Menu

حتى يخدم قديم الجبهة الشعبية جديدها؟

طلال عوكل

ماذا يمكن ان يكتب انسان يعتز بما قضى من تاريخه النضالي في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، وهي تدخل عامها التاسع والأربعين من انطلاقتها عام 1967؟

الكتابة في هذا الشأن هي استحقاق له علاقة بالوفاء لتاريخ مجيد من النضال والتربية الأخلاقية والقيم المحترمة التي ترسخت كمفاهيم وسلوك لدى كل المنتسبين للجبهة الشعبية،  ولكن من موقع "صديقك من صدقك" فإن المقام ورجاء الفائدة يستدعي مغادرة منطق الغزل والإشادة، وثمة الكثير مما يمكن قوله في هذا السياق، غير أن الأهم هو في الإشارة إلى مواطن الخلل والتقصير التي جعلت الجبهة تتراجع مكانتها ودورها، وترتيبها بين الفصائل الفلسطينية الفاعلة في الساحة السياسية.

 تسمع الناس، وأنا ممن يصدقون حدس الناس، تسمعهم يشيدون بحسرة بالجبهة الشعبية وبكونها تنظيم نظيف وطنياً ويتمتع أعضاؤها بأخلاق حميدة، لكنهم قبل أن يضعوا نقطة بعد هذه الجملة، يضيفون ما يشير إلى ضعفها وعجزها عن القيام بدور فاعل ومؤثر في السياسة الفلسطينية،  وفي المجتمع الفلسطيني عموماً، ثمة مشكلة إذا تستدعي التوقف ملياً وبعقل مفتوح أمام الأسباب، التي تقف وراء هذا التقييم المنصف إلا أن كان هناك من يستمرئ استمرار الحال على حاله والاكتفاء بنيل جائزة البراءة، والنظافة الوطنية، والسمعة الحسنة .

بشكل عام يمكن القول أن الجبهة الشعبية وقوى اليسار عموماً تعاني منذ بعض الوقت من  هذه الأزمة، التي هي جزء وانعكاس للأزمة العامة التي تضرب المشروع الوطني الفلسطيني بمختلف مؤسساته وتعبيراته، اثر تراجع مكانة القضية الفلسطينية عربياً ودولياً، وبعد فشل الخيارات والمشاريع التي سادت خلال المرحلة الطويلة السابقة منذ توقيع اتفاقية أوسلو.

غير أن تأثيرات هذه الأزمة العامة ليست متساوية على كل الأجسام الوطنية، فثمة تفاوت في القدرة على التعامل مع مكونات وأسباب هذه الأزمة، ولكن يظل اليسار و في مقدمته الجبهة الشعبية الأضعف في التعامل مع هذه الازمة ومخرجاتها .

عدا عن ذلك، فإن مظاهر ومؤشرات ضعف الجبهة تتمثل في العديد من القضايا الأساسية، فشلت الجبهة ومعها بقيّة القوى الرافضة للانقسام في أن تشكل كتلة ضاغطة على طرفيّ الانقسام بالوزن الذي يقنع أو يُرغم هذه الأطراف على التقدم نحو حلول لهذا الانقسام وبالرغم من أن تطورات الصراع الفلسطيني والعربي الاسرائيلي تؤكد صحة وسلامة الموقف من أوسلو، ومن الخيارات السياسية السائدة وازاء كيفية التعامل استراتجيا مع المشروع الصهيوني الذي يتجه نحو العودة إلى الصفر حيث الصراع على كل أراضي فلسطين التاريخية، إلاّ أن الجبهة تعاني من علو الشعارات وانخفاض مستوى الفعل الكفاحي، مشكلة تتصل بحجم القاعدة الشعبية للجبهة وحتى في قدرتها على تجنيد وتحشيد رصيدها الواسع الذي توارثته عن حركة القوميين العرب وخلال مراحل قوتها وانتشارها .

وتتجلى الأزمة أيضاً في قدرة الجبهة على التأثير في مراكز صنع القرار الفلسطيني وبالأساس منظمة التحرير الفلسطينية، حيث في كثير من الأحيان لا يتجاوز دورها دور القوى السياسية الأخرى، وفي ضعف تحالفات الجبهة على الصعيدين العربي والدولي .

