Menu

حروبُ الهُويّاتِ على الطبقات[1]

خالد فارس

نشر في العدد 35 من مجلة الهدف الرقمية

نُحاوِلُ رَصْدَ التاريخِ السياسيّ وأنثروبولوجيا سياسات الهُويّة في الوطن العربي، على مرحلتين؛ الأولى: الممتدّة على مدار مئات السنين من حكم الإقطاع العثمانيّ، ضمنَ ثلاثيّة؛ مركزيّة إقطاعٍ سياسيٍّ لعائلة آل عثمان، الدين الإسلامي، والجيش - العسكر. والثانية[2] التي لم تقطع مع الأولى، بل شكّلت امتدادًا لها، لكنّها جَسَّدَت نَمَطًا يختلفُ في الشكل، عندما تمّ توزيعُ السلطة المركزيّة السياسيّة للإقطاع العثمانيّ، في دويلاتٍ ونظمٍ سياسيّة، وُلِدَتْ من رحم سايكس بيكو ووعد بلفور.

الاستعمارُ الإمبرياليُّ يعيدُ إنتاجَ سياساتِ الهُويّة:  

صاغ مشروع سايكس – بيكو – وعد - بلفور ثلاثيّة مركزيّة عائلات حاكمة كأنّها إقطاعٌ سياسيٌّ تملك السياسيّ، والدين، والجيش. في سوريا و الأردن والعراق تأسّست على العائلة الهاشميّة، في الخليج العربيّ أمراء وشيوخ، ونظام ملكي تحت حكم آل سعود، وآخر سلطاني في عُمان، وفى غير مكان. كان الوعد البريطاني للعائلة الهاشميّة أن يتمَّ إلحاقُ فلسطين بسياسات الهويّة، وضمّ فلسطين إلى مشروع الهويّة الهاشميّة، لكيلا تنتقل الحالة في فلسطين إلى ما بعد الهُويّة، وتتبنّى سياسات نقيض لسياسات الهوية.

تَناتَجَ من هذه التشكيلة منظومةٌ سياسيّةٌ عربيّةٌ رسميّةٌ حاكمة، تتكوّن من:

  • هُويّة عائلة حاكمة، كَمُعْطًى ثابت، وتتمثّل القيادة العليا للجيش في هوية العائلة الحاكمة.
  • دين يتمّ موضعته في سياقِ هُويّة أيضًا، على أساس المذهب الضَيِّق، الذي تحدّده هُويّة العائلة الحاكمة، لذلك تم تخليق سلطةٍ من "كهنوت"، وشرعنتها؛ تتنطّعُ بتأويلاتٍ تتواءمُ مع هوية الحاكم، وتنتج الإسلام الضيق، الهوياتي، وتستبعد الإسلام المتوسّع، الذى يتواءم من مفهوم الشعب والمجتمع الحديث.
  • برجوازيّة هويّات، ثريّة، تتكوّن من هويّات فرعيّة، ويرتبطُ مصيرُها ووجودُها في: أ. هوية الحاكم. ب. ثرائها ذي الأصل أو البعد الهوياتي، أي أنها تربط بين الثراء البرجوازي وتعميق دور الهوية. ج. إمبرياليّة رأسماليّة غربيّة.

بِنْيَةُ الدولة العربيّة التي تشكّلت في مطلع ومنتصف القرن العشرين:

تتكوّن من كُتْلَةٍ ثلاثيّةِ الأبعاد، من ترابط السياسي: هوية الحاكم[3]، والاقتصادي: برجوازية هويات، والثقافي: دين يتبع هوية الحاكم وبرجوازية الهويات. كُتْلَةْ تَحكّم وسَيْطَرَة، جاثمة على طبقات المجتمع، تخوض في تدميرها، وتعميق تفكيك المجتمع إلى أجزاء، في هويات. ففقدَ المجتمع كيانيّته ووجوده بذاته المستقلّة عن الهُويّات. تتوزّع عمليّة اتّخاذ القرار السياسي على أساس سياسات الهويّة، التي تستند إلى تبادل المصالح بين الهويات. 

أمثلة على أنماط التفكير التي صاحبت تأسيس الوطن العربي الحديث:

".. فلا أريد منكم إلا السمع والطاعة، وما جاء بي إلا حميّتي وما تحمّله والدي من العبء الثقيل". 3 مارس 1921، عبد الله الأول بن الحسين بن علي الهاشمي، مؤسّس المملكة الأردنيّة الهاشميّة.

"أما الأمير فيصل فكان واعيًا بأنّ شعب المنطقة يعيش مرحلة ما قبل قوميّة (يسميها: ملّة)، وأنّ هويتها بل هوياتها قبليّة، ودينيّة ومذهبيّة... كيف لي وأنا السُني - الشافعي أن أحكم عربًا ذوا أغلبية شيعيّة. الأكراد هم سنة - شوافع. وجودهم سيخلق نوعًا من توازن. كان فيصل يفكّر بلغة الهويّة المذهبيّة، الفاعلة أمام ناظريه.." [4]

"وأريد بالطاعة: امتثال الأمر وإنفاذه توًّا في العسر واليسر، والمنشط والمكره". الركن السادس من أركان البيعة، تلك التي جاء بها حسن البنا.

