مقابلة مع يولي نوفاك عن (هآرتس 28/1/2022) ترجمة غانية ملحيس
ترجمة لمقابلة مطولة أجرتها الصحفية شاني ليتمان مع يولي نوفاك، المديرة التنفيذية السابقة لمنظمة “كسر جدار الصمت” ومؤلفة كتاب ”من تظن نفسك؟” الذي صدر مؤخرا باللغة العبرية، وقد تم نشرها في هآرتس باللغة العبرية بتاريخ21/1/2022، ثم نشرتها باللغة الانجليزية بتاريخ 28/1/2022 . ولأهميتها البالغة حرصت على ترجمتها كاملة، فهي من المقابلات النادرة التي تلقي الضوء على فظائع الإرهاب الذي يمارسها النظام الصهيوني ضد الشباب من يهود إسرائيل، وهم قلة قليلة، بذءوا يتشككون بصحة الرواية الإسرائيلية – الصهيونية حول الخطر الوجودي الذي يتهدد يهود إسرائيل خارج إطار نظام الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني. وباتوا يتلمسون مخاطر استمرار هذا النظام على مستقبلهم. ويدعون للنضال من أجل تفكيكه، وتقويض مرتكزاته. ويدركون صعوبة ذلك في ضوء تنامي سيطرة اليمين العنصري على مراكز صنع القرار، وضعف وتراجع اليسار الصهيوني وانخراطه في النظام. ويؤكدون الحاجة إلى تضافر كل الجهود وفي طليعتها النضال الفلسطيني والضغط العالمي .
المقابلة تحتاج إلى قراءة تحليلية معمقة تفوق قدرة التقديم الموجز الذي اعتدته للمقالات المترجمة وسأفرد لها مقالا منفصلا (غانية ملحيس).
اتهمها وزراء الحكومة بالخيانة وهي تتلقى تهديدات روتينية بالقتل. شعرت يولي نوفاك، التي ترأس مجموعة “كسر الصمت” المناهضة للاحتلال، أن السبيل الوحيد لها هو الفرار، بعد رحلة طويلة بعيدة عن إسرائيل، وخلصت إلى أن اليسار الإسرائيلي يجب أن يتخذ اتجاهات أكثر راديكالية.
شيء ما أو شخص ما ورائي يضغط على يولي نوفاك. إنها تتحدث إلي، لكن عينيها تزوغان باستمرار، وهي لا تنتهي من إكمال جملها. استدرت فرأيت شابا يقف على مسافة متر مني، ويبدو أنه مستغرق في تفقد هاتفه. تتمتم نوفاك: “أنا لا أحب مظهره”. في الطرف البعيد من الساحة، وليس بعيدا عنا، ينتظر صف من الناس للدخول إلى الخيمة حيث يتم إجراء اختبارات فحص الكورونا. تواصل نوفاك التحديق في الرجل مع الهاتف، وأخيرا تقول له مرحباً. تكشف محادثة قصيرة أنه ينتظر دوره للاختبار، وفي هذه الأثناء يتجول قليلا.
توفر احتمالية إصابته بالعدوى عذرا جيدا للطلب منه بالتحرك مع ابتسامة، دون الحاجة إلى توضيح أن لا علاقة للسبب الحقيقي بالوباء، وكل شيء بدافع الخوف أو الذعر الذي يصيب نوفاك في كل وقت تعود فيه إلى ساحة حبيمة وسط تل أبيب. فهنا شعرت لأول مرة أن حياتها في خطر .
كان ذلك في صيف العام 2014، مساء يوم السبت، بعد أيام قليلة من بدء عملية الجرف الصامد الإسرائيلية في قطاع غزة . قصف الجيش غزة. نوفاك، التي كانت آنذاك المديرة التنفيذية لمنظمة كسر جدار الصمت – وهي منظمة تجمع وتنشر شهادات من الجنود الإسرائيليين وجنود الاحتياط المسرحين حول تجاربهم في الأراضي المحتلة – كانت تشارك في مظاهرة في الميدان للدعوة للتضامن مع كل من سكان غزة وبلدة سديروت الإسرائيلية بالقرب من حدود غزة. حدثت مواجهات بين المتظاهرين من اليسار والمتظاهرين من اليمين. جرى فصل المجموعتين من قبل بضع عشرات من ضباط الشرطة. في الساعة التاسعة، سمع دوي صفارات الإنذار عندما أطلقت حماس صواريخ على تل أبيب.
تتذكر نوفاك: “كل رجال الشرطة الذين كانوا هنا تبخروا في لحظة”. “لقد اختفوا للتو”. ثم بدأ الملثمون بضربنا بالهراوات. تم تجاوز الخط. كان عنفا من النوع الذي عرفته من جولات في الخليل وأماكن أخرى في المناطق، لكن كان الأمر مخيفا للغاية لحظة وصوله فجأة إلى وسط تل أبيب. إنها ليست بلعين، إنها ساحة حبيمة “.
كانت هذه هي المرة الأولى التي يهتز فيها شعورها بالأمان الجسدي والاجتماعي. بعد أكثر من عام بقليل، وبعد أن تم تصنيف المنظمة التي ترأسها على أنها طابور خامس، تلاشى إحساسها بالأمان تماما. بحلول ذلك الوقت، لم تعد تخرج بمفردها، ولكن دائما بصحبة شخص ما للعناية بها. بدت لها الشوارع المألوفة وكأنها منطقة مجهولة. تقول: “لم أكن أعرف ذلك حينها“، “لكن خسارة الشوارع كانت مرحلة أخرى على طريق فقدان الوطن. كان ذلك اعترافا بحقيقة أنه لم يعد أمانا لنا هنا”.
شاني ليتمان: من “نحن”؟ اليساريون؟ الإسرائيليون؟ الناس؟
يولي نوفاك: “عندما انضممت إلى منظمة كسر جدار الصمت، كان واضحا لي أنني كنت هناك لإدارة منظمة لحقوق الإنسان في بلد ديمقراطي. وهذا يعني أن لي الحق في التعبير عن الرأي والانتقاد أيضا. وأن جهاز الدولة يفترض به أن يسمح لي بأن أفعل ذلك، وأن يحميني بطريقة تضمن ذلك الحق. كنت أعلم أن الجهاز غير عادل بل وقاس جدا مع الأشخاص الذين ليسوا مثلي. ولكن ذلك لم يقوض ثقتي الأساسية في النظام، الذي لم يزعجني حتى هذه المرحلة. لقد كبرت من خلاله، وأعطاني كل الفرص للنجاح”.
