Menu

انتخاباتُ المجالسِ المحليّة: إعادةُ النظرِ في المسلّمات

وسام رفيدي

نشر في العدد 37 من مجلة الهدف الرقمية

أستاذُ علمِ الاجتماعِ في جامعةِ بيت لحم/ فلسطين

أعلنت لجنةُ الانتخاباتِ المركزيّة أنّ نسبةَ القوائمِ المستقلّة الفائزة بالانتخابات بلغت 64,4% فيما نسبة القوائم الحزبيّة 35,6%؛ كانت هذهِ الأرقام كافية لانطلاق (ماراثون) التحليلات التي لم تقرأ في الأرقام سوى ما (تقوله) شكلًا لا ما يكمنُ خلفَها فعلًا. وللحقّ فتلك إشكاليّةٌ منهجيّةٌ للتحليلات والدراسات السوسيولوجيّة المستندة لمنهج الإحصاء الكميّ حصرًا، والإشكاليّةُ تكمنُ أساسًا في أنّ الأرقام ميّتة، صماء، بلا حياة، ولا تقول في الواقع شيئًا كما سنرى لاحقًا فيما يتعلّق بالأرقام أعلاه.

قبل ذلك، ينبغي الإشارةُ إلى أنّ أغلبيّةَ التحليلات توصلّت لنتيجةٍ قطعيّة، هي أصلًا كانت جاهزةً على ما يبدو قبل إعلان الأرقام، ومفادُها: هذهِ دلالةٌ على هزيمة القوائم الحزبيّة، بما يدلّل على فقدان الثقة لدى الشارع بالقوى والفصائل الوطنيّة، وتعبيرٌ عن رفض البُنى السياسيّة والتنظيميّة. قالت التحليلات كلمتها وكفى الكاتب شرّ التحليل، تلك جملٌ تتكرّرُ منذ سنواتٍ وهي تفتقدُ - بتقديري - للقراءة المتمعنة للوصول إليها.

مستقلّةٌ عن ماذا؟

لأسبابٍ عديدةٍ غدا إعلانُ الاستقلاليّةِ في السنواتِ الأخيرةِ ظاهرةً سياسيّةً/اجتماعيّة لا تحدّد فقط الموقف من التنظيمات والانتماء، بل ويجري التباهي بها وكأنّ الانتماء الحزبي عارٌ يجب التبرُّؤ منه. أسبابٌ عديدةٌ – بتقديري – دفعت تجاهَ هذه الظاهرة؛ أوّلها فشل المشروع الوطنيّ وحوامله، منظّمة التحرير والفصائل في إنجاز المشروع الوطنيّ، لا بل استبداله من القيادة اليمينيّة بمشروعٍ استسلاميّ تمامًا، وثانيها طبيعة سلطة الحكم الإداريّ الذاتيّ الناشئة، سلطة أوسلو، وما ترافق معها، بنيويًّا، من ظواهر الفساد والارتزاق والمحسوبيّة. ولما كان مَنْ يقودُ هذه السلطة هو تنظيمٌ فلسطينيٌّ فانسحب الموقف، بطريقةٍ لا تخلو من العدميّة، على كلّ فصائل العمل الوطنيّ، سواءً كانت شريكًا في السلطة أم خارجها. أمّا ثالثها، فتأثيرُ الثقافة الأوسلويّة المدمّرة على القيم الجماعيّة، وعلى رأسها قيمة الانتماء والعمل الجماعيّ والتضحيّة، بديلًا للقيم الفرديّة التي عزّزتها ثقافةُ أوسلو، ويمكنُ إجمالُها تحت شعار (السلامات يا راسي). وأخيرًا يمكن ملاحظة حجم الملاحقة الاستخباريّة المزدوجة الصهيونيّة/ الأوسلويّة للتنظيمات التي تتبنّى نهج المقاومة في الضفّة الغربيّة، وتحديدًا حماس والجهاد والجبهة الشعبيّة ما ترك تأثيراته على قدراتها السياسيّة والجماهيريّة في التواصل مع الجماهير.

