إلى مباحث تختلط فيها الفلسفة بالكلام". [7]

 

 

 

 

الفصل الرابع : التوحيد المعتزلي

مسألة خلق القرآن:

لجأ المعتزلة إلى القول بأن كلام الله ليس "بقديم"، أي ليس من الصفات المعادلة للذات، وانما هو حادث، فالقرآن – وهو كلام الله باتفاقهم- حادث اذن، أي "مخلوق" ككل شيء مخلوق في الكون، فمعنى كون الله متكلماً -اذن- انه خالق الكلام.

هذه هي المسألة: منشؤها، وحقيقتها، كما قررها المعتزلة، لكنهم لم يتقصروا في تقريرها على ما تقدم، بل هم حاولوا فوق ذلك توكيد هذا الرأي ودعمه ببراهين اخرى يرمي بعضها إلى اثبات ان القول بقدم القرآن وازليته لا ينافي مبدأ التوحيد وحسب، بل ينافي كذلك عقلانية التشريع القرآني.

وذلك انهم قالوا: اذا افترضنا القرآن كلاما ازليا، أي صفة للذات الآلهية الازلية، كان معنى هذا ان الاوامر التي يشتمل عليها القرآن ازلية أي صادرة قبل ان يوجد المأمورون بها، أي انها كانت غير ذات موضوع قبل وجود البشر المكلفين بها.

فان البشر هم موضوع هذه الأوامر، فكيف يعقل ان يوجه الله أوامره إلى المعدوم؟ ، ان ذلك نوع من العبث الذي لا يجوز على الله، بل محال.

وقالوا ان الكلام، لكي يتحقق شرط وجوده، يحتاج إلى مكلم (بكسر اللام) ومكلم (بفتح اللام)، وقبل وجود المكلفين ليس هناك سوى مكلم من غير مكلم. بذلك يكون القول بأزلية القرآن نفيا لعقلانية التشريع ، وهو باطل. [8]

 

تأويل النصوص القرآنية :

بعد ان فرغ المعتزلة من اقامة البراهين العقلية على القول بخلق القرآن، انصرفوا إلى النظر في النصوص القرآنية يفسرونها وفق ما انتهى اليه النظر العقلي عندهم، وجعلوا من هذه النصوص، كما فهموها، دعامة لرأيهم.

فقد نظروا مثلاً في الآية: "كتاب احكمت آياته ثم فصلت" (سورة هود- الآية3)، فقالوا: ان هذه الاية دالة على ان القرآن مؤلف من اجزاء جاءت على دفعات متوالية (احكمت، ثم فصلت)، وذلك لا يكون الا للاشياء الحادثة غير الازلية.

ونظروا في الآية: "ان انزلناه.." (سورة الدخان – الآية 3) فقالوا انها ظاهرة الدلالة على الانزال وهو فعل حادث، فالازلي لا ينزل.

ولعل اقوى ما استندوا اليه من هذه النصوص آية: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها" (سورة البقرة – الآية 106). فهم يقولون ان النسخ يعني التغيير، وهو اظهر الظاهرات التي يتميز بها الحادث من القديم الازلي الذي لا يمكن ان يتعرض لاي تغيير. [9]

 

التيارات المعارضة للمعتزلة :

يمكن حصر وجهات النظر التي جابهت المعتزلة هنا في ثلاثة تيارات رئيسية:

أ- تيار السلفيين.  ب- تيار الحنابلة.  ج- تيار الاشعريين:

أ- التيار السلفي: ويسمى جماعة هذا التيار باسم "الصفاتية" لانهم يثبتون الصفات الازلية لله. وقد نشات هذه التسمية رداً على المعتزلة لنفيهم هذه الصفات.

فأهل السنة والجماعة، بوصف كونهم سلفيين أي تابعين لرأي السلف من المسلمين الأولين، كانوا يرون ضرورة الايمان بصفات الله كما وردت في القرآن ايمانا مطلقاً دون نظر عقلي فيها، ودون محاولة لتأويلها وفق النظر العقلي.

من هذه الصفات الواردة في القرآن: القدرة، والارادة، والعلم، والسمع، والبصر، والكلام. [10]

وهذه يجب الاخذ بمعانيها الظاهرة لغوياً، وترك تفسير دلالتها الحقيقية إلى الله وحده، وليس لاحد من البشر أن يفسرها بعقله، لان العقل لا يملك القدرة على ادراك المقاصد الالهية من هذه الصفات.

وقد كان السلف يقفون هذا الموقف منها، فيجب ان يبقى منهجهم هو المتبع ولا يجوز تخطيه مطلقاً.

من هنا كانت مجابهة السلفيين للمعتزلة في مسألة الصفات ومنها مسألة خلق القرآن، مجابهة محافظة صارمة، تمنع حتى الجدل والمناظرة في مسائل الدين، بل توجب الايمان بما جاء في القرآن وحديث النبي كما جاء والوقوف عنده، لان البحث في صفات الله: هل هي عين ذاته ام غير ذاته، وفي كيف تصدر الاشياء الحادثة عن القديم وكيف يؤثر علم الله القديم بالمعلومات الحادثة، هو بحث يتجاو قدرة العقل، ولذلك يكون مؤدياً إلى الانحراف عن خطة السلف، أي عن نهج الدين نفسه.

يبدو واضحاً من هذا العرض العام لمذهب السلفيين، ان الخلاف بينهم وبين المعتزلة يرجع، في جوهره، إلى الخلاف في مسألة العقل.

