Menu

اليسارُ والمسألةُ الوطنيّةُ بين الاستقلالِ السياسي والتبعيّة

وسام رفيدي

نشر هذا المقال في العدد 33 من مجلة الهدف الإلكترونية

كان استخدامُ جملةِ (أمطرت في موسكو فحملوا الشماسي عنا) إحدى أبرزِ الجمل التي حملت في طيّاتها منحيين اثنين: الأوّل تسجيلُ موقفٍ نقديٍّ يطال الأحزابَ الشيوعيّة، ليس في فلسطين والوطن العربيّ فحسب، بل والعالم قوامه التبعيّة لمواقف الحزب الشيوعيّ السوفييتيّ وسياسته الخارجيّة، أمّا الثاني، فالمنحى الساخر الاستهزائيّ الذي كان يغلّفُ معظمَ نقاشاتِ الطلبة في الجامعات، نقاشات هي مماحكاتٌ أكثرُ منها سجالاتٍ فكريّة. يقيني أنّ شيوعيّين عديدين باتوا اليوم يشيرون بعين النقد لموقف التبعيّة ذاك.

والجملةُ بحدّ ذاتها كانت تستخدم من فريقين متعاديين فكريًّا، الأوّل فريقُ اليسار الجديد الذي نشأ خارجَ الأحزاب الشيوعيّة، الذي رغمَ التحامِهِ بالفكر الماركسيّ ال لينين يّ وتأكيده على العلاقة مع السوفييت، إلّا أنّه لم يقع في كارثةِ التبعيّة المقيتة للموقف السوفييتيّ، والثاني فريقٌ معادٌ أصلًا للشيوعيّة والسوفييت ولليسار عمومًا، وهذا ليس محطّ اهتمام هذه العجالة.

ما يهمّني الإشارةُ إليهِ في هذا المقال، هو الخلفيّةُ الفكريّةُ لتلك التبعيّة في الحالة الفلسطينيّة. ربّما يتحسّسُ البعضُ من رفاق الدرب من الشيوعيّين من كلمةِ تبعيّة، ومع ذلك فهم يعرفون أكثرَ من غيرهم، شريطةَ التمترس خلف المصداقيّة والموضوعيّة في المراجعة النقديّة الفكريّة، أنّ محطّاتٍ عديدةٍ بلغت فيها العلاقةُ حدَّ التبعيّة الكاملة، خاصّةً عندما تعلق الأمرُ بالموافقة على قرار التقسيم، وباعتبار إنشاء دولة إسرائيل تجسيدًا لحقّ تقريرِ المصير للشعب اليهوديّ، فيما رُوّجت المقولةُ الغبيّةُ للشيوعيّين السوفييت بأنّ "إسرائيل الناشئة دولةٌ تقدميّةٌ وسطَ محيطٍ إقطاعيٍّ عربيٍّ رجعيّ" كمقولة نُقلت في حينه عن غروميكو وزير الخارجية نهاية الأربعينات. وكان الراحل الحكيم أكّد بعد إعلان البيرسترويكا وفي حواراتٍ داخليّةٍ أنّ السوفييت أعادوا النظر في كلّ شيءٍ إلا في موقفهم من الكيان الصهيونيّ.

إنّ الخلفيّة الفكريّة التي عنيتها هي تلك الكامنةُ بالفهم المشوّه للعلاقة الأمميّة، التي تجسّدت في وجهها السلبيّ في علاقة التبعيّة للسوفييت، وإن كانت تجسّدت أيضًا في وجهها الإيجابيّ بالدعم السوفييتي غير المحدود لحركات التحرّر وبالتضامن الأمميّ بينها. ومع ذلك، فعلاقةُ التبعيّة ألحقت الضرر بما تستوجبه طبيعة العلاقة الصحيّة بين الحلفاء، تلك العلاقةُ التي يجب أن تنهض على قاعدة النقد والتحالف حصرًا. أكثر من ذلك، وجريًا على نهج التبعية فقد اتّخذ الشيوعيّون، والعديد من المنظّمات اليساريّة التي لحقت الشيوعيّين في فهمهم المغلوط للعلاقة مع السوفييت، اتّخذوا الموقفَ السوفييتيّ المعادي ذاته لأوساطٍ شيوعيّةٍ اختلفت مع السوفييت فكريًّا، ولعلَّ أهمَّها الشيوعيّةُ التيتويّةُ في يوغسلافيا والشيوعيّة الأوروبيّة والماويّة في الصين.

 إذًا ففي المقام الأوّل هناك فهمٌ مغلوطٌ لطبيعةِ العلاقة تجسّد عشرات السنوات.