ومع ذلك، فالاستقلاليّةُ المعلنةُ للقوائم الانتخابيّة لا تعني الاستقلاليّة السياسيّة بأيّة حال، فتلك مستحيلةٌ ولا مكان لها في الحياة فعليًّا، بل تعني الاستقلاليّة التنظيميّة العلنيّة، صدقت أم موّهت، أي عدم إعلان الانتماء التنظيميّ، إن وُجد، لاعتبارات نعتقدها أمنيّة بالدرجة الأولى تتعلّق بالملاحقة الصهيونيّة. ضمن هذا الفهم ليس هناك من قوائمَ مستقلّةٍ سياسيًّا، وإن كانت مستقلّةً تنظيميًّا، وهذا ما سنتناوله تفصيلًا فيما سيلي من سطور.

وبالتفصيل، فإنّ المنافسة في الواقع كانت بين توجّهينِ اثنين، على الأخصّ في المدن الأساسيّة: الأوّل مثّلته حركة فتح تحت مسمى قوائم البناء والتحرير، والثاني مثّله تحالفُ المحسوبين على حماس والشعبيّة. في نابلس ورام الله وقلقيلية، فازت قائمة فتح بفارق مقعدٍ واحدٍ في نابلس وقلقيلية عن قائمة تحالف حماس/شعبيّة، و5 مقاعد في رام الله عن قائمة التحالف اليساري، فيما فازت قائمة التحالف في مدن البيرة بفارق 4 مقاعد عن قائمة فتح، وفي الخليل وطولكرم بفارق مقعدٍ واحد.

على الصعيدِ الشعبيّ كانت العين الشعبيّة، إن جاز التعبير، أكثرَ دقّةٍ من المحلّلين، فقد رأت في القوائم قوائمَ سياسيّةً بامتياز، وإن لم تعلن انتمائها كما فعلت قوائم فتح، ولم يكن التداخل العشائري/ العائلي في تشكيل القوائم ليموّه حقيقةَ التركيب السياسي للقوائم المستقلّة، وهذا ما سنأتي على ذكره لاحقًا.

إلى ماذا يؤشّر هذا؟ إلى حقيقةٍ باتت صارخةً وتستوجب إعادةَ النظر في فهم موضوعيّة الاستقلاليّة، ومدى الالتفاف حول القوى والفصائل، ونعني بها حقيقة أنّ القوى ما زالت هي الفاعلُ الرئيسُ في العمل السياسيّ والجماهيريّ في الضفّة، وأنّ ما يبدو انفكاكًا جماهيريًّا عنها فهو انفكاكٌ عن بنيتها التنظيميّة/ الحزبيّة الرسميّة لا انفكاكًا عن تيّارها، وتلكم مسألةٌ تحتاجُ لبعض الإيضاح.

الفرقُ بين البِنيةِ والتيّارِ مفهومٌ لدى كلٍّ مَنْ مارسَ ويمارسُ العمل السياسي، فالتيّارُ أوسعُ بما لا يقاسُ فيما البِنية الحزبيّة الضيّقة تقودُ هذا التيّار الواسع، وفي الحالة الفلسطينيّة، فالملاحظُ أنّ الضررَ الواسعَ الذي يبدو أحاقَ ببنية تنظيماتٍ محدّدة؛ نتيجةَ القمع والملاحقة الصهيونيّة، وأحيانًا الأوسلويّة، لم يعنِ انفكاك التيار الملتفّ حول تلك التنظيمات، وهذا ما يجب قراءته في المواقع التي حقّق فيها التيّار المقاوم نتائجَ لافتة، بغض النظر عن فوزه أم لا، كالمدن الكبيرة، والعديد العديد من القرى والبلدات ما يعكس قوّة التيّار. من المبكّر جدًّا قراءة الفاتحة على قبور التنظيمات والعمل الفصائلي، وأكثر ما يصدق هذا التحليل على التيّار المحسوب على حماس والشعبيّة.