فهم – أي السلفيون- ينفون قدرة العقل على ادراك الحقائق الألهية ومنها حقيقة صفات الله. في حين ان المعتزلة يثبتون للعقل قدرته غير المحدودة في ادراك كل ما يتعلق بهذه الحقائق، وفي استخلاص البراهين العقلية الموصلة إلى هذه الحقائق دون الوقوع في الخطأ، وفي اعتبار النتائج التي تنتهي اليها هذه البراهين يقينية، ولذا يجب اتخاذها مقياساً يرجع اليه في تقرير مفاهيم العقائد وفي تأويل النصوص الدينية حتى تكون موافقة لهذا المقياس ومنسجمة معه.

في ضوء هذا الفرق الجوهري بين موقف التيار السلفي وموقف المعتزلة يمكننا ان نتبين الجانب التقدمي الأكثر وضوحاً في مذهب المعتزلة .

وفي مقابل ذلك نلخظ عند السلفيين مبالغة في انكار دور العقل إلى حد ان بعضهم ، لكي يلغي مكان العقل كلياً ويقطع عليه طريق التفكير في الامور الدينية، وفي الصفات بخاصة. [11]

مالك بن انس (96- 179 ه / 714 – 795)، وهو زعيم المذهب المالكي المنسب إليه من المذاهب الفقهية السنية الأربعة الرئيسة ، حين يحاول الرد على أهل التأويل الذين يرفضون الاخذ بظاهر الآيات القرآنية الدال على تشبيه الله بالاجسام، مثل آية "(الرحمن على العرش استوى" (سورة طه- الآية 5) التي يقول ظاهرها بأن لله عرشا وانه استوى على العرش، العرش شيء مادي، والجلوس عليه فعل مادي.

يقول مالك في محاولته الرد على ذلك: "الاستواء معلوم، والكيفية (أي كيفية الاستواء – الجلوس) مجهولة، والايمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".

نرى مالكاً ، اذن، يمنع حتى السؤال عن كيفية الاستواء على العرش، أو غيره مما يستدعي السؤال، ونراه يحكم على مجرد السؤال عن ذلك بأنه "بدعة"، و"البدعة" في الاسلام ضلال انحراف، فكيف اذا تجاوز الامر السؤال إلى التأويل، ولا سيما التأويل العقلي؟.

 

ب- التيار الحنبلي : ينسب هذا التيار إلى أحمد بن حنبل زعيم المذهب الفقهي السني الاخر بين المذاهب الاربعة ( -241 ه – 855م) .

وهذا التيار سلفي أيضاً، ولكنه تميز بقبوله التأويل المحدود.

واحمد بن حنبل واجه "محنة خلق القرآن" مواجهة مباشرة. وقد تعرض اثناء الاشهر الاخيرة من حياة الخليفة العباسي المأمون وطوال عهد المعتصم، إلى امتحان عسير في رأيه بخلق القرآن، اذ كانت الدولة العباسية قد تبنت في ذلك الحين رأي المعتزلة بهذه المسألة ، وأخذت تمتحن القضاة والفقهاء وزعماء المذاهب الاسلامية والحكام في مواقفهم منها.

وقد وقف احمد بن حنبل بشجاعة وثبات على رأيه المناهض لرأي المعتزلة والدولة رغم السجن والتعذيب، ورغم التخاذل الذي اصاب الكثيرين من اعداء فكرة خلق القرآن ، حتى خرج من السجن وهو أشد اصرارا على موقفه ذاك. [12]

 

ج- التيار الاشعري:

والحقيقة ان ظهور الاشعري (-330 ه / 941م) بمذهبه الكلامي المعارض لمذهب المعتزلة قد بلور آراء السلفيين في مذهب جديد متكامل الجوانب، بحيث تركزت فيه حركة المعارضة كلها التي انتصبت بوجه المعتزلة تحاربهم بسلاحهم نفسه، سلاح المباحث الكلامية، هذه الحركة التي تألف منها من المعتزلة، منذ ذلك الحين، خطان متوازان في مجرى واحد، هو مجرى البحث النظري الذي كان منه علم الكلام. [13]

نسجل ملحوظة عن التيار الاشعري، هي انه رغم كونه سلفياً، قد استخدم الطريقة العقلية كالمعتزلة.

 

 

الفصل الخامس: العدل المعتزلي

أهل العدل:

لم يكن اعتباطاً، في تاريخ الفكر المعتزلي، ان اطلق لقب "أهل العدل" على أصحاب مذهب الاعتزال جملة، بالرغم من ان فكرة العدل الالهي تدخل في صلب الاعتقادات الاسلامية عند مختلف فرق المسلمين ومذاهبهم.

ذلك ان المعتزلة لم يأخذوا بمبدأ العدل الالهي بمعناه الأولي البسيط الذي اخذ به المسلمون الأولون، ولا بمعناه السلفي الذي حدده السلفيون بعد ذلك على النحو الآتي:

"ان الله عدل في افعاله بمعنى انه متصرف في ملكه: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد". [14]

ان الظاهر من هذا التحديد كون العدل مستنداً إلى الايمان بفكرة ان المشيئة الالهية المطلقة التصرف لا تضع شيئاً في غير موضعه.

أما المعتزلة فقد حاولوا ان يخضعوا فكرة العدل الالهي للتأويل العقلي ولعملية "تنظير" كلامي فلسفي تحدد العلاقة بين الفعل الالهي والفعل الانساني، بل فعل الطبيعة.

وقد لخص "دي بور" عملية "التنظير" هذه بكلمته مفهوم العدل الالهي لا يستقيم لمقتضى العقيدة الاسلامية في نظر المعتزلة، الا ان يتضمن تحديد هذه العلاقة على وجه يتحقق فيه اختيار الانسان في افعاله، ليكون – بهذا الاختيار- مسؤولاً عما يفعل، وليكون الثواب والعقاب من الله بعد ذلك مترتباً على هذه المسؤولية ذاتها.