شاني ليتمان: وماذا حدث؟
يولي نوفاك: ”بضربة واحدة، في غضون أسبوع، انقلب العالم علينا رأساً على عقب، ولم يعد شيء يعمل بالطريقة التي اعتقدت أنه من المفترض أن يعمل بها.” حدثت اللحظة الأولى من هذا الاضطراب في 13 كانون الأول /ديسمبر/ 2015 – وهو حدث كتبت عنه نوفاك في كتابها الصادر حديثا – “من تظن نفسك؟” (عليات حجاج/يديعوت أحرونوت، بالعبرية). الأشخاص الذين هم اليوم أعضاء كنيست من الائتلاف – ومن بينهم ميراف بن آري وشارين هاسكل ويفات شاشابيتون – حثوا الرئيس، آنذاك، رؤوفين ريفلين على إلغاء مشاركته في مؤتمر تعقده صحيفة هآرتس في نيويورك، والذي يشارك فيه ممثلون عن منظمة كسر جدار الصمت هناك. كان من المقرر أيضا أن يتحدث أفنير غفارياهو – مدير المنظمة اليوم. وزعم أعضاء الكنيست أن منظمة “كسر جدار الصمت” كانت تقوم بحملة لنزع الشرعية عن جيش الدفاع الإسرائيلي ودولة إسرائيل. (لم يلغ ريفلين مشاركته).
بعدها ببضعة أيام، أصدرت منظمة إم تيرتزو اليمينية تقريرا عن “عملاء أجانب” (بالعبرية، شتوليم، تعني “نباتات”)، زاعمة أن الحكومات الأجنبية كانت تدعم المنظمات اليسارية المحلية وتعمل من خلالها ضد جنود جيش الدفاع وإسرائيل. كانت الذروة في ذلك الأسبوع هي إطلاق مقطع لإم تيرتزو تم فيه تسمية قادة أربع منظمات حقوقية: كسر جدار الصمت، وبتسيلم، واللجنة العامة لمناهضة التعذيب، ومركز الدفاع عن الفرد – كمؤيدين للإرهاب الفلسطيني.
أعلن وزير التعليم، آنذاك، نفتالي بينيت، أنه سيمنع ممثلي منظمة ”كسر جدار الصمت” من التحدث في المدارس. نجحت الأحداث وردود الفعل السريعة عليها. وباتت المنظمة – التي لم يسمع بها سوى عدد قليل من الناس حتى ذلك الحين، على الرغم من تأسيسها في العام 2004 – تتصدر عناوين الأخبار باستمرار.
في نهاية ذلك الأسبوع، حسب نوفاك، كانت هناك مظاهرة أخرى في تل أبيب، هذه المظاهرة خارج مقر حزب الليكود. كانت تلك هي المرة الأولى التي يطلب فيها أعضاء منظمتها أن لا تتجول بمفردها. “الآن أصبحت تجربة غريبة. تل أبيب؟ أنا هنا بحاجة إلى حارس شخصي؟ ولكن بعد أن يقول لك الأشخاص من حولك، “لا تتجولي وحدك. سنحرص على أن يذهب شخص ما معك. “من المفترض أن تفهم أنه يجب أن تخاف “.
شاني ليتمان: هل حاول أي شخص أن يؤذيك جسديا؟
يولي نوفاك: “عندما يقف شخص ما على بعد ميليمتر منك، ويبدأ بالصراخ في وجهك – أين يمكنك تحديد ذلك على خط الخطر؟ أو دعنا نقول، عندما تستيقظ في الصباح وتجد رسائل على هاتفك مثل، “أنت تستحقين رصاصة في رأسك لكلما تفعلينه“؟ كان هناك الكثير من التهديدات، بعضها محدد للغاية. كان من المعتاد أن يتصل الناس ويقولون “نحن قادمون لقتلك”. تمنى الناس لنا أشكالا مختلفة من الموت. وفي كل مرة يخرج فيها بينيت بإعلان ضد “كسر جدار الصمت”، كنا نتلقى عشرات رسائل الكراهية التي تتراوح من: “يجب أن تغتصبي من قبل السودان يين”، إلى “نحن في طريقنا للتخلص منك.” من أي رسالة يجب أن أخاف؟” كانت إجابة نوفاك التلقائية كما تقول هي ببساطة، التوقف عن الخوف تمامًا.” بعد خطاب ألقيته في مكان ما، كنت أقف بجوار سيارتي أبحث عن شيء ما، وكانت هناك مظاهرة ضد منظمة كسر جدار الصمت، وهو أمر عادي تماما. ثم ركبت السيارة، ورأيت أن الصديقة التي كانت معي قد أصبحت شاحبة تماما. قالت، “هل لاحظتما حدث للتو؟ وقف عشرون شخصا هناك وشتموك وبصقوا وصرخوا مثل المجانين. لم أسمعهم. لقد وصلت إلى مرحلة أصبح فيها الأمر بالنسبة لي تلقائيا أن أكون في مثل هذا النوع من مواقف الكراهية والعنف، لدرجة أنني لم أعد أراها.
“لكن من ناحية أخرى، لم أغادر المنزل كثيرا، وعندما فعلت ذلك، كنت أرتدي نظارة شمسية وقبعة، وبذلك لن يتم التعرف علي، لكن الناس تعرفوا علي. في عدد قليل من الحالات، كان الناس يقتربون مني ويقولون شكراً ويثنون علي. لكن في معظم الحالات كان الناس يصرخون في وجهي. لقد كانت فترة لم يكن فيها مكان يمكنني الجلوس فيه خارج المنزل“. كما اعتبرت الخوف امتيازا لا تستطيع السماح به لنفسها. “لفترة طويلة قلت لنفسي أنه لا يوجد ما أخاف منه، وأكثر من ذلك: من أنت حتى تخافين؟ هناك احتلال جار، وأنا رغم كل شيء لست الضحية. ولكن كان هناك شيء مزعج للغاية، ليس أقله حقيقة أننا فقدنا العقد الشفهي الذي اعتقدت أن أشخاصا مثلي يربطهم بالنظام الإسرائيلي .
