أنطونيو غرامشي هو مفكر ماركسي بارز، وأحد أهم قادة ومنظرين الحركة الثورية الإيطالية، ولد عام 1891 في جزيرة ساردينيا الإيطالية وعاش في الثلث الأول من القرن العشرين، وهي فترة حاسمة في تاريخ البشرية، حيث برز فيها على مسرح الاحداث عديد من الانعطافات التاريخية الحاسمة، مثل ثورة أكتوبر في روسيا والأزمة العامة للرأسمالية وصعود الفاشية الى سدة الحكم في إيطاليا وألمانيا وغيرها من الأحداث التاريخية المهمة.
وقد عاش غرامشي هذه الأحدث مفكرا ومحللا وممارسا في الحياة السياسية والثقافية، حيث أصدر العديد من الصحف والمجلات التي تعني بمتابعة تطور الحركة التاريخية للطبقة العاملة في إيطاليا والعالم أسهم في تأسيس الحزب الشيوعي الإيطالي. وقد كان نشاط غرامشي مميزا وكثيفا أثناء صعود الفاشية في إيطاليا، الأمر الذي دعا المدعي العام في دولة موسوليني الي القول اثناء محاكمة غرامشي “يحسب ان نوقف هذا الدماغ عن العمل لمدة عشرين عاما”.
سجن غرامشي غير أن سنوات السجن على الرغم مما فيها من حصار ومرض داهم غرامشي اثمرت أهم كتاباته، تلك الكتابات التي جمعت وأخذت اسم “كراسات السجن” ويبدو أن السجن قد أعطى غرامشي فرصة لتحليل الواقع ومراجعة المواقف، فرغم عزلة غرامشي التي كان يعبر عنها في رسائله الى أمه وهو العمل الثاني لغرامشي الذي يحتوي على بعض الخواطر السياسية والرسائل الي زملائه في الحزب الشيوعي الإيطالي بشكل ضمني، إلا أنه كان يمارس أعلى أشكال التفكير والعمل العقلي.
ويمكن تمييز فترتين في نضال وفكر غرامشي، فترة العمل السياسي والصحافة التوعوية 1916_1926وفترة السجن 1926 _1937. وهذا التمييز لا يظهر اي انفصال بين الفترتين بل يمكن القول ان سنوات السجن رغم صعوبة الظروف وانعدام المراجع التي احتاجتها ابحاثه، إلا أنها كانت فترة مثمرة في تأصيل الموضوعات والأفكار التي قد كان طرحها في كتاباتة الصحفية. فقام ببحث في تكوين الروح المدنية خلال القرن التاسع عشر، أي بحث عن المثقفين الإيطاليين وأصولهم وتجمعاتهم وتياراتهم الثقافية ومنهجياتهم المختلفة. كما قام بدراسة وحدة إيطاليا والتفاوت الاجتماعي والتاريخي بين الشمال والجنوب، كما تناول بالدراسة أعمال كروتشه الفيلسوف الإيطالي الذي اعتبرة غرامشي رئيس هيئة الأركان الفكرية للبرجوازية الليبرالية.
وهذه الكتابات الفكرية ذات الصبغة التاريخية لم يلجأ إليها غرامشي هربا من أحداث عصره، بل كان وعي غرامشي الحقيقي بقضايا عصره هو الذي دفعه الي هذا المنهج التاريخي في قراءة الأحداث وبحث مقدماتها. حاول غرامشي في كتاباته أن يجابه بشكل نظري شامل الإشكال الذي فرض علي الحركة الاشتراكية بسبب هزيمتها السريعة في أوروبا الغربية في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولي، والنهوض السريع للقوي الرجعية الذي لازم هذة الهزيمة.
تتبع غرامشي أصل هذة الأحداث ضمن الواقع الاجتماعي والتراث التاريخي لأوروبا الغربية، ليبني بذلك تجديدا هاما في إطار النظرية الماركسية، وقد كان الموضع الحقيقي في هذا التجديد رفض “الاقتصادية” بمختلف أشكالها، أي تغليب المستوي الاقتصادي والوضع الاقتصادي على المستويات الأخرى التي تساهم في نشوء المجتمع وحركته، وبمعني أخر “النزعة لاختزال مستويات البنية الفوقية المختلفة الي مرتبة الظاهرة” وقد تسببت هذه النزعة ظهور مفهوم تطور حتمي للتاريخ يجعله محكوما بقوانين موضوعية يتخطي اثرها مجال التدخل الإنساني الفاعل، أي دور الإنسان في تغيير تاريخة وواقعة. وكانت النتيجة كارثية في وجة الأحداث معتمدة علي ايمان اعمي بـ”قوي التاريخ” وبانهيار الرأسمالية الحتمي تحت ضغط تناقضتها الداخلية. رفض غرامشي القوانين الجامدة التي تدعي التحكم بمسيرة التاريخ تحكما صارما، فالتاريخ في نظر غرامشي تطور تراكمي حر وليس “اشكال تم هندستها مسبقا”.
وبهذا المعنى كتب غرامشي أشهر مقالاته “الثورة ضد .. رأس المال” التي ذهب فيها الى أن الثورة البلشفية انتصرت على النظرية الماركسية التقليدية في أحد بلدان العالم المتخلفة من الناحية الاقتصادية. “لقد غلبت الحقائق الأيديولوجيات فالحقائق فجرت الحطاطات النقدية التي كان يتعين ان يتطور التاريخ الروسي في إطارها طبقا لمباديء المادية التاريخية”، “إن البلاشفة يخطئون كارل ماركس وشهادة العمل الصريح، فهم يقررون ان مبادئ المادية التاريخية ليست مصبوبة من حديد كما ينبغي أن تكون”.