لم تنجح الجبهة في بناء علاقات وتحالفات خارجية فعّالة على الرغم من أن الصراع في المنطقة عموماً، هو بين "مشاريع" علمانية ليبرالية ومشاريع الإسلام السياسي على اختلاف وتنوع مسمياته،  نعلم بطبيعة الحال ماهية وطبيعة المتغيرات الكونية والإقليمية التي أدت إلى تراجع دور الأحزاب والحركات التي تتبنى النظرية الماركسية ال لينين ية أو تحمل مشاريع ورؤى اشتراكية، ولكن ربما كان هذا الإدراك يوفر سبباً لتغييرات وتجديدات هامة على صعيد العقيدة والفكر السياسي الذي تتبناه وتتمسك به الجبهة وقوى اليسار الفلسطيني عموماً.

 الجبهة بإمكانياتها المادية وخصوصاً المالية المتواضعة لا تستطيع مجاراة فصائل أخرى كبيرة أو حتى متوسطة الحجم في الساحة الفلسطينية، الأمر الذي ينعكس ضعفاً على قدرتها على الإسهام الفعّال في معالجة هموم واحتياجات الناس وأزمات المجتمع الذي عليه أن يصمد وأن يدفع الثمن.

لا أريد أن أتدخل أو أدخل على خط البنية الداخلية ذات العلاقة المباشرة مع المستويات القيادية العليا للجبهة، التي يغيب عنها، قيادات تاريخية كبيرة من مستوى الراحلين جورج حبش وأبو علي مصطفى والقائمة تطول، وفي زمن يحتاج إلى عقول مفكرة، وذات خبرة، من نوع القيادات التاريخية ذات الآفاق الإستراتيجية.

كنت وما أزال أعتقد أن الجبهة تتحمل قسطاً من المسؤولية عن فشل كل مشاريع توحيد اليسار الفلسطيني، على الرغم من أن ذلك يشكل ضرورة موضوعية، ومن كونه مشروعاً قديماً وضعته الجبهة الشعبية على أجندتها منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي، وأيضا على الرغم من أن تطورات الصراع قلّصت من الفوارق السياسية بين أطراف اليسار.

 ومن وجهة نظري فإن الجبهة ظلت تغلب الأخلاقي على السياسي في صراع مرير مع الاحتلال، الأمر الذي يخالف قواعد العمل السياسي الذي يحتاج إلى الواقعية السياسية، والبرغماتية، والاستعداد لتحمل أوساخ الغوص في مستنقع السياسة.

في كل الأحوال أرى بأن طبيعة المرحلة وطبيعة الصراع مع الاحتلال ذات خصائص استثنائية من نوع الاحتلال الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي، تتطلب فكر سياسي ورؤى تتجاوز فكرة الحزب الحديدي، والالتزام الأيدلوجي الصارم، ومن ثم تداعيات هذا الالتزام على منظومة العلاقات الداخلية.

مرحلة التحرر الوطني، تحتاج إلى رؤية قائمة على أن كل طبقات وفئات المجتمع الفلسطيني، لها أدوار متفاوتة، ومصالح متفاوتة أيضاً في تحقيق الاستقلال والحرية، وتحتاج إلى مراعاة منظومة القيم والعادات والتقاليد والثقافة المجتمعية السائدة بدون أن يصل ذلك إلى مستوى الالتزام الأيديولوجي، وأيضاً بدون إقصاء فكرة الاسترشاد بالمنهج الديالكتيكي.

إن أعداد ليست قليلة من كوادر وقواعد الجبهة قد اتجهت فعلياً، وبشكل فردي نحو مراعاة هذه المنظومة المجتمعية، خصوصاً ما يتعلق بأشكال التدين من الصلاة والصيام وحتى الحج،فلماذا تظل هذه الازدواجية قائمة؟

ثمة حاجة إذاً لمراجعة شاملة، جريئة، لأوضاع الجبهة ابتداءً من بحث الأسباب والتداعيات، ونحو الإقدام على عملية تجديد حقيقية تعيد للجبهة شبابها وألقها ودورها المتنامي.