اعتقدت أنني وطنية وصهيونية، وأنني سأساهم في البلد، وسأؤدي الخدمة العسكرية، وفي المقابل ستحميني الدولة. لكن العقد كان مشروطا: طالما أطعت. وفي اللحظة التي لم يناسب الدولة شيء ما، انقلب النظام ضدي. قيل لي: “إذا كنت ضد الاحتلال، وتعتقدين أن القتال في غزة هو شيء تحتاجين إلى التظاهر ضده، فأنت لست جزءا منا”.
ثم جاءت المرحلة الثانية والأكثر إثارة للرعب في الاعتداء العلني. في بداية شهر كانون الثاني /يناير/ 2016، بث برنامج ”حقيقة”، وهو برنامج استقصائي عريق على محطة التلفزيون الإسرائيلي الأكثر شهرة، مادة تظهر كيف تسللت منظمة يمينية إلى مجموعة ”تعايش – الشراكة العربية اليهودية” وجمعت معلومات عن نشطاء المنظمات غير الحكومية. واحتجزت الشرطة ثلاثة أفراد من المجموعة بعد بث التقرير، ومن بينهم الناشط المخضرم المناهض للاحتلال عزرا ناوي، للاشتباه فيه بالإضرار بأمن الدولة.
كانت نوفاك وزملاؤها متخوفين من أنهم سيكونون التاليين في القائمة. بعد بضعة أيام، أثبتت مكالمة من صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن مخاوفهم كان لها ما يبررها: فقد تسلل خلد/ جاسوس/يميني بالفعل إلى منظمة “كسر جدار الصمت”، وقام بتصوير الاجتماعات والمحادثات. “نحن ندرك أنه أحد رجالنا، شخص موجود معنا الآن، وسط كل هذه الفوضى يقوم بمراقبتنا. شخص ما وراء الباب هو “الخلد“. بدأنا في البحث عنه ووجدنا الشخص. كانت تلك حقا اللحظة الساحقة. إذا كان لا بد لي من تحديد اللحظة التي جعلتني أشعر بالذعر – بمعنى أنه لم يعد بإمكاني معرفة ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي- كان ذلك عندما اكتشفنا أن أحد الأعضاء النشطين كان يراقبنا بالفعل “.
شاني ليتمان: هل واجهتيه؟
يولي نوفاك: اختفى قبل يومين من اتصال يديعوت أحرنوت بنا، ولم نره مرة أخرى. لقد كان رجلا غريبا نوعا ما، وحيدا، مؤثرا، متحمسا للغاية – أتساءل لماذا؟ “تقول الآن ضاحكة. ”لقد كانت لحظة مروعة، بعد أن أدركنا أن هذا الشخص الذي كان معنا في المناسبات الاجتماعية قد سجل لنا أفكارا غبية، مثل ما إذا كنت قد استغبت العائلة، أو أنني قلت شيئا عن حبيب سابق، واختلطت هذه الأحاديث بأفكار موجودة حول كيفية انهيار الديمقراطية الإسرائيلية، وما إذا كنا سنجد أنفسنا غدا في أقبية الشاباك (جهاز الأمن)“. تقول نوفاك، إن أسوأ شيء هو أن جميع الشركاء القدامى أصبحوا فجأة مشتبه بهم .
“بعد سنوات، أخبرتني امرأة كانت معنا أنها اعتقدت أنني ربما كنت “الخلد”. فأنا، أيضا، وصلت قبل أربع سنوات من العدم ولا يعرفني أحدا. فلماذا لا يكون “الخلد” أنا؟ بعد حدوث شيء من هذا القبيل، لم يعد بإمكانك الوثوق بالأشخاص الأقرب إليك “.
القلق بشأن أقبية جهاز الأمن العام (الشاباك) لم يكن بعيداً عن التفكير أيضاً. تم بث التسجيلات التي قام بها “الخلد” في النهاية على القناة الإخبارية الثانية، وأطلقت موجة جديدة من الهجمات على المنظمة. هاجمها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وقال عضو الكنيست آفي ديختر (المدير السابق للشين بيت) بأن نشاطهم أثار “شبهات التجسس”. واتهمهم الوزيران ياريف ليفين وموشيه يعالون بالخيانة. وعلى الرغم من أن يعالون -وزير الدفاع، آنذاك، ورئيس الأركان السابق – تراجع عن تعليقه لاحقا. فقد أصدر تعليماته للجيش الإسرائيلي بفتح تحقيق حول “كسر جدار الصمت”، والذي تم نقله في النهاية إلى الشاباك. وطالبت نيابة الدولة المنظمة بتسليم مواد تكشف هوية الجنود الذين شهدوا على نشاطهم في المناطق (تنشر منظمة كسر جدار الصمت الشهادات دون الكشف عن هوية الشهود، لكنها تقول إنها تبذل جهودا كبيرة للتحقق من صحة الشهادات).
رافق الهجوم السياسي تكثيفا للتحريض عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتهديدات بالعنف. أصبحت “كسر جدار الصمت” واحدة من أكثر الجماعات تعرضا للشتم والهجوم في إسرائيل، وهي أيضا واحدة من أكثر الجماعات التي يكرهها الجمهور. “الشعب مقابل العملاء الأجانب”. في العام 2015 تم تغطية موقع بناء في تل أبيب بلافتات منظمة إم تيرتزو اليمينية تتهم فيها المنظمات اليسارية بالعمل على تقويض الجيش الإسرائيلي. لكن حتى يولي نوفاك نفسها فوجئت عندما نشرت مؤلفة منشور تحريضي على Facebook أرقام الهواتف الشخصية لنشطاء المنظمة – وكذلك أرقام أجدادها، الذين كانوا في الثمانينيات من العمر. كتبت نوفاك في كتابها الجديد “بحق الله”. “لماذا يجب أن يستيقظ الجد موشيه والجدة رونيت – اللذان لا يتفقان مع حفيدتهما، ولكنهما يحبانها ويتسامحان مع وجهات نظر تختلف عن آرائهما – قبل الفجر على رنين الهاتف لسماع أن حفيدتهما عاهرة؟ “. في الواقع، تلقى أجدادها مكالمات هاتفية مزعجة. اتصل بهم شخص في منتصف الليل ليخبرهم أن نوفاك تعرضت لحادث في الخليل وتم نقلها إلى المستشفى. كتبت نوفاك: “على الطرف الآخر من الخط سمعه جدها يضحك”. قال لها جدها: “علمت أنه كان يكذب وأغلقت الخط في وجهه”.