موقعُ العشائريّةِ من العمليّة الانتخابيّة:

كما أضحى شعارُ الاستقلاليّة مدخلًا للتحليل لدى الأغلبيّة، كذلك كان مفهومُ العشائريّة مدخلًا لفهم تركيبة القوائم ووسمها، على الإطلاق، بسمة العشائريّة، كمدخلٍ للطعن في (عصريّة وحداثة) الانتخابات. لا يخفى على أحدٍ ما ينزوي خلفَ هذا الموقف من نزعةٍ مستغربة، وانْ شئتَ استشراقيّة، لدى قطاعات من الفئات الوسطى/ تتبنّى الفهم الاستشراقي الذي لا يرى في التركيب الاجتماعيّ سوى عشائريّته، ومن ثَمَّ تخلّفه ولا حداثته ولا عصريّته.

أوّلًا، من الناحية العمليّة الانتخابيّة الصرفة، وإن شئت التكتيك الانتخابي، فلن تكون القوائم من الغباء، بحيث لا تراعي التركيب لا العشائري فقط، بل الديني والجهوي في تركيب قائمتها. فلا يمكن تشكيلُ قائمةٍ في رام الله - مثلًا - دونَ الأخذ بعين الاعتبار أنّ فيها (ممثّلين) للمسيحيّين من حمائل رام الله، وللمسيحيين من اللاجئين ومن مسلمين، سواءً لاجئين أم من أصولٍ خليليّةٍ أو ريفيّة مثلًا، ناهيك أنّ اللاجئين من اللدّ في رام الله ثقل ينبغي مراعاته. أمّا في الخليل مثلًا، فالعائلاتُ قوّةٌ كبيرةٌ عددًا وتأثيرًا، فهل يتخيّل أحدٌ ما أنّ قائمة تتشكّل دون مراعاة ذلك التركيب السكّاني العائليّ؟

ومع ذلك، فتلك المراعاةُ وذاك التركيبُ للقوائم، وهذا ما لا يراه (الحداثيّون جدًّا)، لم ينتهك جوهر التركيب السياسي بامتياز. إنّ مراجعةً بسيطةً للأسماء التي تشكّلت منها القوائم في كلّ المواقع سيلحظ الملمح العائلي والديني والجهوي في تشكيلها بلا شكّ، ولكن يجب أن يلحظَ أيضًا، إن تخلى عن الوصفات المنهجية الغربيّة الجاهزة، أن ذلك الملمح، على تنوعاته، هو سياسيٌّ بامتياز، وأحيانًا تنظيميّ بامتيازٍ كحالة قوائم فتح.

لن نأتيَ بجديد، إن قلنا: إنّ العائلة ما زالت تشكّل محورًا مهمًّا في التركيب الاجتماعي، ولكن سنجانب الصواب، إن لم نلحظ خلف تلك الحقيقة السوسيولوجيّة، حقيقة أخرى: في المعارك الانتخابيّة يتشكّل السياسيّ والحزبيّ من خلال العشائريّة، فيكون هذا التشكّل، وإن لم يظهر علانيّة، هو المحدّدُ الرئيسُ لطبيعة القائمة. واللفظ الشعبيّ الدارج، مرّةً أخرى، أكثر حنكة من المحللين حين يعبّر هذا اللفظ عن ذاك المحدّد الرئيس عندما يصنّف (ابن العائلة) فيقول: هذا مهو محسوب على..... وذلك يعني ببساطة أنه وُجد في القائمة لاستثمار انتمائه العائلي في التحشيد الانتخابي للتيار أو للتنظيم، كتكتيك مفهوم ومشروع ولا بديل عنه على الأقل في اللحظة التاريخيّة هذه من عمر التركيب الاجتماعي.

أين هي الحراكاتُ أو الحركات؟

في بعضِ المدنِ الكبيرةِ كرام الله والخليل ونابلس طرحت بعض القوائم أنّ فيها تمثيلًا للحراكات التي ظهرت، وانتهت فعليًّا، في السنوات الأخيرة. لسنا في معرض تحليل دور ومكانة وتأثير تلك الحراكات، وفي العلاقة بينها وبين القوى السياسيّة، فتلك ليست وظيفةَ المقالة، نكتفي بالقول كتمهيدٍ لهذه الجزئيّة: إنّ تلك الحراكات بدت لدى العديد من الدارسين ولدى ناشطيها أيضًا وكأنّها رفضٌ للقوى السياسيّة وإعلان انتهاء عهدها كقوى! فيما قام ناشطوها بالنفخ بها لدرجة أنّ بعضها شكّل قوائم للمنافسة على انتخابات المجلس التشريعي قبل أن تلغيها سلطة أوسلو.

