Menu

حوار الأسيرُ القائد ثائر حنيني "للهدف": الأسير ملَّ من صفات تجميل معاناته فهو أوّل وآخر ما يحتاج للحرّيّة ثمّ الحرّيّة

نٌشر في العدد الـ35 من مجلة الهدف الرقمية

وُلدَ في قريةِ بيت دجن لعائلةٍ مناضلةٍ قَدمّت التضحيّاتِ كغيرها من عائلاتِ بيت دجن، ودرس في مدارسها المرحلةَ الابتدائيّةَ في ظروفٍ في غاية الصعوبة. انتقل وأسرته إلى الأردن ارتباطًا بظروفِ عملِ والده، وما لبث وعاد لأرض الوطن ليبدأَ مشوارَ حياته ونضاله من داخل الوطن.

مبكّرًا إلى الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين أسوةً بعمِّهِ الشهيد القائد فادي حنيني، الذي قَدمّ حياتَهُ قربانًا على مذبح الوطن، وتأثّر بشكلٍ كبيرٍ بعمِّهِ الذي تربطُهُ به علاقةٌ أشبهُ بالصداقة.
رغمَ الظروفِ المعيشيّة والماديّة المريحة التي أحاطت ثائر إلا أنّه وجد نفسَهُ منحازًا للفقراء والكادحين من أبناء وطنه ولقضاياهم العادلة، ووجد في حزبه منصّةً للتعبير عن هذا الانحياز المبدئيّ للشرائح الأكثر تضرّرًا في وجود الاحتلال.
اعتُقل في تاريخ 1/7/2004 على خلفيّة مقاومة الاحتلال، بعد انضمامِهِ لكتائب الشهيد أبو علي مصطفى ، وحوكم بالسجن عشرين عامًا قضى منها ثمانيةَ عشرَ، وما يزال قابعًا خلفَ قضبان الفاشية الجديدة، في سجن رامون.
خاض مجموعةً من المعارك غيرِ المتكافئة عبرَ أمعائه الخاوية منذ السنة الأولى لاعتقاله، التي تكرّرت مرّاتٍ عدّةٍ مختلفةٍ أبرزُها (إضرابُ أعوام 2004 + 2011+ 2012+2016+ 2017) التي كان أشدّها صعوبةً في سابقاتها لتصيغ هذه التجارِبُ شخصيتَهُ التي نضجت وتعمّق وعيها عبرَ الاشتباك المباشر مع هذا العدوّ.
أسمع صوت الأسير الفلسطيني عبرَ كتاباته ومقالاته الأدبيّة والفكريّة والتنظيميّة التي نشرت عبرَ المواقع الإلكترونيّة وبعض الصحف العربيّة وتحديدًا الجزائريّة، جميعَ العالم؛ معرّيًا بقلمه ممارسات العدوّ الصهيوني.
دمجَ القائدُ ثائر بذكائه بين النضال الثقافي والعمل التنظيمي المُجهد، فشغل مناصبَ قياديّةً مهمّةً عدّة، آخرُها كان عضويّته في اللجنة المركزيّة لفرع السجون، وتوليه مهامًا ذات صلةٍ وثيقةٍ بالحقل الإعلامي.
أكمل دراسته داخلَ الأسر وحصل على شهادة بكالوريوس في التاريخ وأخرى في الاجتماعيّات، ويعمل الآن في التحضير لرسالة الماجستير في العلوم السياسيّة.

* اعتدنا على الدور المحوري للحركة الوطنيّة الأسيرة في التجربةِ النضاليّة الفلسطينيّة ما قراءتكم للتطوّرات الحاصلة على الساحة الفلسطينيّة عمومًا؟

** لا يختلفُ أحدٌ على أنّ المرحلة الراهنة تعدُّ من أخطر وأعقد المراحل التي مرّت بها قضيّتنا الوطنيّة، هذا ما يجعل التصدّي لتحدّياتها واجبًا وطنيًّا من الدرجة الأولى، له استحقاقاتُهُ المرتفعةُ وأثمانُه، ويستدعي استعداديّةً عاليةً ووعيًا وإرادةً وتصميمًا، فالمواجهةُ شاملة. فهذا التحديد يضع الجميعَ أمامَ استحقاقِ المرحلة والإعداد الجاد للتعامل مع مهامّها، فالمطلوبُ من الكلّ الوطنيّ الارتقاءُ بأدائه لمستوى التحدّيات، ومن ثَمَّ التقدّم بالدور (رأس حربة المواجهة).