من ناحيةٍ ثانية؛ فالخلفيّةُ الفكريّةُ عنت تغليب الموقف الأمميّ، أو ما زُعم أنّه كذلك، على الموقف الوطنيّ إمّا لاعتباراتِ الانسجام مع السياسة الخارجيّة للسوفييت أو لاعتبارات التبعيّة لا أكثر ولا أقلّ. إنّ اتّخاذَ موقفٍ وطنيٍّ معادٍ للمشروع الصهيونيّ وتجسيداته الدولانيّة في فلسطين، وتاليًا العداء للإمبرياليّة، هو بالضبط ما يجسّد الموقف الأمميّ، ويفتح الآفاق لبناءِ علاقةٍ وطيدةٍ مع كلّ ثوريّي العالم وتقدّميّيه، ناهيك عن تجسيداتٍ أخرى قوامُها الإسنادُ والتضامن، إنّما بكلّ الأحوال لا يجوز البتّة لموقفٍ أمميٍّ مدّعٍ أن يكون على حساب الموقف الوطنيّ، خاصّةً إذا كان هذا الموقفُ مرتبطًا أساسًا بجوهر المسألة الوطنيّة، كما في فلسطين مثلًا، وهي قضيّةُ الوطن والأرض ورفض المشروع الصهيونيّ وعدم الاعتراف بتجسيده الدولانيّ. ويمكن ببساطةٍ استذكارُ الموقف السوفييتي، ممّا أشيع في حينه عن (توجيهات) سوفييتيّة للشيوعيّين العراقيّين بعدم الاستيلاء على السلطة عامَ 1958، باعتبار عبد الكريم قاسم (نموذجًا) للبرجوازيّة الوطنيّة ولمشروع التطوّر غير الرأسماليّ، الذي رُوِّج له لاحقًا على ضوء التَّجرِبة الناصريّة، ذلك الترويج، وتلك المقولة النظريّة (التطوّر اللارأسمالي) التي قادت عام 1965، إلى حلِّ الحزب الشيوعيّ المصريّ، وأيضًا بتفهّم السوفييت لذلك ودعمهم.

في الأمثلة الثلاثة أعلاه، فلسطين و العراق ومصر، نلحظُ تهميشَ الاعتبارات الوطنيّة لحساب تصوّرٍ للعلاقة الأمميّة هو في حقيقتِهِ تبعيّةٌ للموقف السوفييتيّ.

ومع كلّ تلك التَّجارِب التي يستوجب التأمل فيها لتأكيد العلاقة وَفْقَ قانون (تحالف/ نقد) بين الحلفاء، ما زلنا نلحظ الموقف السياسيّ الذي يطعن بذلك القانون في أوساط اليسار العربيّ والفلسطينيّ؛ ليصلَ حدَّ التبعيّة ذاتها التي وقع فيها الموقفُ السياسيّ للشيوعيّين قديمًا، ولكن تبعيّة هذه المرّة لمحور المقاومة. نلحظ ذلك مثلًا من (غضّ النظر) عن ممارساتٍ ومواقفَ لحلفاءِ محور المقاومة لا يمكنها أن تتّفق والموقفَ اليساريَّ المرجو، وفي أفضل الأحوال الإشارة الخجولة أو النقد الخجول، الذي لا يقول شيئًا في النهاية. يمكن ملاحظةُ ذلك في الموقف من مسبّبات الأزمة في سوريا - مثلًا - بإهمال مسؤوليّة النظام عن تعمّق الأزمة وتفجّرها، أو من طبيعة النظام الدينيّ في إيران، أو من بعض مواقف حزب الله في الشأن الداخليّ في لبنان. وصل الأمرُ بموقف محادين وهو مثقف ماركسي صريح في ماركسيته حد التغزل بالنظام في إيران ووصفه بالديموقراطيّ، فأخذته الحماسة في مقابلةٍ على الميادين (ليؤكّد) أنّ الديموقراطيّة الإيرانيّة تصلُ حدّ أنّ المسيحيّ يمكن أن يصل لرئاسة الجمهوريّة، متناسيًا، وهو المثقّفُ المطّلع، أنّ مجلس الآيات يقرّر مَنْ صلح إسلامه ليترشح لمنصب الرئيس، ومَنْ لا ليشطب من الترشيح.

إنّ التمترسَ ضمنَ محورِ المقاومة، وهو تمترسٌ حقيقيٌّ ومطلوبٌ؛ تأكّد في الدعم اللوجستيّ والسياسيّ للمقاومة في قطاع غزة، لا يعني بالضرورة شيك على بياض لكلّ سياسات أطراف المحور، فإيران في العراق، بثقلها الوازن، أنتجت نظامًا طائفيًّا شيعيًّا على أنقاض ما يفترض أن يكون دولةً ديموقراطيّةً حديثة، وسياسات حزب الله في لبنان في الوضع الداخليّ تحدّدها - أحيانًا - حساباته كحزبٍ طائفيّ، وهو حزبٌ طائفيٌّ لمن ينسى ذلك، فيما تتحمّل الدولة والنظام في سوريا مسؤوليّةً أساسيّةً عمّا آلت إليه الأمور. إنّ دعم الموقف الإيرانيّ المعاديّ للإمبرياليّة في المنطقة، والتقدير غير المحدود لدور حزب الله في مشروع المقاومة وتحرير الجنوب، والدفاع عن الدولة والوطن في سوريا في وجه الإرهابيّين التكفيريّين، لا يعني بالضرورة تغليب التحالف على النقد، فبهذا المعنى يكون اليسارُ الذي مارس النقد كثيرًا للشيوعيّين فيما سبق قد وقع في الخطأ ذاته/ الخطيئة: التبعيّة.