يُعْدّ مفهومُ السَّمْعِ والطاعَةِ شَرطًا مُسْبَقًا، وأداةً للتحوّل إلى سياسات الهويّة الخاضعة لهويّة الحاكم. كما أنّ اللغة المستخدمة، مثل: "ملّة، السني - الشافعي، ما تحمّله والدي من حميّة، الخ) تتناقض مع لغة مجتمعٍ له كيانٌ بذاته.

المجتمعُ وَفْقَ تعريفاته السوسيولوجيّة، هو كيانٌ قائمٌ بذاته، أي أنّ له مكوّنات، مثل: الطبقات الاجتماعيّة التي تُشَيّد بُنْيانَهُ. إخضاعه للسمع والطاعة؛ يعنى تحويله من كيانٍ بذاته إلى كيانٍ قائمٍ بالهوية/يات، أي إلغاء أو تجاوز للبُنَى الاجتماعيّة، المتمثلة في الطبقات؛ الأمرُ الذي يؤسّس إلى استلاب المجتمع وأفراده[5].

التصدّي لسياسات الهُويّة:   

في المرحلة الناصريّة[6]، بدأ التصدّي لمشروع الهويّات وسياساتها. قدّم جمال عبد الناصر سياساتٍ طبقيّةً للمجتمع والدولة المصريّة الحديثة، وهذهِ أوّلُ مرّةٍ في التاريخ العربيّ الحديث، تتشكّلُ نواةُ سياساتٍ طبقيّةٍ نقيضَ سياساتِ الهوية.

اقتباسٌ من خطابات جمال عبد الناصر[7]، بتاريخ 22/7/1961 "إنّ أي فرد - أيها الإخوة المواطنون – ليس مخلّدًا؛ الشعبُ هو الخالدُ المتجدّد والشعب هو الباقي، وهو صانعُ التاريخ كله". "هذه الثورةُ الاجتماعيّة التي ناضل من أجلها الآباء والأجداد... وكان هذا هدفًا من أهدافنا الستّة؛ إقامة عدالةٍ اجتماعية، وكان هذا - أيها الإخوة المواطنون - شعارٌ يمثّل كلّ آمال هذا الشعب؛ يمثّل نضال الطبقة المظلومة من أجل العدالة". "الأهداف التي أعلناها لا يمكن أن تتحقّق إلا إذا تحرّر المجتمع كله من الاستغلال بكل أشكاله وإلى الأبد، "المجتمع اللي كنّا عايشين فيه كان مجتمع فعلا ينقسم إلى طبقتين؛ طبقة السادة.. طبقة الحكام وطبقة العمال، طبقة الفلاحين".

يُعَبّر الخطاب عن سياساتٍ طبقيّةٍ تعتمد على قيم المواطنة ومبادئها كونها تعبّر عن الشعب، في مجتمعٍ متحرّرٍ من الاستغلال والاستلاب. أراد الانتقال من سياسات الهوية إلى سياسات الطبقات وبناء مجتمع يُشَّيْد بُنْيانه الطبقات الاجتماعية.

انطلاقةُ الثورة الفلسطينيّة للتصدّي لسياسات الهويّة:

انطلقَ مشروعُ الثورة الفلسطينيّة في ظروفِ أزمةٍ بُنْيَوِيَّةٍ عربيّةٍ تَسبّبت فيها سياسات الهوية. جاءت الانطلاقة لتعبّر عن الحاجة إلى سياسات نقيض لسياسات الهوية، سياسات ينتقل فيها الفلسطيني من مشروع هويات مركزيّةٍ حاكمة، تسبّبت في مأساة الشعب الفلسطيني، إلى بِنْيةٍ سياسيّةٍ حديثة، في سياق مشروع الثورة الفلسطينيّة.

كان العنوان، كيف سينتقل الفلسطيني من شخصيّةٍ تقليديّةٍ ورثت مفاهيم الهُويّة من الإمبراطوريّة العثمانيّة، وتأثير سياسات الهوية من النظام الرسمي العربي، إلى شخصيّةٍ في مجتمعٍ سياسي، شخصيّةٍ سياسيّة، تفهم وتناضل وتدافع عن حقوقٍ سياسيّةٍ وحقوقٍ مدنيّة، وتربط هذا النضال بمشروع تحرّر؟ فتشكّلت أحزابٌ وأفكارٌ ثوريّة، لبناء شخصية مجتمعٍ يقوم على حقوقٍ سياسيّةٍ متحرّرةٍ من سياسات الهوية التي صنعها الاستعمار. وهذا النوع من التفكير هو سياسيٌّ طبقيٌّ؛ لأنّه ينظرُ إلى الشعب الفلسطيني من منطلق كيانية المجتمع كَكُل، له حقوقٌ سياسيّةٌ في مجتمعه المتحرّر، وليست حقوق هوية أو حقوق هويات، موزعة على مجموعات من الشعب الفلسطيني. لم تكن الثورة الفلسطينيّة، ثورة مَلِك يريد أن يحقّق أحلام هويّة للعائلة، أو عائلة متشابكة مع الدين، كما أرادت القوى الاستعماريّة، بل هي ثورةُ تحرّر وطنيّ يخوض فيها كلّ الشعب، الذى سيقرّر مصيره بذاته، ولن يقرّر مصيره مشروع هُويّة تقسيميّة.