ففي رأي المعتزلة ان الانسان اذ لم يكن مختاراً في ما يفعل كان غير مسؤول عن افعاله، خيراً كانت ام شراً. واذا لم يكن مسؤولاً كان الثواب باطلاً لانه جزاف وعبث، وكان العقاب ظالماً. وكلا الامرين: الباطل والظلم، نوع من الشر، والله لا يصدر عنه الشر.

فللعدل الالهي اذن عند المعتزلة وضع خاص يقوم على معادلة عقلية منسقة منطقياً على قاعدتين: قاعدة ان الشر لا يصدر عن الله، وقاعدة ان الثواب والعقاب على فعل لا اختيار فيه هما شر.

لكن القاعدة الكبرى والأساس التي كانت المنطلق الواقعي غير المنظور، لتصور مفهوم العدل كما تصوره المعتزلة، هي قضية حرية ارادة الانسان في افعاله.  [15]

 

الأساس الاجتماعي لمفهوم العدل:

وليس من المصادفة ان معظم مفكري المعتزلة، بل اعظمهم شأناً في عالم الفكر واكثرهم تمسكاً بقضية العقل وقضية حرية الانسان ورفض فكرة القضاء والقدر، كانوا من تلك الفئة الاجتماعية التي يسمى ناسها بـ"الموالي". وهم الذين كانوا يعدون في مرتبة من المجتمع العربي حينذاك ادنى من مرتبة غير الموالي، اما لانهم كانوا ارقاء، او لانهم استرقوا بالأسر، او لانهم كانوا تابعين لاحدى القبائل بحلف يكون فيه الضعيف للقوي إلى حد الذوبان بحيث يصبح تابعاً له حتى في النسب.

فاي مفكر كبير من مفكري المعتزلة لم تلتصق باسمه صفة "مولى فلان" أو "مولى القبيلة أو العشيرة الفلانية" حتى في ايام مجده الفكري في حياته.. لابد ان ذلك كان يشعره بانتقاص مكانته الاجتماعية، وليس بعيدا ان يؤثر مثل هذا الشعور في شيء من اتجاهاته الفكرية دون ان يكون واعياً لذلك.

فهذا ابو الهذيل العلاف، مثلاً، بقيت هذه الصفة تلاحقه في كتب التاريخ إلى اليوم، فهو حتى في مؤلفات الباحثين المعاصرين "مولى لعبد قيس".

وكذلك النظام: فهو على عظم مكانته الفكرية لم يستطع هؤلاء المعاصرون انفسهم ان ينسوا أو يتناسوا انه "كان من الموالي".

وهكذا شان الجاحظ فقد قالوا انه كان مولى لقبيلة كنانة. ليس من غير اساس واقعي تاريخي في الحياة الفكرية العربية نفسها ان يقول البغدادي ان البدع في كل دين لا تأتي الا من ابناء الرقيق.

وهنا قد يجبز لنا منطق البحث ان نتساءل: اليس من الممكن ان يكون لهذا الواقع التاريخي – الاجتماعي اثر ما في نشوء ذلك المفهوم الخاص للعدل عند المعتزلة؟.

ولعل مما يجعل هذا التساؤل مشروعاً -من وجهة منطقبة- ان حرية الانسان هي احدى القاعدتين الاساسيتين لهذا المفهوم المعتزلي للعدل.

ونحن -طبعاً- لا نزعم ان الأثر الذي أشير اليه كان ملحوظاً عندهم بصورة واعية أو مباشرة، بل نزعم انه ربما كان لواقعهم الاجتماعي ذاك عمل داخلي خفي غير ملحوظ في صيروة هذا المفهوم بما يتضمنه من التمسك بفكرة حرية الانسان ورفض فكرة القدر التي رأينا لها في ما سبق جانباً أيديولوجياً بما اوردناه هناك من شواهد تاريخية تدل على ان فكرة القضاء والقدر كثيراً ما كانت تعبيراً عن أيديولوجية طبقية تمسك بها الحكام الامويون تمسكاً شديداً وحاربوا بها خصومهم ولا سيما القدريين الأوائل (معبد الجهني وغيلان الدمشقي الخ).[16]

وربما وجدنا احدى بصمات هذا الواقع متمثلة في مواقف سياسية معروفة للمعتزلة، سواء كانت هذه المواقف تجاه احداث عصرهم ام تجاه الاحداث الاسلامية السابقة التي حدثت في عصر صدر الاسلام.

من هذه المواقف -مثلاً- اتفاقهم على تخطئة معاوية في محاربته لعلي بن ابي طالب. ومنها قول بعضهم في الخليفة الراشدي الثالث عثمان "انه أوطأ بني أمية رقاب الناس وولاهم الولايات واقطعهم القطائع (الاقطاعات العقارية) ، وفتحت ارمينية في ايامه فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان، وحمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين الا عن بني امية، واعطى أبا سفيان بن حرب (والد معاوية) مئتي  ألف من بيت المسلمين في اليوم الذي امر فيه لمروان بن الحكم بمئة الف من بيت المال..".

ومن أظهر المواقف دلالة على حضور الاساس الاجتماعي في تفكير المعتزلة كون بعضهم يأخذ بمقالة الخوارج من انه ليس شرطاً ان يكون الامام من قريش، بل تجاوز بعض القائلين بهذا الرأي من المعتزلة حدود الخوارج، فقال انه اذا اجتمع قرشي واعجمي وتساويا في الفضل فينبغي ان يتولى الامامة الاعجمي.