وهذا لا يمكن أن يتمَّ دون توافرِ قدرةٍ عاليةٍ من الإمكانات والقدرات والتخطيط وتحديد المهام، وهذا يستدعي حسمَ خيارٍ نضاليٍّ وإنتاجَ حالةٍ قياديّةٍ جادّةٍ حاسمةٍ لخيارها؛ تمتلكُ الوعي الثوريّ وقادرةٌ على قراءة المتغيّر الجاري.

فالمرحلةُ الراهنةُ بتجاذباتها داخليًّا، متجليّةٌ بالانقسام ونتائجه، وبالقرارات الأخيرة للقيادة المتنفّذة في م.ت.ف، بانعقاد المجلس المركزي وغيره، وخارجيًّا على صعيد التناقض مع المشروع الصهيونيّ الذي يتقدّم على الأرض وحلفاءه؛ ما يجعلُ من مهمّة التحرير أكثرَ تعقيدًا واستحقاقًا، وهذا ما يضع الكلَّ الوطني وقواه الحيّة الفاعلة بموقع المبادرة، والقيام بالدور المطلوب والتحدي لهذه المهام، فالمهمّةُ الرئيسيّةُ هي العملُ من أجل إنجاز التحرير وإحقاق الحقّ الفلسطينيّ، وهذا لن يأتي إلا من خلال، تفعيل حالة الاشتباك العنيف مع الاحتلال، بحيث يكون فعلٌ مبرمجٌ ومخطّطٌ ومتراكمٌ ومميّز، بالإضافة إلى تفعيل آليّاتِ المقاومة الشعبيّة بشكلٍ مختلِفٍ ممّا هو قائم، وكذلك الاهتمام بعنوانِ الوعي الوطنيّ المقاوم؛ مفاهيم وقيم. وبهذا وحده نكون أمينين على وصايا الشهداء والثوريين الذين صنعوا بأجسادهم وتضحياتهم جسورًا؛ لتعبرَ عليها الأجيال.

* هل هناك موقفٌ محدّدٌ ممّا يجرى على مستوى م.ت.ف ومقاطعة فصائل عديدة لاجتماع المجلس المركزي الأخير؟ ما رؤيتُكم لاستعادةِ الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة؟

** لطالما كان ملفُّ منظّمةِ التحريرِ الفلسطينيّة هو الأبرزُ والأعقدُ على مدار تاريخ ثورتنا المعاصرة، سواءً على الصعيد الخارجيّ أو الداخليّ، ولا أحدَ يختلفُ على جوهريّة م.ت.ف وما تمثّله لشعبنا الفلسطينيّ ممّا له أثرٌ على لحمة شعبنا وتكامله بالمعنى الجغرافي والسياسي، ولكن وبحسب الظروف الموضوعيّة والحالة المترهّلة والتشرذم وحالة الانقسام بات الحديثُ عن م.ت.ف مجرّدَ شعارٍ يطرحُهُ البعض كغيره من الشعارات، كإنهاء الانقسام وفكّ الارتباط باتفاقيّات أوسلو وتشكيل جبهةٍ وطنيّةٍ وانتخاباتٍ شاملةٍ فلسطينيّةٍ كأنّه وغيره من الشعارات التي بات واضحًا بأن طرحها هو للهروب من استحقاقاتٍ قد تضرّ بالمصالح الفئويّة الضيّقة.

ومن ثَمَّ لا نرى بالأفق القريب - على الأقلّ - ما يبشّرُ بالخروج من حالة التشرذم والتخبّط التي يعيشها شعبنا، والحديثُ عن الوحدة الوطنيّة في ظلّ هذا المشهد مجرّدُ ذرِّ الرماد بالعيون؛ لأنّ من يريد استعادة الوحدة الوطنيّة وإنهاء الانقسام وإعادة لحمة الشعب الفلسطينيّ وإنهاء الاحتلال، يجب أوّلًا تقديم استحقاقاتٍ فلسطينيّةٍ شاملةٍ وخطابٍ سياسيٍّ واضحٍ عبرَ برنامج، والتأكيد على فكرة إنجاز مهمّةِ التحرير كمهمّةٍ وطنيّةٍ رئيسيّةٍ يتمُّ توظيفُ الإمكانات كافةً لإنجازها وتحقيقها ممثّلةً بإنجاز تحرير فلسطين، وهزيمة المشروع الصهيوني، بالإضافة لتكامل نضال شعبنا وفعله ودوره في أماكن وجوده كافةً، واعتبار ساحة الاشتباك الرئيسيّة مع المشروع الصهيونيّ على أرض فلسطين تتكاملُ معها الساحاتُ كافّةً.