منطلقات الشخصيّة السياسيّة مقابل الشخصيّة الهوياتيّة:  

تطلّب تجاوز سياسات الهويّة، سياساتٍ تحرريّةً وطنيّةً تستقلُّ عن القرار العربيّ الخاضع لإلزاميّات سياسات الهُويّة، وتعتمد على المجتمع وطبقاته الاجتماعيّة، إضافةً الى عدم حصر فلسطين بهوية تتبع حزبًا أو عائلةً ثريّة أو مجموعة عائلات (كأنّها أيدي خفيّة) تلعب في السياسة الفلسطينية. وبخصوص مصطلح الهوية الفلسطينية الذي وُلِدَ مع مشروع الثورة الفلسطينيّة، ليس تعبيرًا عن سياسات هوية، بل عن مخاض صراعٍ مع مشروعٍ احتلالي، أي أنّها هوية مجتمعٍ وشعبٍ وليس عائلةً أو جماعة، هي هويةٌ سياسيةٌ في مشروعِ حقوقٍ سياسيةٍ ومدنيّة.

أما الشخصيّة العربيّة التي انضوت تحت عباءة سياسات الهوية، تفكّر في حقوق المجتمع السياسيّة من نفق الهوية، وتعدّها خاضعةً لحقوق الهوية، مما يُحَوّلُ الحقوق السياسيّة وتحرّر المجتمع إلى قضايا مدنيةٍ ضَيِّقَة، في صيغةِ منافعَ وخدماتٍ مثل المَكْرَمات والامتيازات الحكوميّة، وبرلمان محاصصة لتعزيز مواقع الهويات. لا يَعي هذا المواطن، معنى الاستقلال السياسي؛ لأنّه لم يحمل مفهومَ حقوقٍ سياسيّةٍ مستقلًّا عن سياسات الهوية. 

تدمير الطبقات الاجتماعيّة العربيّة بأدوات سياسات الهوية:  

أشار كارل ماركس في البيان الشيوعي إلى أن هناك صراعاتٍ تؤدى إلى تدمير الطبقات "هناك صراعاتٌ معلنةٌ ومستترة، وأنواعُ اضطهادٍ متنوّعة... تنتهي في كلّ مرّةٍ إمّا بتحوّلٍ ثوريٍّ كلّيٍّ للمجتمع كلّه، وإمّا بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين" (ص54 البيان الشيوعي-دار الفارابي).  قياسًا على ذلك، فإنّ صراعات وسياسات الهوية التي تتم عبر التواطؤ السياسي المستتر على الشعوب وحقوقها السياسيّة والمدنيّة، والحروب الأهلية الجلية، مثل: أيلول الأسود، الحرب الأهلية في لبنان، في سوريا، في اليمن، وغيرها، أدوات سياسات الهوية، ونتيجة إدخال القضايا التحرّرية في صراعات الهوية. 

بالفعل ما زالت المجتمعات العربيّة والطبقات التي تُثابِر وُجودِّيًّا، تتعرّضُ إلى عملية إهلاك للطبقات، بأدوات سياسات الهوية وأجهزتها لترسيخ المجتمع في هويات، بوسائل البوليس السياسي التي تقمع الأحزاب والسياسات الطبقية، وإلغاء أو محاصرة النقابات لمنع أي عملية نضوج أو تبلور سياقات ذات مضمونٍ اجتماعيٍّ طبقي، كتلك التي تَبْني مُجْتَمعًا على أسسٍ من تقسيم مُتَخَّصْص - تَخَصُّصِي، وكبح الحُرِّيات التي تُطالب بحقوقٍ للطبقات المعدومة، واعتماد سياسات تَبَعِيَّةٍ مُعَمَّقَةٍ تُؤَدي إلى إفقار وتجهيل وتعزيز العصبيات القائمة على الهوية.

 


[1] المقال من مقدمة كتاب تحت الاعداد للكاتب، عنوانه حتى تاريخ كتابة هذا المقال: صراع هويات أم طبقات. الغاية من هذه المقدمة هو رسم خطوط عامة كمقدمة لموضوع شائك ومتشعب.

[2]  سنخصص هذا المقال للمرحلة الثانية وتداعياتها وردة الفعل عليها.

[3] في لبنان مثلا نطلق عليها حُكْمْ الهويات، وفى العراق ما بعد 2003 وما نتج عنه من دستور بريمير أيضا هو عبارة عن حُكْمْ هويات.

 [4] عبد الجبار فالح 2017: الدولة – الأمة- النزعة القومية وحق تقرير المصير مفاهيم أساسية، الحوار المتمدن. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=745768 

 

[5]. مقال للكاتب يجادل في أهمية مفهوم الاستلاب في فهم التناقضات الاجتماعية.

[6] الرئيس المصري جمال عبد الناصر.