ولعلنا نجد في الكلام التالي للاشعري مدخلاً صالحاً لاكتشاف العلاقة بين الموقف السياسي والموقف الفكري عند المعتزلة. يقول ابو الحسن الاشعري: [17]

"اختلفوا في المقدار الذي يجوز، اذا بلغوا اليه، ان يخرجوا على السلطان ويقاتلوا المسلمين، فقالت المعتزلة: اذا كنا جماعة وكان الغالب عندنا اننا نكفي مخالفينا، عقدنا للامام ونهضنا فقتلنا السلطان وازلناه واخذنا الناس بالانقياد لقولنا، فان دخلوا في قولنا الذي هو التوحيد وفي قولنا في القدر والا قاتلناهم. واوجبوا -أي المعتزلة- الخروج على السلطان على الامكان والقدرة اذا امكنهم ذلك وقدروا عليه".

فان هذا الكلام يحدد، بوضوح، موقف المعتزلة من قضية السلطة السياسية، فهم يفكرون بالوصول إلى هذه السلطة ليجسدوا فيها افكارهم حتى بوسائل العنف الدموي اذا تهيأت لهم القوة الكافية موضوعياً لتحقيق هذا الغرض.

المعتزلة يقولون: لا يكون الخروج (أي "الثورة" المسلحة لتغيير السلطة) الا مع امام عادل، ولا يتولى انفاذ الاحكام وقطع يد السارق والقود الا الامام العادل أو من يأمر الامام العادل، لا يجوز غير ذلك".

فالمعتزلة، اذن، يشترطون ان تكون السلطة السياسية – الدينية بقيادة امام، ويشترطون لهذه القيادة كون الامام عادلاً.

فما مفهوم العدل هذا عندهم؟

ان العدل الذي يشترطونه في الامام يتضمن الاخذ برأيهم في التوحيد وفي القدر.

فاذا عرفنا ان رأيهم في القدر لا ينفصل عن القول بحرية الانسان، أي رفض الحتمية القدرية التي تسلب الانسان اختياره في ما يفعل، استطعنا ان نستنتج من ذلك ان مفهوم العدل الدنيوي الأرضي عندهم لا ينفصل أيضاً عن قضية حرية الانسان هذه.

ومن هنا يمكننا اكتشاف العلاقة – في تفكيرهم- بين المفهوم الميتافيزيقي لللعدل، أي العدل الالهي، وبين مفهومه الواقعي العملي المتجسد في الامام العادل، أي في السلطة السياسية – الدينية العادلة (اجتماعياً).

بهذا التحليل يمكن القول بان "العقلانية" المعتزلية لم تكن "عقلانية" تجريدية وميتافيزيقية مطلقة، بل نستطيع ان نكتشف لها جانباً واقعياً عملياً يتصل بحياة الناس الواقعية، وان يكن هذا الجانب غير ملحوظ مباشرة في مباحثهم النظرية . [18]

 

بين العدل المعتزلي ، والمعرفة :

لما تقرر عند المعتزلة ان الانسان متفرد بين مختلف الكائنات بميزة حرية الاختيار في افعاله، وان امتلاكه خاصة العقل هو الاصل والمصدر في تفرده بتلك الميزة، كان طبيعياً ان يعالجوا مسألة المعرفة من حيث قدرة الانسان في تحصيلها، ودور العقل في هذا المجال، ومدى حدود قدرته، وان يعالجوا في هذا الموضوع انواع المعرفة، ومختلف وسائل الانسان في تحصيل هذا النوع وذاك من أنواعها، وكيفية تحصيله، ثم قيمة كل معرفة يكتسبها الانسان بهذه الوسيلة أو بتلك.

ان بحث هذه المسألة يدخل في بحث الأسس الرئيسة لنظرية العدل المعتزلية، فانه بقدر ما يكون لعقل الانسان من مجالات وممكنات معرفية، سعة وعمقاً، يكون مستند المعتزلة في نظرية العدل أكثر قوة وأرسخ حجة، فكيف بحثوا جوانب المسألة؟.

لكي نتناول الأمر بشيء من الاحاطة والاستيعاب نحتاج ان نتبع الطريقة التقليدية التي لا تزال تحتفظ بصحة منطقها وواقعيته في تقسيم المعرفة تقسيماً أولياً إلى قسمين رئيسين: المعرفة الحسية، والمعرفة العقلية، فضلاً عن ان ذلك ينسجم مع طريقة المعتزلة انفسهم في معالجة قضية المعرفة. [19]

 

أ- المعرفة الحسية:

يتصل بحث هذا النوع من المعرفة عند المعتزلة بمباحثهم المستفيضة بشأن النفس الانسانية أو الروح وعلاقتها بالجسم وبأعضاء الحواس الخمس وعلاقة هذه الحواس بعضها ببعض، ونظرتهم في الوظائف المعرفية لكل من الحواس الخمس هذه.

وقد اضطربت اقوالهم في تحديد النفس أو الروح، فاضطربت لذلك مذاهبهم بتحديد دورها في عملية الاحساس والإدراك ، أي المعرفة. [20]

ومهما يكن ، فإن جملة الكلام على المعرفة الحسية عند المعتزلة ، يدعونا إلى التزام استنتاجنا الأخير الذي انتهينا اليه في هذا الموضوع من كون المعتزلة –بوجه عام-  يأخذون بالمعرفة الحسية طريقاً صحيحاً لمعرفة العالم الخارجي. [21]

ب- المعرفة العقلية:

لقد أصبح واضحاً لدينا حتى الآن ان المعتزلة قد أحلت العقل محله الاسمى في أسس نظريتها المتكاملة الجوانب إلى حد كبير، وفي أسس المبادئ التي تنطلق منها نظرية الاعتزال بكاملها.

وما مسألة حرية ارادة الانسان عندهم، من حيث الاساس والمنطلق، سوى وجه من وجوه التطبيق الخلاق لنظريتهم الثابتة في مسألة العقل.