“شبيبة الشمعة”
لم تكن نوفاك منزعجة من المواجهة التي نشأت بينها وبين التيار الإسرائيلي السائد -الذي لم يتوافق مع تصورها لنفسها. ولدت في تل أبيب عام 1982 (“ثلاثة أسابيع قبل اندلاع حرب لبنان”) ونشأت في رمات غان، وهي واحدة بين أربعة أطفال. كان والدها رجل أعمال، وخدمت والدتها دوريت نوفاك في الجيش المهني لسنوات عديدة كرئيسة لوحدة في مقر كبير مسؤولي التعليم. أكملت مؤخرا فترة عملها كمديرة عامة لنصب ياد فاشيم التذكاري للهولوكوست. وكان جدها لأمها عضوا في منظمة الإرغون، المنظمة السرية التي كانت قائمة قبل عام 1948 بقيادة مناحيم بيغن.
تقول نوفاك أنها كانت فتاة ومراهقة تمتلك وعيا سياسيا يساريا. بعد اغتيال يتسحاق رابين في العام 1995، كانت واحدة من “شبيبة الشمعة” وانضمت إلى الحركة التي أسسها نجل رابين. تقول: جيل كامل يطالب بالسلام. ”لقد كان هذا الجناح يساريا فيما مضى، والذي يبدو لي ساذجا للغاية -وكان لديه إيمان كبير بما كان يطلق عليه آنذاك عملية السلام. دون معرفة الكثير من التفاصيل”. ”كنت أعرف أن هناك احتلالا وأنه كان سيئا. وأن هذه العملية كانت بعيدة كل البعد وانتهت “.
وتستطرد: إن المنزل الذي نشأت فيه لم يكن مسيس للغاية، لكن كان للجيش وجود مهيمن. “كفتاة كنت فخورة جدا أن والدتي حضرت اجتماعات أولياء الأمور في المدرسة بزيها الرسمي. لقد كانت فترة عمل فيها عدد قليل جدا من الأمهات بدوام كامل ولديهن وظائف حقيقية. وكنت سعيدة لأن والدتي كانت تفعل شيئا مهما. قرأت جميع الكتب التي تحكي قصص البطولة، وجميع أنواع مذكرات الحرب “.
لم يكن على نوفاك أن تلجأ إلى الكتب من أجل العثور على قصة إسرائيلية كلاسيكية للبطولة، لأنها كانت موجودة هناك، في منزلها: فقدت والدتها شريكها في حرب يوم الغفران، قبل تسع سنوات من ولادة يولي. ”نشأت وأنا أعلم بأمر تالي [نفتاليسديرر] الذي قتل مع شقيقه آشي في نفس اليوم في قناة السويس. هذه هي القصة التي ولدت معها. كنا نذهب لزيارة والدتهم في كيبوتس مشمار هشارون. لقد استمتعت حقا بالذهاب إلى هناك عندما كنت طفلة. وعندما كبرت قليلا جذبتني قصتهم حقا، وحاولت أن أسأل والدتي عن ذلك، لكنني لم أستطع الاستفادة منها كثيرا”.
عندما كانت في أوائل العشرينات من عمرها، استجمعت نوفاك شجاعتها وحاولت التحدث إلى والدتها حول الخسارة. “كانت هذه هي المرة الأولى التي أخبرتني فيها أنها التقت مع والدي بينما كان تالي وآشي ما يزالان في عداد المفقودين، وبعد إعادة الجثث، كانا معا في جنازة تالي“. سألتها كيف يمكن أن تبدأ علاقة في وضع خسارة كهذه؟ بالكاد فهمت ما كنت أسألها. قالت: ”دعيك من ذلك، فقد الجميع “شخصا” آنذاك، لم يكن الأمر غير عادي، أذهلتني هذه الإجابة“.
بالنسبة لي، الصهيونية تعني أشياء كثيرة: الهوية واللغة وذاكرة الأماكن واللحظات مع الأصدقاء. وهي أيضا الجيش، الذي هو جزء أساسي مني.
بينما كانت نوفاك تكتب الكتاب، أشارت إلى ملاحظة والدتها حول تجربة الفجيعة بأنها ليست استثنائية، واكتشفت من خلال ذلك بعدا آخر غير فهمها السياسي. كتبت “حاولت معرفة ما إذا كانت هناك صلة بين الموقف الذي وصلت إليه – من العثور على صعوبة في التحدث وحتى التفكير بعمق فيما يحدث هنا سياسيا- وحالة الوعي، والثمن الذي يتم دفعه عبر الأجيال. بالنظر إلى أنه تم دفع مثل هذا الثمن الباهظ للحفاظ على قصة معينة، ما حجم ذلك الذي يمنع إمكانية طرح أسئلة حولها؟ وهذا ينطبق أيضا على أجدادي وغيرهم ممن جاءوا من الشتات، وبعضهم من الناجين من الهولوكوست، الذين ضحوا كثير اللحفاظ على القصة الإسرائيلية والصهيونية، وصولًا إلى جيل والدي الذين عاشوا تجربة الموت. وبعد دفع مثل هذا الثمن، كيف يمكن حتى طرح الأسئلة؟ “
أمضت نوفاك خمس سنوات في الخدمة العسكرية كضابط عمليات في القوات الجوية. ثم أكملت درجتي البكالوريوس والماجستير في القانون في برنامج متعدد التخصصات بجامعة تل أبيب للطلاب المتفوقين، وعملت في النيابة العامة، وتم قبولها في نقابة المحامين. في العام 2012، تقدمت بطلب لمنصب المدير التنفيذي لـمنظمة ”كسر جدار الصمت. ”
شاني ليتمان: ماذا كان رأي عائلتك بشأن ذهابك للعمل مع ”كسر جدار الصمت”؟
يولي نوفاك: لقد كانوا داعمين للغاية، على الرغم من أن خياري بالانخراط في السياسة بهذه الطريقة لم يكن مثاليا بالنسبة لهم. بالإضافة إلى ذلك، عندما انضممت إلى المنظمة، لم يعرف معظم الناس ما هي. ظنوا أن الأمر يتعلق بالعنف المنزلي. لذلك لم يكن يبدو خيارا دراماتيكيا “.
