لم يسبق لتاريخ البشرية أن شهد تشكل لتحالف بالقدرة العسكرية والاقتصادية التي يمتلكها حلف الناتو، وإذا شئنا الحكم على هذا الحلف ودوره في التاريخ البشري فعلينا البدء من قراءة قدراته او بالأصح قدرته على فرض ما يشاء في هذا العالم وتحديدًا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وحل حلف وارسو الذي يفترض أنه كان المعادل الرادع لحلف الناتو.
الفكرة هنا أنك إن امتلكت كل هذه القوة العسكرية التي تقف وراءها أهم وأكبر الاقتصاديات في العالم، وأكثر الدول هيمنة على المؤسسات الدولية، وأخضعت الغالبية العظمى من حكومات العالم لك ودفعتها لتنفيذ سياساتك، فأنت بالتأكيد مسؤول عما صار إليه شكل العالم حاليًا. ووضع العالم، عموم البشر بما في ذلك غالبية أولئك الذين يعيشون في دول الناتو ذاتها غير سار أبدًا.
الناتو الذي يضم الولايات المتحدة، أكبر قوة عسكرية في التاريخ البشري وبما لا يقاس بأي قوة أخرى، وبجانبها عشرات من الترسانات العسكرية للدول الأكثر تقدمًا صناعيًا، والتي تنتشر قوات عسكرية تابعة لدوله في القارات الستة، يفرض الحصار فعليًا على كل الدول التي ترفض الانصياع التام لسياساته، ويشن حروبًا دورية على دول أخرى من حين لآخر، ويهدد بتدمير عدد من أكبر الدول في العالم لأسباب تبدو لمعظمنا غير واضحة أو على الأقل غير مقبولة.
وحيثما يهيمن الناتو كليًا خارج حدود دوله، تعيش الشعوب تحت سلطة الحكومات الخاضعة له "حلفاؤه حسب الصيغة المعلنة" في فقر دائم وتبلغ نسب الجوع وسوء التغذية معدلات هائلة، وتسود الفوضى والنزعات المتطرفة حيثما حل أو تدخل"لمكافحة الإرهاب او فرض السلام حسبما يعلن"، وفي دول الناتو ذاتها يتم تكريس الموارد لمصلحة الصناعات العسكرية ومشاريع الهيمنة على اختلاف أدواتها، فيما يستمر التراجع في حقوق العمال وفي ظروف المعيشة وتتعرض قطاعات الصحة لإهمال وتهميش كارثي، ويكون على ملايين البشر الموت بفعل فيروس واجهته هذه الدول بذات الأدوات البدائية التي واجه فيها البشر الانفلونزا الإسبانية منذ مائة عام. القاتل الاكبر في تاريخ الإنسانية بعدد ضحاياه المباشرين وكذلك بعدد الضحايا غير المباشرين، يهدد اليوم بحرب عالمية ذريعتها الدفاع عن أوكرانيا ضد غزو روسي. نعم أوكرانيا تلك التي لا يميز معظمنا بينها وبين روسيا وبيلاروسيا، والتي حكم بعض من مواطنيها روسيا وغيرها كجزء من الاتحاد السوفياتي في عهد سابق، هؤلاء السلاف والروس وغيرهم الذين عاشوا لالاف السنين مع بعضهم في وئام وتصارعوا احيانًا وتآلفوا احيانًا، مهددين اليوم بحرب يدق حلف الناتو طبولها، ولو تقاتلوا ألف سنة لن يخسروا من الأرواح ربع العدد الذي قد يقتله تدخل الناتو في أيام معدودة.
مدعاة الحشد الغربي على حدود روسيا وأراضي أوكرانيا هو حماية الأخيرة من اجتياح روسي وشيك، حسب زعم المصادر الغربية والذي نفته عشرات التصريحات الروسية، وذلك بعد سنوات من الهيمنة الغربية على أوكرانيا جارة روسيا واتخاذ اراضيها منطلق للمشاريع العدائية على الحدود الروسية، وكأن المنتظر هو ازدهار السلام حين تمضي في تسليح بلد فقير مثل أوكرانيا وتحريضه على جيرانه رابطًا مساعدتك المزعومة بالتزامه بسياساتك العدائية تجاه هؤلاء الجيران.
"لن تشتعل الحرب إذا كان الأمر منوطًا بروسيا وحدها" هذا هو القرار الروسي المعلن، ولسنا هنا في موضع تقييم السياسات الروسية، ولكن المؤكد أن روسيا لا تريد الحرب، وقد يكون من حسن حظ البشرية أن روسيا تمتلك ما يكفي من القوة لردع الناتو عن خوض حرب معها في جوارها الحيوي، فدون ذلك كلفة كبيرة لا تبدو الحكومات الغربية راغبة بدفعها في هذه المرحلة.
لكن هذا التسخين المتعمد يؤتي ثماره بالنسبة للمنظومة المهيمنة على عالمنا، فالموازنات العسكرية سترتفع مرة أخرى على حساب الصحة والتعليم وحقوق العمل، وستزداد معها ثروات شركات صنع السلاح ومنظومات الاستشارات العسكرية وجحفل الجنرالات من مجرمي الحرب ستزداد أوزانهم أكثر فأكثر في خدمة سياسات الفتك والتدمير والعدوان. منع ذلك سيحدث فقط بهزيمة هذه البنية العدوانية والتي يمثل الناتو آلة حربها علينا جميعًا.