وكذلك الأمر في المسألة المعروفة في أدبيات الفكر المعتزلي بـ"مسألة الحسن والقبح العقليين" ، بل يصح لنا القول انه ما من مسألة كانت تطرحها حركة الحياة العربية – الاسلامية في عصر المعتزلة، من مسائل العقائد أو مسائل الشريعة أو مسائل عالم الانسان، الا انبرى المعتزلة لمعالجتها ووضع الحلول لها بالرجوع إلى العقل واعتماد حكمه في كل ذلك، من الوجهة النظرية والعملية معاً. [22]

"معرفة" الله :

نظرية المعرفة عند المعتزلة ترى أن العقل النظري هذا يؤدي مهمة المرحلة الأخيرة من مراحل المعرفة العقلية فانهم يقسمون المعرفة العقلية إلى قسمين أولاً، ثم إلى مراحل ثانياً.

فأبو الهذيل العلاف –مثلاً- يقول أن المعارف ضربان: أحدهما باضطرار وهو معرفة الله ومعرفة الدليل الداعي إلى معرفته. وما بعدهما من العلوم الواقعة عن الحواس أو القياس فهو علم اختيار واكتساب.

وهذا العلم الأخير هو ما نقصد بالعلم النظري، وهو نفسه الذي كان موضوع التعريفات السابقة الذكر.

اما معرفة الله، فان المعتزلة يعدونها من نوع المعرفة الاضطراية، أي التي لا تحصل بالاختيار والاكتساب، بل ببداهة العقل، بمعنى انها ليست ناشئة عن عملية تحويل الادراكات الحسية إلى ادراكات عقلية، ولا عن عملية تجريدية تحصل بوساطة الاقيسة الاستدلالية المنطقية والنظرية المحض. [23]

 

حاصل الفصلين: الرابع، والخامس

قضية العقل:

أوضحت لنا دراسة الفكر المعتزلي ان هذه الجماعة قد التزمت قضية العقل إلى حد يكاد يتخطى التزامهم ببعض الاصول المقررة في الاسلام، فجعلوا حكم العقل قاضياً بصرف نصوص القرآن عن ظواهرها حيثما كانت هذه الظواهر متعارضة مع ما يقتضيه العقل، حتى رأيناهم يجعلون حرية اختيار الانسان حاكمة على حرية ارادة الله ومفيدة لقدرته.

وما ذاك الا لان مبدأ حرية الانسان قائم عندهم على وجود العقل بالضرورة، وعلى ان وجوده لا معنى له ان لم تكن له قدرة الاختيار بالضرورة كذلك، وانه لولا هذا وذاك لسقطت مسؤولية الانسان عن افعاله، ولما كان العدل الالهي عدلاً حقاً. فقضية العقل هي النقطة المركزية في هذه المعادلة كلها.

القيمة التاريخية لتمسك المعتزلة في ذلك العصر بشان العقل إلى الحد الذي عرفناه، فان ذلك التمسك المتشدد الشجاع قد ساعد –كما نعتقد- على دفع الحركة الفكرية في عصرهم اشواطاً سريعة وبعيدة نحو آفاق جديدة للنظر العقلي والفلسفي بحيث استطاع ان يؤدي مهمة التحضير والتخمير لا للمرحلة الفلسفية وحسب، بل لانطلاقة النهضة العلمية المقبلة كذلك افقياً وعمودياً معاً. [24]

أحمد أمين يرى من نقاط الضعف في المعتزلة "انهم افرطوا في قياس الغائب على الشاهد، اعني في قياس الله على الانسان، واخضاع الله تعالى لقوانين هذا العالم، فقد الزموا الله – مثلاً- بالعدل كما يتصوره الانسان، وكما هو نظام دنيوي".

 

قضية السببية :

تمسك المعتزلة بمبدأ السببية في حدوث الاشياء والافعال، فحتى قضية خلق الله للعالم ربطوها بهذا المبدأ.

وقد رأينا كيف هم لا يفصلون بين مبدأ العلية في الطبيعة وبين ما يترتب على هذا المبدأ من مسؤولية في المستوى البشري الاجتماعي، دون ان يخضعوا افعال الانسان إلى الحتمية الجبرية.

وقد فرقوا بين العلية في افعال الطبيعة والعلية في افعال الانسان بأن الأول تخضع لقوانين ثابتة حتمية، واما الثانية فتخضع إلى عنصر آخر هو عنصر الارادة. وذلك انسجاماً مع مذهبهم في حرية اختيار الانسان، وانسجاماً مع المبدأ الذي اقاموا عليه مذهب حرية الاختيار هذا، نعني به العقل.

وتتجلى القيمة التقدمية لتمسك المعتزلة بمبدأ السببية وللبحوث النظرية التي أوضحوا بها هذا المبدأ، اذا قارنا موقفهم في هذه المسألة بالموقف الاخر المعارض الذي كان سائداً عصرهم، والذي كان الاشاعرة بالاخص يحملون رايته منكرين مبدأ السببية انكاراً مطلقاً.

وبناء على هذا الانكار لمبدأ السببية استبعد العقل عن مجال المعرفة، وارتبطت المعرفة ارتباطاً مطلقاً بالمصدر الالهي . [25]

 ان النظرة المقارنة هنا تكشف دون شك عن فضل المعتزلة في كونهم واجهوا تيارا فكريا اسقط من الكون كله وجود القوانين الموضوعية التي تنظم العلاقات بين الاشياء والاحداث، كما اسقط بذلك امكان استقلال العقل بالمعرفة، مهما يكن نوع المعرفة.

لقد واجه المعتزلة هذا التيار الفكري الاخذ به يومئذ جمهرة واسعة من أهل الرأي والنفوذ الديني، وبينهم الاشاعرة وانضم اليهم –بعد- فريق من أهل علم الكلام واهل المذاهب الاسلامية من السنة والشيعة.