تقول نوفاك إنها نظرت إلى الخوف على أنه امتياز لا يمكن أن تسمح لنفسها به. في العام 2015، اتضح بالفعل أن منظمة ”كسر جدار الصمت” دراماتيكية للغاية. تصدرت المنظمة عناوين الصحف لعدة أشهر، وانطلقت نوفاك من شخصية مجهولة الهوية إلى أن بات يتم التعرف عليها في الشارع. “كلما أصبح الوضع السياسي أكثر جنونا، أصبحت أكثر ارتباطا بـ” كسر جدار الصمت داخليا وخارجيا، وكانت حقا تجربة حرب. أصبحت بعيدة عن بيئتي بأكملها، بما في ذلك الأصدقاء والعائلة. لم أعد أعرف من يمكنني الوثوق به. ليس بالضرورة أن يقوم شخص ما بشيء ما عن عمد، لكنني كنت أخشى أن لا يفهموا أنهم يفعلون شيئًا قد يؤذيني. لذلك توقفت تدريجيا عن التحدث معهم، كانوا قلقين علي للغاية، لكنني لم أتركهم يقتربون مني حقا، لذلك ابتعدنا عن بعضنا “.
شاني ليتمان: كيف ردت الأسرة على هذا التباعد؟
يولي نوفاك: “كان رد فعل الجميع متباين. والدي كان يحضر إلى الفعاليات دون سابق إنذار. وكان يأتي إلى المكتب ليرى ما الذي يجري. أزعجني ذلك لأنني كنت بحاجة إلى التركيز، وأزعجني أنه كان هناك. لقد ضايقني الآن لأنه أزعجني، لكنه فعل. وكانت والدتي- على الأقل في ذاكرتي – أبعد، وأشقائي أيضا”.
كما ابتعدت عن صديقاتها في تلك السنة الصعبة. تقول نوفاك: “لقد رأيت كيف أن العناصر التي شكلت ذاتي السابقة كانت تتلاشى”. “لقد فقدت أمن الوطن وترابط العلاقات. أصبح الأصدقاء غرباء، وجلبت الوحدة لنفسي. كنت منفصلة عنهم للغاية، ومنخرطة تماما في النضال. كان شعوري هو أن من لم يكن بالداخل لا يمكنه فهم ما يجري. وكنت أيضا متوترة وغاضبة طوال الوقت .كنت محطمة تماما. توقفت عن الأكل ولم أنم، لكن الأهم من ذلك كله أنني وصلت إلى حالة لم أستطع فيها التفكير “.
*تذكرة ذهاب فقط
غادرت نوفاك “كسر جدار الصمت” في الأسبوع الأول من آب /أغسطس/ 2017، محطمة جسديا ونفسيا. توفي جدها في نفس الأسبوع. كتبت تقول: ”كنت مرهقة من سنوات صراع غريب ومربك ومرهق، أردت قليلا أن أموت معه. في يوم وفاته، ذهبت والألم يعتصرني إلى الشاطئ في يافا، واجهت الأمواج بعنف. استولى علي الغضب. وعلى الفور بدأ يخرج مني عندما بدأت الصراخ من الأعماق. يا موت! يا موت! أكرهك! أنا أكرهك بسبب ما تفعله، والذي تفعله بي! وبهم! المعاناة! أكرهك! القرف! الوحوش! أنا أكره كل جزيء يجعلكم ما أنتم علي! “.
لقد استغرق مني الأمر دقيقة لأفهم أن صوت الصراخ كان صوتي. مثل امرأة مجنونة على الشاطئ في منتصف النهار. كان قلبي يدق، ولم أستدر لأرى من كان ينظر إلي. يبدو أن الأمواج آخذة في الارتفاع. دخلت الماء مرة أخرى بدون لوح التزلج. أردت أن تضربني الأمواج مرة أخرى. أردت أن أغرق فيها. كان لدي شعور بأنني أغرق في بحر من الكراهية. من المستحيل أن تعيش هكذا. لم أستطع إخبار أي شخص عن ذلك. بدا الأمر جنونيا، وأنا، بعد كل شيء، لم أكن شخصا من المفترض أن يصاب بالجنون. بالتأكيد ليس من هذا القبيل “.
أدركت نوفاك أن عليها الهروب من إسرائيل، رغم أنه لم تكن لديها أدنى فكرة عن المكان الذي تهرب إليه. كتبت في الكتاب: “لحظة قبل أن أنهار تماما، بدلا من الموت، انتهزت الفرصة: ركبت طائرة وبتذكرة ذهاب فقط”. “لم يكن لدي شيء لأخسره. كل ما أردته هو الذهاب إلى الحافة – حافة العالم، حافة الجرف، حافة النفس – وأرى ما سيحدث عندما أصل إلى هناك. في أسوأ الأحوال، قلت لنفسي، سأهبط “.
انطلقت نوفاك في رحلة استغرقت أكثر من عام. بدأت في أيسلندا، ثم انتقلت إلى جزيرة ماديرا البرتغالية، ثم إلى أيرلندا، وانتهت بفصل طويل وهادف في جنوب إفريقيا. طوال الرحلة، لم تتوقف عن الكتابة. لم تكن نيتها تأليف كتاب – كانت تحاول فهم ما مرت به – بعد عام نظرت إلى كومة الصفحات التي تراكمت وقررت تنظيمها في شكل مذكرات. طوال الكتاب، تتحرك بالزمن للخلف وللأمام، وتعيد بناء ما مرت به خلال سنوات العاصفة، وتربط بين التجارب والمواجهات الهامة على طول الطريق، كما أنها أصيبت بخيبة أمل من القصة الإسرائيلية الصهيونية التي كانت تؤمن بها، على الرغم من أنه لم يكن واضح تماما الذي ستستبدله بها.