النتيجة وحسب ما أُعلن من نتائج فهي صفر، لم يُذكر اسمها نهائيًّا كمكوّن حقّق وجودًا ما، كما أشارت النتائج، فالمكوّن الوحيد كان مزدوجًا: قوائم حزبيّة وقوائم مستقلّة والأخيرة أوضحنا طبيعة استقلاليّتها سابقًا.

ينبغي أن يعيد الكثيرون تحليلاتهم حول المدى الذي يمكن للحراكات وناشطوها أن يصلوه في الساحة الفلسطينيّة، وهذا ما كنت أعتقده دائمًا: ليست الساحة الفلسطينيّة حبلى لتتحوّلَ الحراكات الناشئة سريعًا، لحركات، لا كمنافس للقوى ولا كشريك ولا كبديل، لاعتباراتٍ عديدةٍ ليس من وظيفة المقال الاسترسال بها.

عن الشبابِ والأنجزة:

أمّا اللافتُ للنظرِ فهي نسبُ التصويت التي تبدو منخفضةً جدًّا في بعض المدن، كرام الله مثلًا، التي سنعالجها كظاهرة. بلغت نسبةُ التصويت في رام الله 34,27% وفي البيرة توأمها 30,40% وفي جنين 37% ونابلس 37,41% فيما في الأرياف وصلت أحيانًا إلى ما فوق 80%. أن تكون النسب في مدنٍ كبيرةٍ حول الـ 30% (الخليل 43.82%) فهذا يستحقُّ الوقوف عنده. وبمراجعة توزيع نسب الفائزين على الفئات العمريّة، فإنّ الفئة الشبابيّة من 25-35 كانت حصّتها 28% من المقاعد، أي أنّ الشباب جرى تمثيلهم في المجالس المنتخبة بنسبةٍ تكاد تصل للثلث؛ آخذًا بعين الاعتبار ثقل النشاط غير الحكومي (الأنجزة) وتركّزه في المدن الكبيرة أصلًا، فإنّ نسبَ التصويت كانت بائسةً تمامًا كما نرى أعلاه، إذ ورغم مئات المشاريع من مؤتمراتٍ وورشاتٍ تدريبيّةٍ ولقاءاتٍ لمجموعاتٍ وخططٍ لتطوير المشاركة الشبابيّة وشعاراتِ الديموقراطيّة والحوكمة وفعل التغيير ووووو وقبل كلّ ذلك الملايين التي صُرفت على تلك المشاريع؛ فالنتيجةُ كانت بائسةً، فالشبابُ لم يتوجّهوا للانتخاباتِ ولم يحصدوا، كشبابٍ، رغم التباساتِ هذا المفهوم، على النتيجة المرجّوة، التي كانت تدعي تلك المشاريع أنّها تبتغيها، ونعني تطوير مشاركة الشباب في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة وتعزيز الديموقراطيّة. لقد عبّر أحد الظرفاء عن هذه الظاهرة بالقول: إنّ مجموع مَنْ شارك في مؤتمراتِ وأنشطة "الأنْ جي أوز" أكثر من نسبة التصويت في رام الله! يبدو الاستنتاج فيه بعضٌ من المبالغة، ولكنّه يؤشّر لبؤس المشاركة في مدينة تتركّز فيها المنظّمات غير الحكوميّة وأنشطتها وفعالياتها، وفيها تُضخّ الملايين، ومع ذلك حجم المشاركة لم يعكس مطلقًا لا حجم الجهد ولا حجم الصرف. يبدو أنّ السبب الرئيس لذلك هو فقدانُ الثقة بممكنات التغيير، حتى على مستوى هيئةٍ محليّة؛ الأمرُ الذي يعيد للأذهان - بتقديري - طابع ثقافة اليأس، والاحباط، والتشكيك التي يجري ترويجُها منذ مطلع التسعينات حتّى اليوم.