ولكن المعتزلة على اختلاف ارائهم في كثير من المسائل اتفقوا على مواجهة هذا التيار بسلاح فكري نظري متقدم يدافعون به عن العقل وعن مبدأ السببية من حيث هو قانون كوني شامل، ومن حيث هو مبدأ عقلاني تستند اليه سائر القوانين الموضوعية في الكون والطبيعة وعالم الانسان.

هذا الجانب أيضاً من جوانب الفكر المعتزلي يقدم لنا عنصراً اخر من العناصر التي تتكون منها النظرة التاريخية العلمية لدور المعتزلة التقدمي في تاريخ الحركات الفكرية لا على الصعيد العربي – الاسلامي وحسب، بل على صعيد أوسع منه قد يصح القول انه صعيد الفكر البشري، باعتبار ان المنطقة التي ازدهر فيها نشاط الفكر المعتزلي أصبحت أحد مراكز الفكر العالمي اثناء فترة طويلة من العصور الوسطى.

ولا شك ان للمعتزلة دوراً أساسياً في تحضير الظروف الفكرية لامكان تحول هذه المنطقة إلى مثل هذا المركز التاريخي العظيم.  [26]

حسن كانوا يبحثون مسائل عالم الطبيعة وعالم الانسان ، لم يكونوا يبحثونها لذاتها، بل من حيث هي عندهم وسائل فقط لبحوثهم في مسائل عالم "الميتافيزك".

انهم كانوا يفتقرون في ظروفهم التاريخية إلى وسائل المعرفة التجريبية في مثل هذه المسائل، اذ لم تكن العلوم الطبيعية والإنسانية التجريبية قد بلغت مرحلة من التقدم في المجالات العملية تستطيع ان تضع هذه الوسائل في متناول البحوث النظرية التي كانوا يعالجونها حينذاك.

لكن ينبغي ان استثني هنا الجاحظ، وهو معتزلي يعده المؤرخون صاحب مذهب خاص في الاعتزال كما يعدونه بين ابرز تلاميذ النظام.. نستثنيه لانه تفرد بين الجماعة بنزعة التجريب وبنوع من المنهج العلمي في هذا المجال، غير ان هذه النزعة لم تنعكس انعكاساً واضحاً وتاماً في آرائه الاعتزالية، كما انعكست في آثاره العلمية والأدبية.

 

طمس التراث المعتزلي:

هناك واقع تاريخي معروف يثير الاسف ويدعو للدهش والتساؤل: هل كان من باب المصادفة ان يكاد لا يمضي سوى عهد قصير منذ غاب المعتزلة عن صعيد النشاط الفكري في خلافة المتوكل العباسي سنة 847 ميلادية، حتى تغيب عن المكتبة العربية مصادر الفكر المعتزلي الأصلية بجملتها، أي تلك المصادر والوثائق التي وضع فيها المعتزلة أفكارهم واصولهم النظرية كما صاغوها هم بأنفسهم بصورتها المتكاملة في مؤلفاتهم؟.

من العسير ان يقتنع الباحث بان شيئاً من المصادفات التاريخية هو الذي اساء هذه الاساءة الغريبة للفكر والعلم والتاريخ، رغم كثرة ما حدث في تاريخ الفكر العربي – الاسلامي من مثل هذه المأساة.

ذلك ان هذا الأمر حدث في ظروف تختلف كثيراً عن الظروف التي بدأ فيها التراث العقلي العربي – الاسلامي كله يتعرض للتشتت والضياع.

فلماذا كان نصيب الفكر المعتزلي وحده ان يتعرض لهذه المحنة في مرحلة سابقة بعيدة جداً عن تلك الظروف المتأخرة التي شملت المحنة فيها كل هذا التراث؟.

لعل ابرز الملامح التقدمية للفكر المعتزلي، كانت هي السبب في ما حدث لتراث هذا الفكر من غياب مفاجئ عن المكتبة العربية في وقت مبكر من تاريخ الحركة العقلية العربية.

فقد تألبت حينذاك عدة تيارات فكرية وسياسية محافظة على الفكر المعتزلي بالعداء الصارخ الذي ظهر بأشكال مختلفة، كان أشدها عملية طمس وثائقه ومصادره الاصلية بصورة كلية وشاملة  حتى لم يصل منه للعصور المتأخرة سوى مصدر واحد هو كتاب "الانتصار" لابي الحسن الخياط، رغم ان مؤرخي الفرق والمذاهب الاسلامية يذكرون الكثير من هذه المصادر غير المعروفة لنا حتى الآن.

ان القضاء على تراث الفكر المعتزلي على ضخامته وخصبه المعروف قد حال بيننا وبين الاطلاع عليه كاملاً متكاملاً غير مجزأ وغير مشتت ومتناثر في المصادر غير المعتزلية، وفي المصادر الاشعرية بخاصة وهم خصوم الداء للمعتزلة.

ومن هنا لم يكن لنا من سبيل إلى دراسة هذا التراث الا تلك المصادر التي قدمته الينا اشلاء ممزقة فاقدا روح التكامل والتلاحم، وبذلك فقد تماسك بنائه الداخلي الاصيل، وفقدنا نحن الباحثين امكان رؤيته في حركته وتطوره بصورته المركبة والمنطقية التي بها نشأ ونما وتتطور.

وفي اعتقادنا ان مأساة المعتزلة بتألب اعدائهم على طمس تراثهم الفكري، هي اشد قساوة من مأساتهم بتألب هؤلاء الاعداء على اضطهادهم جسدياً منذ عهد الخليفة العباسي المتوكل . بل الصحيح القول ان مأساتهم الأولى هي مأساة للفكر والعلم والتاريخ كذلك.