في البرتغال مثلا التقت بمسافرين متنزهين على شاطئ جميل، وقاموا بتزويدها بالفطر المسبب للهلوسة. وانغمست في تجربة مخدرة قوية أعادت الخوف الذي تم تخزينه بعمق خلال فترة اضطهادها في إسرائيل. على مدار ليلة كاملة كانت متأكدة من أنها ستموت.
تقول: “كنت بحاجة إلى شيء يجعلني أصل إلى العمق الذي دفنت فيه ذكريات الخوف”. “وفي الصباح التالي لتلك الرحلة (المخدرة)، بعد ليلة كاملة وقعت خلالها في تجربة أوشكت فيها بأن أقتل، كان الأمر واضحا. قلت لنفسي “أعرف هذا الشعور، لقد عشت معه لمدة عامين الآن” وبعد ذلك كان مثل أحجية الصور المتقطعة / puzzle/ وسقط كل شيء في مكانه. وفجأة أصبح لدي المزيد من الذكريات عن الأشياء المخيفة التي حدثت. مدى خوفي من التواجد في المنزل ومن دخول شخص ما، والشعور بأنني ملاحقة باستمرار، وكيف كنت خائفة من التحدث في المنزل وخارجه لأنه ربما يتعرف علي شخص ما ويتجول هكذا طوال الوقت وينظر إلى الخلف. التواجد مع الخطر المحتمل طوال الوقت .في لحظة واحدة أدركت كم كنت خائفة حقا “.
تتذكر نوفاك مثلا، أنه خلال تلك الفترة السابقة، “كان الدرج أسوأ لحظة في اليوم” كتبت في الكتاب، “لحظات التسلق تلك – طابقان، على حد قول الجميع – ثم الوقوف أمام الباب، والبحث السريع عن المفتاح، وعدم التوقف عن النظر خلفك، والاستماع فيما إذا كان شخص ما يتسلق ويتبعني… عندما اقترب من الباب كان الضغط يتزايد، لم أكن أعرف ماذا سيحدث لي في بئر السلم، ولم أكن أعرف ما الذي كان ينتظرني خلف باب شقتي، في ما كان في السابق وطنا “.
يولي نوفاك في جنوب إفريقيا
لم تكن رحلة الفطر فقط هي التي جعلتها ترى الماضي من منظور جديد، ولكن أيضا رحلة بدت مرحة قامت بها بصحبة امرأة كانت قد ربطتها بها علاقة قصيرة خلال فترة وجودها في أيرلندا، على أعلى مستوى جرف البحر في البلاد. وانتهت الرحلة بحضور فريق محلي لإنقاذهم بعد أن علقوا طوال الليل في الضباب والمطر. خلال الساعات الطويلة التي انتظروا فيها في ظلام دامس، يرتجفون من البرد وبدون أي طعام أو شراب. شعرت كما لو أن الطبيعة تعيدها إلى الظروف التي تتعلق بها.
تقول “عندما كنت في أعماق الحدث، في اللحظة السياسية والإعلامية، كانت أيضا رحلة غرور”. ”حتى أولئك الذين يكرهونك يمنحونك ميزة في أنك في مركز رئيسي. وهناك شيء غير صحي في ذلك “. قضت أطول فترة منفردة في رحلتها – ما يقرب من عام – في كيب تاون.
منذ عودتها إلى إسرائيل، في العام 2018، استمرت في السفر ذهابا وإيابا إلى جنوب إفريقيا، ومحاولة للبقاء بضعة أسابيع في كل مرة. هذه أيضا هي مهنتها السياسية والمهنية الرئيسية في الوقت الحالي: نقل المجموعات من مراكز الفكر إلى جنوب إفريقيا. “في جنوب إفريقيا، بعد بضعة أشهر من التجوال، التقيت بأشخاص شاركوا في الكفاح ضد الفصل العنصري، وتواصلنا بسرعة. كانوا من البيض الذين غيروا ولاءهم. هذا الارتباط هو ما دفعني للبقاء، وكان هناك مستوى من التعارف المتبادل: أخبروني قصتهم وأخبرتهم بقصتي. لقد جمعنا شيء ذهني ما. نحن، المتميزون داخل النظام، لنا دور إطلاق هذه الرحلة الطويلة. لكن أولئك الذين سيقودون النضال في النهاية -وفقا لمنطقي – سيكونون نساء فلسطينيات.
“في إحدى لقاءاتنا الأولى، أخبروني أنهم يعرفون مدى صعوبة التصرف ضد هويتك. أزعجني ذلك. قلت لهم إنني لم أتصرف ضد أحد. كانوا هم الذين تصرفوا ضدي. لكن بعد المقاومة الأولية، فهمت بمساعدتهم، أنه سيكون من المفيد لي أن أدير نظرتي إلى الداخل. كانت هذه هي المرة الأولى التي بدأت أفهم فيها أن المشكلة تكمن أيضا في القصة التي كنت أحكيها لنفسي عن وطني “.
شاني ليتمان: هذا مثير للاهتمام. ذهبت إلى جنوب إفريقيا وتواصلت مع الظالمين.
يولي نوفاك: ”لقد تمكنت من تنحية الحكم المعياري جانبا للحظات، وأيضا محو قصة الخير والشر، والاستماع. سمعت أشياء أذهلتني. بادئ ذي بدء، الفهم الأساسي أن جنوب إفريقيا هي وطنهم من وجهة نظر الأفريكانيين. إنهم ليسوا أوروبيين، فقد طوروا هويتهم الخاصة. لقد اعتقدوا أنهم الديمقراطية الوحيدة في إفريقيا، وأن الفصل العنصري هو طريقتهم الوحيدة للحفاظ على أنفسهم كديمقراطية. هذا شد انتباهي. كيف يمكن أن تعيش في ظل نظام فصل عنصري وتعتقد أنها الديمقراطية الوحيدة في إفريقيا؟ قالوا إنهم كانوا مقتنعين بأنه بدون نظام الفصل العنصري، فإن السود سوف يرمونهم في البحر. كان هذا خوف حقيقي لديهم. أفهم ذلك اليوم هنا أيضا، ويمنحك نظرة على الشكل الذي قد يبدو عليه مستقبلنا، إذا لم نفعل الأشياء بشكل صحيح “.