مع ضرورةِ إعادةِ بناءِ م.ت.ف وإصلاحها على أسسٍ واضحةٍ تمثّل الشعبَ الفلسطيني، ومن ثَمَّ إنهاء حالة الاختطاف التي تمّت لهذه المؤسّسة عبرَ مشاركة القوى الوطنيّة والإسلاميّة كافةً، ورفض تجزئته بمنطق الجغرافيا، ما بين داخلٍ محتلٍّ عام 1948 وضفةٍ وقدسٍ وخارجٍ وشتات، ورفض حالة الانقسام القائم والنضال لتجاوزه ليس بمنطق المحاصصات، بل وَفْقَ منطقٍ وطنيٍّ، وبعدها يمكننا الحديث عن انتخاباتٍ شاملة.

هذه العناوينُ تحتاج إلى إرادةٍ سياسيّةٍ أوّلًا، وتشكيل جبهةِ إنقاذٍ وطنيٍّ على أرضيّةٍ سياسيّةٍ للحفاظ على القضيّة الوطنيّة الفلسطينيّة والأهمّ هو تفعيلُ حالة الاشتباك العنيف مع الاحتلال بحيث يكون فعلٌ مبرمجٌ ومخطّطٌ جيّدًا ومتراكمٌ وغيرُ منقطع.

* بحكم واقعكم الخاص، وحملات التنكيل المستمرّة من قبل إدارة مصلحة السجون بحقّكم، نودُّ وضعنا في صورة المعيقات الاحتلاليّة الموضوعة ضدّ حقّ الأسرى في التعليم، وما هو الوضع الحالي لممارسة الأسرى لهذا الحقّ وإرادتهم في التغلّب على المعيقات؟

** بدايةً تشهدُ السجون الإسرائيليّة في السنوات الأخيرة إقبالًا ملحوظًا من جانب الأسرى على الالتحاق بالدراسة الجامعيّة سواءً في بعض الجامعات المحلّيّة أو العربيّة، وهذا الاتّساعُ في الإقبال على التعليم لم يأتِ منّةً من مصلحة السجون، إنّما جرى فرضه من قبل الحركة الأسيرة الفلسطينيّة، التي باتت إحدى أهمّ مهمّاتها هي إنجاحُ هذه المسيرة، والعمل على تطوير هذا المشروع، وقد مرّت تجربةُ التعليم الأكاديميّ في السجون الإسرائيليّة بثلاثِ مراحلَ نوجزُها على النحو التالي:

المرحلة الأولى: الممتدّة من عام 1967 وحتى عام 1992، حيث سعت الحركةُ الأسيرةُ الفلسطينيّة طوال هذه السنوات في نضالها الطويل ضدّ سياسة الاحتلال القائمة على التجهيل والقمع لفرض التعليم الثانوي والجامعي وانتزاع هذا الحقّ الإنساني من بين أنياب السجّان، غيرَ أنّ مصلحة السجون سمحت بالتعليم الثانوي للأسرى ورفضت السماح للأسرى بالدراسة الجامعيّة، واقتصرت هذه السنوات على التعليم الثانوي رغمَ نضال الأسرى المستمرّ غيرَ أن السجون تميّزت في تلك المرحلة بالحياة الثقافيّة والجلسات اليوميّة والمطالعة الذاتيّة وعقد الدورات التنظيميّة والفكريّة والسياسيّة وتعليم اللغات ....الخ. وقد أثمرت هذه العمليّة الطويلة في تخريج آلاف الكادرات المتمرّسة والمثقّفة التي كانت تحمل تجاربها الثقافيّة والتنظيميّة مع تمكّن الآلاف من الأسرى من نيل شهادة الثانوية العامة، وإكمال تعليمهم الجامعي بعد التحرّر من الأسر.

المرحلة الثانية: بين العام 1992 وحتى 2011، استطاعت الحركة الأسيرة بعد الإضراب عن الطعام في العام 92 انتزاعَ حقّ التعليم الجامعي إلى جانب عشرات الإنجازات الأخرى، لكنّه كان مشروطًا بالالتحاق بالجامعة العبريّة المفتوحة دون غيرها من الجامعات الإسرائيليّة، ولم يسمح بالالتحاق بأيٍّ من الجامعات الفلسطينيّة أو العربيّة، وقد تقدّم المئات من الأسرى بالالتحاق بالجامعة العبريّة بطريقة الانتساب، وتمكّن المئات منهم من نيل شهادة البكالوريوس في تخصّصاتٍ مختلفةٍ، ولاحقًا بعد العام 2000 التحق العشرات من الأسرى ببرنامج الماجستير في الجامعة ذاتها، وكان التخصّص الوحيد المتاح أمام الأسرى هو برنامجُ الديمقراطيّة، وكانت الدراسة باللغتين العبريّة والإنجليزيّة وخلال هذه الفترة جرى إدخالُ كميّةٍ كبيرةٍ من الكتب والمواد التعليميّة للسجون، واستمرّ الأسرى في التعليم بهذه الجامعة حتى العام 2011 وهو العام الذي جرى فيه سن القانون الذي عرف بقانون شاليط، وجرى سحب العديد من الإنجازات من الأسرى بما فيها التعليم الجامعي.