ولنا ان نتساءل الآن: لماذا كان هذا العداء اللدود للمعتزلة، ولماذا كانت هذه المأساة المزدوجة؟

المسألة واضحة، فان الطابع العقلي التحرري الذي يغلب على تفكيرهم محتوى وأسلوبا، وهو طابع متقدم جداً بالقياس إلى ظروف عصرهم ومجتمعهم، هو الذي جمع بين مختلف الفرق والمذاهب والفئات الاجتماعية المحافظة لا سيما الفئات ذات الموقع الاجتماعي الأكثر ارتباطاً بمواقع أهل النظام الثيوقراطي لدولة الخلافة. [27]

ومن هذه الفئات أهل الحديث والفتيا بالاغلب – نقول: ان الطابع العقلي هو الذي جمع بين هؤلاء على صعيد واحد، رغم كل الفوارق بينهم، نعني: صعيد العداء للفكر المعتزلي ومناهضة خطه العقلاني التحرري.

صحيح ان مجمل الفكر المعتزلي لم يخرج من اطار الايديولوجية الاسلامية، أي الاطار الجامع بين المعتزلة وخصومهم الاشاعرة. لكن، يجب النظر – من ذلك- إلى الجانب المميز للمعتزلة، أي الجانب الذي قسم اهل هذه الايديولوجية الواحدة الجامعة إلى مذهبين اثنين متمايزين: معتزلي واشعري، بل مذهبين مختصمين، بل متعارضين.

ان تمسك المعتزلة بقضية العقل وقضية حرية ارادة الفعل والترك لدى الانسان، هو ما دفع الفكر المعتزلي ان يشق طريقه الخاص الذي أدى به إلى التفرد بنتائج وضعت الفكر المعتزلي هذا، موضوعياً، كفتيل يفجر التناقضات داخل ايديولوجيته ذاتها.

كان العداء للمعتزلة اذن، عداء لتلك النتائج بقدر ما كانت تحدثه من تصدعات في بنية تلك الايديولوجية.

ومن هنا رأينا موجة هذا العداء تمتد حتى تشمل العلوم والفلسفة. وما ذاك الا لان العلوم التطبيقية والفلسفة تشتركان في استخدام مبادئ المعرفة العقلية، وان اختلفت طريقة كل منهما في استخدام هذه المبادئ .

لكن الذي حدث تاريخياً ان هذه الموجة، رغم عنفها ورغم بلوغها درجة العنف الدموي، لم تستطع ان تخمد الجذوة التي أجَّجها الفكر المعتزلي.

كيف ثبتت الحركة العقلية بوجه الارهاب؟

نصوغ السؤال بشكل آخر: كيف استطاعت حركة النظر العقلي، وشكلها الفلسفي خصوصاً، ان تستمر في عملية الصيرورة رغم استمرار تلك الموجة المعادية.

يفسر احد الباحثين المعاصرين ذلك بأن حركة النظر العقلي في العقائد الاسلامية قد وجدت اداتها المنظمة في المنطقة، فوجدت فيه صيغها النظرية بحيث اصبح من غير السهل اخمادها، ولكن هذا التفسير لا يكشف عن الحقيقة بكاملها. صحيح ان دخول المنطق في الحركة كان عاملاً منظماً ساعد على صياغة نظرياتها صياغة منسقة، ولكن تأثيره لم يتجاوز هذا الجانب الشكلي، فهو لم يدخل بعدا جديداً في أبعاد الحركة من حيث محتوى الافكار واتجاهاتها وموضوعاتها.  [28]

ولذلك نرى انه من المستبعد، واقعياً، ان يكون المنطق وحده هو الذي وهب الحركة العقلية والفلسفية تلك القوة التي مكنتها من البقاء والثبات والاستمرار في تطورها رغم تعاظم موجات الارهاب المتلاحقة عليها منذ محنة المعتزلة إلى عهد الغزالي.

وفي اعتقادنا ان مصدر ذلك الصمود الذي صان حركة النظر العقلي يومئذ من ان تجرفها موجات الارهاب، بأشكالها الفكرية والجسدية، ومن أن تلقي بها في ما وراء التاريخ، انما هو المصدر نفسه الذي كان عامل نشوئها، هو الحياة نفسها.

نعني حركة تطور المجتمع العربي – الاسلامي نفسها.. فهذه كما كانت مصدراً لنشأة حركة النظر العقلي على أيدي القدريين الأولين في بادئ الأمر، ثم على ايدي اخلافهم المعتزلة، كانت هي ذاتها كذلك مصدراً لبقاء هذه الحركة وصيرورتها. بل يمكن القول أن الحاجة إلى استمرارية هذه الحركة وتوجها أكثر فأكثر، أصبحت حاجة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحركة تطور هذا المجتمع وتقدمه. لا سيما ان التطور الثقافي – بخاصة- قد وجدت قواعده الراسخة النامية مع تنامي حركة التطور الاجتماعي، ثم تنامي حركة الترجمة والتعريب لالوان شتى من الثقافات.

فان التطور الذي فرضته ظروف العلاقات الاجتماعية في ظل نظام الخلافة من تفاعلات نامية بين خصائص تاريخية متنوعة لعدد من الشعوب، أصبح من القوة بحيث لم تكن تستطيع اية قوة قمعية محافظة ان تقف بطريقه عائقاً وكابحاً.. ولا بد من القول، هنا، ان نوع المشكلات السياسية المتصلة بالانقسام المذهبي وما استدعاه هذا الانقسام – بفضل التطور الثقافي المشار اليه- من النظر في العقائد نظراً عقلياً ارتبط تاريخياً بالفكر الفلسفي – نقول: ان هذا الواقع نفسه قد فرض ان يكون الفكر المنطقي الفلسفي هو الشكل المختار الأول والارفع بين اشكال الوعي للتعبير عن واقع التطور المتحرك بقوة في المجتمع العباسي.

