لا يمكن فهم الواقع القائم في فلسطين، دون الوقوف عند حقيقة وقوعها تحت منظومة حكم عسكري يفرضها العدو، تهيمن على أبسط تفاصيل حياة الفلسطينيين وتسعى لإخضاع وإنهاء أي ممارسة لسلطتهم على مصيرهم وحياتهم ومستقبلهم؛ انحسار هذه الهيمنة جزئيًا عن بعض مساحات عيشهم، يرتبط بالمقاومة التي يظهرها الفلسطينيون وتمردهم عليها؛ فحين يقرر الفلسطيني عدم الخضوع لشروط الاستعباد، يحدث الاشتباك، وتتراجع هيمنة الاحتلال سواء، بعد احتدام الاشتباك أو تجنبًا له في بعض الحالات، أو تأكيدًا لواقع حال يقرر فيه الفلسطيني أن أي ثمن سيدفعه في التمرد هو أقل سوءًا من الأثمان المميتة للاستسلام أمام الاستعباد.
أنظمة التقسيم والعزل والتقطيع التي فرضها العدو لفصل الفلسطينيين عن بعضهم، والحد من صلاتهم وفعلهم المشترك، ونفي وجودهم كشعب ذو هوية واحدة ومصير ومستقبل؛ يتطلعون له دون سلطة الاحتلال، لا ينتقص هذا العزل من حقيقة ممارسة المُحتل لجرائمه ضد كل فلسطيني على هذه الأرض، ولا يضع الاحتلال اعتبار لهذه التقسيمات التي فرضها في ممارسته لقمعه وجرائمه ضد الفلسطينيين؛ فالحدود التي قد يسمح بها الحاكم العسكري لبلدية في الضفة المحتلة لا تختلف عن تلك التي قد يتيحها وزراء حكومة العدو وشرطته لبلدية في النقب أو الجليل؛ إدارة تقديم بعض من الخدمات للضحايا، دون مواجهة الجريمة ومسببها؛ جرائم الاحتلال والعدوان والاعتقال والقتل والمصادرة والحرمان من موارد العيش؛ تهجير الفلسطينيين يجري في النقب والضفة، في قدس فلسطين وأغوارها، والموت توزعه بنادق وطائرات جيش الاحتلال على الجميع.
ارتباطا بالوقائع تبدو مقاربة أي مسار فلسطيني بمعزل عن كونه جزءًا من هذه المواجهة، وتخيل عملية جمع النفايات أو اقامة شبكة للمياه أو الاتصالات أو رصف شارع أو أي نشاط خدمي محلي، دون إدراك صلته بالاشتباك مع المحتل هو مجرد تجاهل لحقيقة تقتلنا كل يوم وتجردنا من قدرتنا على حيازة قرارنا، على شربة ماء ما لم نقاتل لأجلها. حقيقة أننا في معركة مع عدو قرر محو وجودنا وإخضاع ما ومن يتبقى منا لنظام أقرب ما يكون للاستعباد حتى وإن تم تزيين خيمة العبودية هذه بواجهات مزخرفة، ففي داخل الخيمة القرار لصاحب ترسانة السلاح لا ينتقص منه ألا من يستل أمامه سلاح الفعل والتمرد ويقاتله.
انتخاب مرشح لمجلس بلدي ينوي الاتصال بالمنسق الأمني أو المدني مع الاحتلال ليوصل الماء لصنبور بيتك أو يجمع نفايتك؛ يعني قبولك بخضوعنا جميعًا لعبودية المنسق ودولته وجيش القتلة الساعي دمارًا في بلادنا، هذه حقيقة مؤلمة ولكنها حقيقة فحسب، لا يمكنك القفز عنها، وفي محاكمتنا للترشح والتصويت والانتخابات برمتها؛ مشترياتنا اليومية؛ أصغر أو أكبر قراراتنا، علينا أن نصنفها إذا ما كانت تنصب في مواجهة الاحتلال أم خدمته.
الخيارات أمامنا ليست كثيرة أو سهلة، ومن ضيقها إلى هذا الحد هو الاحتلال، فبين رصاصه وعسفه ودم أهلنا المراق وفعل الشهداء ونضالهم لحماية وجودنا والتصدي لهذه المجزرة المستمرة، تبدو الخيارات واضحة، وما محاولة تبسيط فعل "التعاون/ التنسيق" إلا تمييع ينصب في خدمة العدو المجرم.
هل نخبر الناس هنا أن عليهم عدم الذهاب للانتخابات؟ لا بالتأكيد فهذا ليس الموضوع المحوري، ولكن إيضاح لما يحكم وجودنا من وقائع علينا التعامل معها؛ فوجود مجلس بلدي أو جمعية أو فصيل أو مصنع، يرفض الخضوع للاحتلال هو قرارنا نحن، وهو بالمناسبة ليس بدعة مستحدثة، فقد سبق لشعبنا وحركته الوطنية أن شكل قوائمه الانتخابية للمجالس المحلية والبلديات وخاضها ليسقط قوائم المتعاونين وروابط القرى المدعومة من الاحتلال.