المرحلة الثالثة: من 2011 وحتى اليوم، بعد حرمان الأسرى من التعليم الجامعي أخذت تتنامى الدعوات داخل صفوف الحركة الأسيرة وبعد نضالٍ وإرادةٍ صلبةٍ تمكّنت من فرض التعليم بالجامعات المحليّة، وإن بشكلٍ غيرِ معلنٍ من قبل إدارة مصلحة السجون، وخاصّةً عندما قرّرت الحركةُ الأسيرةُ مراسلةَ الجامعات التي بدورها سمحت للأسرى بالانتساب إليها والتعليم بجامعاتها، كجامعة القدس المفتوحة، والأقصى والأمّة وغيرها، بشرط أن يشرف على العمليّة عددٌ من الأسرى حملةُ شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراة وعقد المحاضرات وتقديم الامتحانات، وتشكيل لجانٍ أكاديميّةٍ في مختلفِ السجون، وتطوّرت العمليّةُ التعليميّةُ مع الوقت، ولم تستطع مصلحة السجون أن تلغي أو تعرقل هذا النشاط إلا أن بعض المعيقات كإدخال الكتب والمجلات ومصادرتها وملاحقة الكتب والمكتبات التي اعتبرت مهمّةً نضاليّةً بعد أن أعلنت لجنة أردان التي شُكّلت بهدفِ تضييقِ شروط الحياة اليوميّة على الأسرى من تقليص أعداد الكتب المسموح للأسرى اقتنائها ووضعها في مكتبات الأقسام من سبعة كتبٍ لكلّ أسيرٍ إلى أربعة، ومنع الكتب التعليمية ومن يتم تصنيفها كتحريضيّةٍ حتى ولو كانت باللغة العبريّة، وأعلنت الحرب على المكتبات ولم تتوقّف يومًا عن محاولات استهدافِ هذا الإنجاز من خلال استخدام إجراءِ منعِ إدخال الكتب عبرَ الزيارة العائليّة كعقوبةٍ تُفرضُ على المعتقلين، وسحب الكتب التي بحوزتهم أو إغلاق المكتبة، وسحب الكتب بحجّة زيادةِ عددِها عن المطلوب أو فرض التبديل إذا أُحضر كتابٌ جديدٌ يخرجُ مكانه كتابٌ آخر.

وهذا ما يحصلُ منذ سنواتٍ داخل السجون، وكذلك يتمُّ ملاحقة كلّ كتابٍ، ولعلَّ أبرز عمليّة قرصنةٍ خلال السنوات الأخيرة قد تمّت في سجن هداريم عام 2018 حيث تمّت مصادرةُ ما يزيدُ عن ألفِ كتابٍ وفرضت إجراءاتٍ مشدّدةٍ على إدخال الكتب.

* صدرت مؤخّرًا روايتك الأولى "تحيا حين تفنى"، فهل هناك علاقةٌ بين الإنتاج الأدبيّ والنضال لأجلّ حقّ الأسرى داخلَ السجون فيما يتعلّق بالإنتاج الأدبيّ في ظروف الأسر؟ هل يتعلّق الأمرُ بتناولِ تجرِبةِ الأسر ومعاناة الأسرى أم الانطلاقة منها لمقاربة لشأن أوسع؟