لذلك كله لم يكن يسيراً على حركة العداء للمعتزلة وللاتجاه العقلي الفلسفي الذي وضعوا قواعده الأولى، ان تقضي على هذا الاتجاه ، ولا ان تقف دون نموه وتطوره، بل على العكس: فان هذا العداء وما اقترن به من اضطهاد وعنف دموي، قد زاد في اندفاع الحركة الفلسفية، وزاد في تجنيد الانصار لها بين مختلف اوساط الفكر والثقافة وأوساط المذاهب الاسلامية ذاتها، لا سيما الأوساط ذات الايديولوجيات المناقضة لايديولوجية نظام الحكم التيوقراطي لدولة الخلافة. [29]

مأساة الفكر المعتزلي التي كانت في الوقت نفسه مأساة للفلسفة ذاتها حينذاك، لم تعرقل سير تطور هذه الحركة في العالم العربي – الاسلامي. بل الواقع المؤسف ان هذه المأساة قد اصابت الحركة العقلية، بمضمونها العام، بانتكاسة ظلت تعاني آثارها حتى نهاية تاريخها في عصر انهيار دور العرب الحضاري في الشرق والغرب منذ القرن الخامس عشر الميلادي.

ولولا حدوث هذه الانتكاسة لكان من المفترض- بحكم ظاهرات التقدم العلمي في القرن التاسع الميلادي- ان تتجه الحركة العقلية، والفلسفية بخاصة، اتجاهاً أكثر واقعية وأكثر ارتباطاً بنتائج تطور العلوم التطبيقية في ذلك العصر. [30]

فقد طغت، منذ عهد المتوكل، موجة النزعة السلفية المحافظة إلى الحد الذي يصفه المؤرخ المسعودي بانه "لما افضت الخلافة للتموكل امر بترك النظر في الجدال، والترك لما كان عليه الناس في ايام المعتصم والواثق، وامر – أي المتوكل- الناس بالتسليم والتقليد، وامر شيوخ المحدثين بالتحديث واظهار السنة والجماعة".

"ومع انه (المتوكل) كان من اظلم الخلفاء، فقد مدحه أهل السنة واغتفروا له سوء فعاله المحنة (أي محنة سيطرة الفكر المعتزلي).

ويتحدث السيوطي في الموضوع نفسه فيقول عن المتوكل انه ".. استقدم المحدثين إلى سامراً (عاصمة المتوكل)، واجزل عطاياهم، واكرمهم، وامرهم بان يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية. (وهما المسألتان اللتان نفاهما المعتزلة).

"ثم أمر (أي المتوكل) نائب مصر أن يحلق لحية قاضي القضاة بمصر أبي بكر محمد بن أبي الليث (وهو معتزلي) وان يضربه ويطوف به على حمار، ففعل، وولى القضاء بدله الحارث بن مسكين من أصحاب مالك" والمعروف ان مذهب مالك الذي ينتمي اليه الحارث بن مسكين هذا، هو اشد المذاهب الفقهية تمسكاً بالنزعة السلفية واكثرها اتباعاً للحديث بتشدد بالغ، والدها عداء للنظر العقلي في العقيدة والشريعة.

من هنا نفهم مغزى هذه الرجعة في عهد المتوكل إلى سيطرة النزعة الأولى عقب الهزيمة السياسية التي مني بها المعتزلة على يد هذا الخليفة، فهي رد فعل رجعي لحركة المعتزلة التي وطدت سيطرة النزعة العقلية لا في مجال بحث العقائد وحسب، بل في مجال التشريع الاسلامي كذلك.

ومن المعروف تاريخيا، في هذا الموضوع، ان المعتزلة قد فصلوا بين المجالين: مجال العقائد ومجال التشريع، وهذا الفصل كان نتيجة اقدامهم، منذ القرن الثالث الهجري، على الفصل بين موضوعات "علم الكلام" – وهو علم العقائد- وموضوعات "علم الفقه" – وهو علم التشريع- بعد ان "كانت جميع كتب الكلام المعتبرة عند جمهور الامة الاسلامية تتناول بعض الموضوعات الفقهية". وبذلك كان المعتزلة "أول فرقة اسلامية تحررت من نزعات الفقهاء كلها، فكانوا هم الفرقة الكلامية الوحيدة التي تعالج "الكلام" وحده بين الفرق الخمس الكبرى التي كان المسلمون منقسمين اليها في ذلك العهد، وهي أهل السنة والمعتزلة والمرجئة والشيعة والخوارج، وقالوا ان كل مجتهد مصيب في الفروع (التشريع).

وكان منهم –أي من المعتزلة- رجال في جميع المذاهب الفقهية حتى بين أصحاب الحديث الذين يعتبرون عادة ألد اعداء المتكلمين".

ان هذا الواقع من أمر المعتزلة يؤدي شهادة جديدة للتأثير العميق الذي احدثه تفكيرهم في توجيه الحركة الفكرية في عصرهم نحو النظر العقلي، ثم الفلسفي بالخصوص ، وكان هذا التأثير من الحيوية والرسوخ بحيث لم تستطع موجات العداء للعقل والمعرفة العقلية ان تقضي عليه. [31]

 

 

 

[1] حسين مروة – النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية – الجزء الأول– دار الفارابي – بيروت – الطبعة الأولى 1978 .

[2] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص631

[3] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص633

[4] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص634

[5] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص637

[6] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص639

[7] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص644-645

[8] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص678-679

[9] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص681

[10] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص686

[11] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص687

[12] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص688-689

[13] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول - - ص 692

[14] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص763

[15] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص764

[16] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص765

[17] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص766

[18] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص767

[19] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص790

[20] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص791

[21] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص802

[22] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص803

[23] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص806

[24] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص822-823

[25] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص825

[26] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص826

[27] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص829

[28] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص830

[29] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص831

[30] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص832

[31] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص834-835