Menu

الحرب الروسية الأوكرانية وبداية تشكل نظام دولي جديد

محمّد جبر الريفي

في غضون الاجتياح الروسي لأوكرانيا؛ يشهد العالم بداية تشكل نظام دولي جديد، يبرز في السياسة الدولية على أساس تحقيق المصلحة الأمنية للدول المنضوية في إطاره.  نظام دولي ينشأ بعيدًا عن الصراع الطبقي الذي كان يقوم على التناقض السياسي والفكري بين معسكرين الرأسمالي الإمبريالي والاشتراكي؛ فروسيا الاتحادية الآن التي تهاجم أوكرانيا ليست الاتحاد السوفييتي الاشتراكي السابق الذي تشكل من جمهوريات أوروبية وآسيوية على أساس الانتماء الفكري للنظرية الاشتراكية العلمية، أي ما تعرف بالماركسية ال لينين ية، وذلك رغم قوميات هذه الجمهوريات المتعددة. واوكرانيا بعد تفكك هذا الاتحاد الذي كانت هي نفسها عضوًا فيه، بل كانت تعد الجمهورية الثانية في تعداده بعد روسيا؛ أصبحت الآن أقرب للغرب، ليس لأنه نظام رأسمالي بقدر ما هي رغبتها في الدفاع عن أمنها واستقلالها من خلال الانضمام للاتحاد الأوروبي واكتساب عضوية حلف الناتو؛ الأمر الذي ترى فيه روسيا الاتحادية تهديدًا صارخًا لأمنها القومي، لذلك كله فالصراع المسلح القائم حاليًا بينهما هو صراع على الأمن القومي، وليس على أي عامل آخر وأرضيته هي القارة الأوروبية، وليست أي منطقة جغرافية أخرى، ولهذا السبب اكتفت الولايات المتحدة الأمريكية حتى الآن بمساعدة أوكرانيا من بعيد، أي من خلال حلف الناتو والاتحاد الأوروبي وفرض عقوبات اقتصادية، وذلك بسبب عدم وجود قواعد عسكرية لها في الأراضي الأوكرانية، وهذا ما جاء على لسان الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه، عشية بدء الهجوم الروسي، بعد أن أمر الرئيس الروسي بوتين؛ بعيدًا عن العمل السياسي والدبلوماسي الذي مارسته بالفعل وزارة الخارجية الروسية قبل ذلك، ولكن دون انصياع الحكومة اليمينية الأوكرانية للمطالب الأمنية الروسية. وهكذا نجد أنه بسبب المصلحة الأمنية؛ نأت الإدارة الأمريكية بنفسها عن اتخاذ قرار سياسي بالمشاركة فعليًا بالحرب في مواجهة الدب الروسي... 
بعد مرحلة جديدة من التوتر الدولي يمر بها العالم؛ تعد من أخطر المراحل السياسية التي يشهدها بعد انتهاء الحرب الباردة، وهي مرحلة بما أحدثته من مواقف سياسية لأقطاب دوليين كبار؛ تصيغ بالفعل بداية أولية لتشكل نظام دولي جديد قائم على اساس العامل الأمني وممكن الدفاع عنه بمنطق السيادة القومية والاستقلال الوطني الكامل البعيد عن التبعية السياسية والاقتصادية، وليس على أساس أي عامل آخر، كالعوامل الأخرى المحركة للتاريخ، وقد يضم هذا النظام كل من روسيا الاتحادية والصين الشعبية وكوريا الشمالية، وربما تلحق به إيران الجمهورية الإسلامية ودول أخرى، معادية للسياسة الأمريكية العالمية، وكل هذه الدول لا تربطها عوامل قومية أو دينية أو عرقية أو اقتصادية، بل توحد مواقفها السياسية؛ المصلحة الأمنية التي مظهرها الأبرز هو علاقاتها العدائية مع الغرب، وبشكل خاص الولايات المتحدة الأمريكية، المنحازة دومًا في مواقفها السياسية إلى الانظمة الرجعية والفاشية والعنصرية التي تصفها إيران في أجهزتها الإعلامية بالشيطان الأكبر. في حين خلاف كوريا الشمالية الاشتراكية معها؛ خلاف سياسي تاريخي منذ الحرب الكورية التي اندلعت في الخمسينات من القرن الماضي وأسفرت عن تقسيم الجزيرة الكورية إلى دولتين أحدهما شمالية اشتراكية؛ أكثر تطرفًا في عدائها لأمريكا، وأخرى جنوبية رأسمالية موالية للغرب بشكل عام، والصراع بينهما ما زال محتدًا إلى يومنا هذا. أما الصين التي تتحين الفرصة السياسية الإقليمية والدولية المواتية لغزو تايوان، بذريعة كونها في الأصل مقاطعة صينية وضمها إلى سيادتها الوطنية؛ فالحرب التجارية قائمة بينها وبين الولايات المتحدة وأرضيتها الفعلية السيطرة الاقتصادية على أسواق بلدان العالم الثالث التي غزتها السلع الاستهلاكية الصينية، مما يفقد الخزينة المالية الأمريكية موردًا ماليًا هامًا كان يساعد في حل أزمات النظام الرأسمالي الإمبريالي الأمريكي، حيث تسبب بدورها ارتفاعًا ملحوظًا في قيمة الضرائب الاقتصادية التي تثقل عادة كاهل المواطن الأمريكي، وبشكل خاص من الفئات الاجتماعية الشعبية محدودة الدخل...
هكذا يتبين من تحت وطأة الأزمة والاضطراب التي يمر بها العالم حاليًا؛ بسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا - والتي أدانته الجمعية العامة للأمم المتحدة وطالبت بوقفه - أن المصلحة الأمنية القومية هي التي سوف تشكل مواقف الدول في السياسة الدولية مستقبلًا، وقد يتأكد هذا الاستنتاج في الشرق الأوسط، وبالخصوص في المنطقة العربية، وذلك فيما لو حققت روسيا الاتحادية كقطب أعظم في السياسة الدولية هدفها من الحرب في ردع الحكومة اليمينية الأوكرانية الموالية للغرب ومنعها من الانضمام لحلف الناتو، وحيث أن تعاظم فاعليتها ومع حلفائها الجدد على خشبة المسرح السياسي الدولي بعد ذلك، وفي وقت يشهد به العالم تراجع الهيمنة الأمريكية الكونية، فهذا المتغير السياسي النوعي من شأنه أيضًا أن يفتح الطريق لانضمام دول أخرى في العالم الثالث لهذا النظام الدولي الجديد عربية وغيرها؛ معادية للسياسة الأمريكية، كفنزويلا وكوبا في أمريكا اللاتينيه وفيتنام والهند وسوريا والعراق في آسيا والجزائر في أفريقيا، وهي دول وازنة في العالم، وليمهد هذا الاصطفاف السياسي الدولي الجديد القائم على المصلحة الأمنية القومية، بداية محاصرة الدول الرجعية والفاشية والعنصرية الموالية للنظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي، وبالخصوص الكيان الصهيوني في الشرق الأوسط ؛ خلافًا لما تخطط له السياسة الأمريكية بشرق أوسط جديد، وهو كيان استيطاني دخيل صنيعة الغرب الاستعماري للقيام بدور وظيفة حماية مصالحه الحيوية والمدعوم حاليًا وبشكل رئيسي من الولايات المتحدة الأمريكية؛ حليفه السياسي الاستراتيجي.