شاني ليتمان: إذا فهمت فجأة شيئا عن الإسرائيليين من خلال قصة الأفريكانيين، فهل ما تزالين تتماهين مع التيار الصهيوني السائد، أم أنك محبطة من الصهيونية؟
يولي نوفاك: ” لم أعد إلى هذا السؤال بعد الآن. شيء ما في كيفية إدارة هذا المكان وسياساته هو قصة الخير والشر. إنها قصة لا أعرف كيفية الانتقال منها. أنا أعيش هنا، ليس لدي وطن آخر، سافرت في العالم وبحثت. جنوب أفريقيا -حيث شعرت بالراحة – ليست وطني “.
من خلال لقاءاتها مع الأفريكانيين، تمكنت نوفاك من رؤية كيف كانت هي نفسها جزء من المشكلة، على حد قولها. المجموعة الإسرائيلية والصهيونية التي اعتقدت أنها تنتمي إليها، بدت فجأة وكأنها تمثل رواية خاطئة. ”قيل لي أن الطريقة الوحيدة للعيش في هذه المنطقة هي عبر حرب دائمة مع كل من حولي. لكن ذلك اختيار، ويمكن للمرء أيضا أن يروي قصة مختلفة. يمكن للمرء مثلا، أن يطمح إلى إعطاء الأولوية لكل من يعيش هنا في المنطقة، دون تقسيم على الصعيد الوطني. يمكن رواية قصة مفادها أن الهدف الأسمى ليس عزل أنفسنا، ولكن بالنسبة لنا أن نعرف لغة المنطقة، وأن لا نبقى منفصلين عنها. لكن لم يدعني أحد على الإطلاق لرواية قصة هذا المكان بطريقة أخرى غير العيش بالسيف. وهذا هو الصادم لمجرد أنه وطني، لا يعني أنه لا يمكن أن يكون وطن شخص آخر أيضا”.
شاني ليتمان: ما هو موقعك على المقياس الصهيوني؟
يولي نوفاك: ” ما أعرفه من محيطي هو أنك إما صهيونيا أو مناهضا للصهيونية. أنا لست هناك. لقد بدأت في تفكيك مفهوم الصهيونية. هناك الصهيونية كهيكل سياسي للنظام، والذي يتمسك بشدة بفكرة العسكرة كأداة ضرورية للبقاء. إنه يمنح إحدى المجموعات ميزة على الآخرين، فهي خائفة جدا وهي أيضا غير حساسة جدا لمعاناة المجموعة الأخرى. لم أعد أؤمن بهذا الهيكل السياسي. لكن بالنسبة لي، الصهيونية هي أيضا أشياء أخرى كثيرة – الهوية واللغة وذاكرة الأماكن واللحظات مع الأصدقاء. وهو أيضا الجيش، وهو جزء أساسي مني. وأنا لا أريد ذلك، ولست قادرة على التخلي عن هذه الهوية. لكننا سنضطر للتخلي عن الهيكل السياسي “.
عندما كانت في منظمة ” كسر جدار الصمت ” كما تقول نوفاك، لم تكن تفهم أنه من خلال حقيقة تبني المنظمة للروح العسكرية والوطنية، فقد بقيت في الطرف الآخر الذي يعتبر الأكثر تطرفا من بين المستوطنين. “بقينا ضمن الخطاب الصهيوني المشروع، الذي قبل بعض الافتراضات المسبقة حول هذا المكان، مثل أن هذه الدولة يجب أن تكون قبل كل شيء يهودية. ليس من قبيل المصادفة أن يجلس “حزب اليسار” ميريتس مع بينيت/رئيس حزب يمينا اليميني/في نفس الحكومة. تلك هي حدود الفضاء السياسي الشرعي كما يراه غالبية اليهود، بمن فيهم اليساريون.
أنا لست على استعداد لأن أضع نفسي مع هذا الطيف. أريد أن أبتعد عن ذلك، وأريد دعوة أشخاص آخرين ليأتوا معي. تجاوز هذا الجدار أمر مخيف للغاية، ولكن بمجرد أن تتخطاه، يكون تحررا رائعا”.
شاني ليتمان: بناءً على هذا الفهم، هل يمكنك الآن التفكير بشكل مختلف في المزاعم التي تم التعبير عنها ضدك. أنك اخترت إجراء مناقشة حول تصرفات الجيش الإسرائيلي في الخارج أيضا؟
يولي نوفاك: ” في منظمة كسر حاجز الصمت، كان من الواضح لنا أنه من المهم إخبار العالم بالأخطاء التي يتم ارتكابها هنا من أجل دعوة العالم للتدخل. من الوهم الاعتقاد بأن النقاش يمكن أن يقتصر على منطقة معينة. الجميع يتحدث في كل مكان. ومنذ أن بدأت أفكر في سياسات هذه المنطقة خارج الخطاب اليهودي الصهيوني. على مستوى خطاب النظام – أي أن النظام الصهيوني الإسرائيلي في الأساس غير ديمقراطي – إذن، ليس لدي طريقة للإجابة على السؤال “لماذا تغسل ملابس كالقذرة في الخارج؟ “لن يتم حل هذا الأمر محليا. إنه ليس شأنا داخليا لمجموعة عرقية واحدة تعيش هنا “.