** أودُّ بدايةً القولَ إنّ الإنتاجَ الأدبي خارج السجون حول قضايا الأسر والمرتبط بالمضمون والرسالة الذي يريد إيصاله، من خلال الإضاءة على زوايا معتمةٍ من حياة الأسير أو حول قضاياه الجوهريّة، فذلك ممّا لا شكّ فيه هو نوعٌ ما من النضال مؤثّرٌ وله صداه وميادينُهُ المحدّدة الذي لا بدَّ منه ليكتملَ مشهدُ الإبداع الثقافيّ الفلسطينيّ. وقد تعدُّ هذهِ المقاربةُ شائكةً لا سيّما مع اتّساع مفهوم النضال ومرونته واحتماله للكثير من الأوجه والأشكال والتفسيرات، حيث بالحديث عن الأدب العام المنتج خارج الأسوار في فضاء الحريّة يجبُ أوّلًا تحديد المضامين التي يتناولُها ومدى اقترابها من القضايا الوطنيّة التاريخيّة والتوعويّة ومدى قدرته على الوصول إلى شرائحَ معيّنةٍ؛ ومهمٌّ التنويهُ على أنّه حتى مع تناول الأدب الفلسطيني لقضيّة الأسر – وذلك شبه نادر – فلا يعني ذلك الاكتفاء بالدفاع عن حقوق الأسرى من خلال هذا المجال، فالأسير الذي ملَّ من صفات تجميل معاناته من خلال الصفات التي تطلق عليه من بطلٍ إلى أسطورةٍ إلى شهيدٍ حيٍّ يحتاج أوّلَ وآخرَ ما يحتاج للحرّيّة ثمّ الحرّيّة، ولذا فالأدبُ المقاومُ يمسي هو الجزءُ المكمّلُ لمسيرةٍ طويلةٍ من النضالات وليست بديلًا عن أيٍّ منها.

أمّا حولَ الشقّ الثاني من السؤال فلا يمكن اختزال المنتوج الأدبي للحركة الأسيرة بالسير الذاتيّة والمكانيّة والتأريخ للمعاناة، مع العلم بأنّ هناك كتابات وضعت واقع الأسر ومعاناة الأسير اليوميّة والممتدّة بشكلٍ راقٍ ومبدعٍ منها ما نزع نحو معالجةٍ عميقةٍ لقضيّة الأسر وإخضاعِ هذا الواقع المغلق لأدواتِ تحليله ارتباطًا بمنظومة الاحتلال الصهيوني ككل، وأبدع في ذلك إن كان عبرَ النشر كالدراسات والأبحاث والروايات والقصص القصيرة أو عبر الشعر بأساليب أكثر رمزيّةً وتجريديّةً، ومنها ما اكتفى بوصفٍ سرديٍّ لهذه المعاناة المتأتيّة عن وجوده داخل زنزانةٍ تحرمه من العيش الطبيعي والإغراق في سرد التفاصيل وتصويرها بأدقّ دقائقها، هذا من جانب. ومن جانبٍ آخر وحتى لا تختزل التجربة الأدبيّة للأسير بالاحتكام إلى قوانين عالمه الصغير والمعزول من الجيّد الإضاءة على تجاربَ أدبيّةٍ نزعت إلى ما هو أبعد عن واقع الأسر، وحتى أبعد من الانحسار في القضايا القوميّة والوطنيّة، وقد سجّل بعضُها نجاحاتٍ مهمّةً لامست الأدبَ الإنسانيَّ مما تحمله من رسائلَ عامّةٍ تهمّ الإنسانَ المظلومَ على هذا الكوكب، وطرقت أبوابًا متنوّعةً ومختلفةً أيضًا؛ نثرًا وشعرًا دون أن يعني ذلك - لدى المعظم - تنصّلًا من مسؤوليّته تجاهَ قضاياه الخاصة، إذ نجد في شعر عددٍ من شعراء الحركة الأسيرة دواوينَ تتضمنُ الوطن والإنسان والعاطفي في آنٍ معًا، وهذا حتّى لا يظلّ الأسيرُ أسيرًا للمكان، صحيحٌ أنّه عاجزٌ عن الانسلاخِ عنه ومغادرته للحرّيّة، لكنّه عبرَ أدبِهِ ينطلقُ من هذه المعاناة وهذا الحرمان والشحّ في القرارات والأفق المسدود ليعانقَ أنداده في عالم الحرّيّة يجاريهم بقلمه وقدرته على الابتكار والإبداع.

ومهما كانت الرسالةُ التي يحملُها نصُّ الأسير فإنّه على عكس الكاتب الذي يحظى بالحرّيّة، مجرّدَ استثمارِهِ لهذا الوقت الطويل له داخلَ الأسر بالكتابة والمساهمة، إنّما هو يمارسُ ما تبقى له من حياةٍ ويواصل ما بقدرته من نضالٍ، إذ إنّ ساحة الاعتقال تكاد تحصر الأسير بأدواتٍ محدودةٍ للمقاومة، أهمُّها قلمُهُ الذي يرفضُ عبرَهُ أن يتحوّلَ إلى كائنٍ سلبيٍّ يزجي عمرَهُ بالانتظار.