شاني ليتمان: اليوم لم تعودي مديرة “كسر جدار الصمت”؟
يولي نوفاك: ”أساس ما تقوم به منظمة ” كسر جدار الصمت “- لقول الحقيقة واستخدام أداة الشهادة – جيد ومهم. لو تمكسر المزيد من الصمت هنا – حول الشرطة والمحكمة العليا والإعلام. لكن كأجندة سياسية، فإن خط اليسار الصهيوني -الذي يميز الخط الأخضر ككيان جوهري يرمز إلى الفصل بين ما هو شرعي وما هو غير شرعي – غير مقبول. لأنه عندما تسأل هذا السؤال المحير – ما هو الفرق بين كريات أربع /المستوطنة الحضرية المتاخمة للخليل/ وتل أبيب – ليس لدي إجابة جيدة. كان القصد من الهيكل السياسي منذ البداية هو الحفاظ على الأغلبية اليهودية، وبهذا المعنى كان غير ديمقراطي. لقد توقف التماهي مع هذه القصة “.
شاني ليتمان: ما هو نوع التعايش الذي تقترحينه هنا؟
كانت يولي نوفاك تسأل بشكل خطابي خلال حديثنا، وتوجه السؤال إلى اليسار الصهيوني. تعايش في صالحك أنت فقط؟ هذا ببساطة لن يعمل. في اللحظة التي ندرك فيها أننا لا نعيش في ديمقراطية بالطريقة الأعمق والأساسية، يصبح فهم ما يجري هنا أسهل كثيرا. ولم يعد مربكا “.
لن نكون نحن – المتميزون داخل النظام القائم – من يقود الحركة الجديدة. لدينا دور إطلاق هذه الرحلة الطويلة من الوعي. لكن النساء اللواتي سيقدن النضال والحركة السياسية التي ستنشأ حسب اعتقادي سيكن نساء فلسطينيات. لم أعد أريد أن أكون رمزا لشيء ليس أنا. الآن أريد أن أكشف النقاب عن القصص التي كونتنا، وأن أفحص أي منها نريد التمسك به، وتلك التي نحن على استعداد للتخلي عنها. لم يعد لقصة العيش بالسيف مستقبل، ولم أعد أهتم به “.
شاني ليتمان: إذا نظرنا إلى الوراء، ماذا كنت ستفعلين بشكل مختلف؟
يولي نوفاك: “جزء من المأساة هو أنني لست متأكدة من وجود طريقة مختلفة لإدارة منظمة كسر جدار الصمت، عندما أفكر في كيفية إدارة سياسة مختلفة، يجب أن يكون تغييرا منهجيا”.
أحد الأمور التي تجدها مزعجة عند استعادة الأحداث الماضية، هي الدرجة التي استمدت بها منظمة “كسر جدار الصمت” شرعيتها من حقيقة أن الشهود والمؤيدين كانوا جميعا جنودا ذكورا. “في ذلك الوقت لم أكن انتقادية على الإطلاق فيما يتعلق بالآثار المترتبة على” إعطاء الكلمة لرجال يرتدون الزي العسكري“. واليوم لا يمكنني التعامل مع ذلك. إنه في صميم ما تم إفساده هنا، وهذا ما فعلناه “.
شاني ليتمان: إذن خيبة أملك الكبيرة من “كسر جدار الصمت” هي من وجهة النظر النسوية؟
يولي نوفاك: ” السياق النسوي هو جزء منه. فهم أن الشوفينية جزء من النظام – وهذا شيء لم أره. وهناك شيء يشبه السخرية العكسية: فالمرأة التي ترأس مثل هذه المنظمة الذكورية تخلق وهما بالنسوية، لكن لا يوجد أي ارتباط لذلك بالنسوية على الإطلاق. حقيقة أن امرأة قوية ترأس منظمة لا تجعلها نسوية. لا أستطيع أن أتذكر أي شيء من الدفاع عن حقوق المرأة فعلته خلال الفترة التي قضيتها في كسر جدار الصمت “.
شاني ليتمان: في النهاية، لم تخسري في تلك المعركة. لم يتم اعتقال أي ناشط، وما تزال منظمة “كسر جدار الصمت” قائمة.
يولي نوفاك: “المعركة التي خضناها هي معركة قوى غير متكافئة لأقصى الحدود. كنا منظمة مكونة من خمسة عشر شابا ضد الجميع – رئيس الوزراء، جميع وزراء الحكومة الذين ركبوا موجة العداء لنا، الكنيست، مناقشات في لجانها وفي الجلسة الكاملة، وسائل الإعلام، النيابة العامة مطالبين بالتعرف على شهودنا، تهديدات بكل الحقوق من جميع الجهات. كان يجب أن ننهار. لكننا نجونا، وما تزال المنظمة تتطور وتنمو. بهذا المعنى، لم نخسر “.
من نواح أخرى، تقول نوفاك، “كسر جدار الصمت”، واليسار ومنظمات المجتمع المدني خسروا الكثير. وجد المعسكر اليساري الإسرائيلي نفسه في مواجهة خطر لم يتخيل وجوده من قبل. لم يكن الشعور بالاضطهاد موجودا حتى ذلك الحين، واستمرت تلك العمليات التي انطلقت أيضا بعد ذلك. قيل للناس هنا أن لديهم عدوا، وأن العدو في الداخل، وهو كسر جدار الصمت أو بتسيلم. بعد عامين قيل لهم أن العدو هو الإعلام اليساري، وبعد ثلاث سنوات قيل لهم أن المحاكم هي العدو. الأنظمة لا تنهار، لكنها تشكل نفسها فيما يتعلق بقيم النظام. لذلك بالتأكيد لم نفز .
أنا شخصياً تلقيت ركلة قوية وعنيفة أجبرتني على طرح أسئلة على نفسي لم أكن أعرف كيف أطرحها من قبل. إنه ليس المسار الذي أتمناه لأي شخص “.
شاني ليتمان: كنت أعتقد أنه بعد كل ما وصفته، لن ترغبين أبد في العودة إلى هنا.
يولي نوفاك: “نعم. كانت هناك لحظة في تلك الرحلة، عندما أدركت فجأة أن البوصلة كانت تشير إلى الاتجاه المعاكس، ولم تعد تشير إلى الابتعاد من هنا، بل إلى طريق العودة. المهمة السياسية الآن أكثر تعقيدا بمليار مرة، لكن ليس هناك أي تنافر. هناك شيء يمكن أن يلتزم بالحقيقة. ولم تعد هناك حاجة إلى نقاط للمناقشة “.