قام غرامشي بدراسة وتحليل التجربة التاريخية الإيطالية كنموذج ملموس كفهم لفشل البروليتاريا الأوروبية وعجزها عن القيام بثوارتها. فقد أعاد غرامشي بناء التاريخ الإيطالي وبتحليل عميق للمجتمع الناتج عنه من وجهة نظره. وركز عمله على فكرتين جوهرتين: علاقة الثورة البروليتارية بالتاريخ الماضي، وتعقد العلاقات والقوى وتشابكها في المجتمع الرأسمالي.
وقد توصل الى خلاصة هامة بعد بحث تاريخي مكثف ومعقد في هذين الموضوعين، وهي استقلالية البنى الفوقية وعدم اقتصارها على مجرد أنها بنى تابعة للبناء التحتي. ففي الحالة الأولي كان من الضروري التأكيد على استقلاية البنى الفوقية في علاقتها مع الأساس المادي، عندما أشار الى بقاء الأفكار والقيم والمفاهيم بعد زوال البنى التاريخية التي أوجدتها. وفي الحالة الثانية يرهن البحث على أن الاختزال الكامل للمجتمع البرجوازي برمته ولكل القوى السياسية والثقافية الموجودة الى الأساس الطبقي الذي حددها عمل خاطيء وتبسيطي، ومن هنا طور غرامشي نظرته الخاصة بدور المثقفين على أساس سوسيولوجي يحدد تعريف المثقف بوظيفته ودوره بالنسبة للطبقة الاجتماعية، وهو ما أسماه بالمثقف العضوي كما أقام تعريفا أخر يستند على النظرة التاريخية ويتعلق بتحديد المثقفين علي أساس المكانة التي يشغلونها داخل السيرورة التاريخية. ويسمي غرامشي المثقف المرتبط بطبقات زائلة أو في طريقها الى الزوال بالمثقف التقليدي.
المثقف العضوي والمثقف التقليدي
وفي تعريفه للمثقف، فغرامشي يرفض تماما التقسيم الشائع للمجتمع كفئتين: الشغيلة اليدوييين والشغيلة المفكرين “فكل عمل يدوي أو عضلي حتى لو كان ميكانيكيا يتطلب قدرا من المهارة، أي حد ادني من النشاط الفكري، إنما يربط غرامشي المثقف بطبقة هو عضو في جسدها. وكما أنه من المستحيل حسب غرامشي الحديث عن “لا مثقفين”، لأنه لا وجود لهم. فكل إنسان مهما كانت المهنة التي يعمل بها، “يمارس نوعا من النشاط الثقافي، أي أنه فيلسوف فنان، إنسان متذوق، يشارك في تصور ما عن العالم، أي يثير سبلا جديدة في التفكير. ولكن عندما يتحدث عن المثقفين فهو يحصر المفهوم في أناس محددين يؤدون وظيفة محددة لهم خصائص مميزة. وهذة الوظيفة حسب غرامشي تتضح في عباراته:
“ان كل فئة (طبقة) اجتماعية ترى النور في باديء الأمر على أرض وظيفة أساسية في عالم الإنتاج الاقتصادي فتخلق عضويا، في نفس الوقت الذي ترى فيه النور شريحة أو عدة شرائح من المثقفين الذين يزودونها بتجانسها وبوعي وظيفتها الخاصة، لا في المضمار الاقتصادي فحسب وإنما في المضمار السياسي والاجتماعي أيضا. هَؤُلاء المثقفون المرتبطون بظهور طبقة اجتماعية أساسية هم المثقفون العضويون، وتكمن وظيفتهم في تكوين تجانس فكري للطبقة الاجتماعية التي يمثلونها، لا في قدرتهم علي تشكيل تصور للعالم خاص بتلك الفئة، وفي نقدهم كل الأيديولوجيات السابقة لظهور تلك الطبقة”.
وظيفة المثقف العضوي حسب غرامشي إذن هي تحقيق تصور للعالم أو أيديولوجيا خاصة بالفئة أو الطبقة التي يربتط بها عضويا، وان يجعل هذا التصور يطابق الوظيفة الموضوعية لتلك الطبقة في وضع تاريخي معين، كما تكمن وظيفته أيضا في الجانب النقدي من نشاطه الفكري، الذي يحرر تلك الأيديولوجيات من الأفكار السابقة لظهورها.
وأيضا للمثقفين استقلالهم النسبي عن الطبقة التي يرتبطون بها، فالمثقف العضوي ليس انعكاسا للطبقة الاجتماعية بل يعود استقلالهم الذاتي الى وظائفهم كمنظمين ومربين ومحققي تجانس للوعي الحقيقي. كما أن الاستقلال الذاتي للمثقف ينشأ بوجه خاص عن المنظمات التي يعملون في إطارها، فهم مرتبطين بالطبقات من خلال المنظمات المرتبطة بتلك الطبقات، ومن جهة أخري وجود هذة المنظمات بالذات قد يحدث من جهة أخرى فجوة ما بين المثقفين والطبقات الاجتماعية.
ومقابل الشكل الأول من المثقفين، أي المثقفين العضويين المرتبطين بطبقة اجتماعية والذين يعملون علي اعطائها التجانس الأيديولوجي، يقيم غرامشي مفهوما آخر للمثقفين يعتمد على أساس الرؤية التاريخية لتكونهم. وهو ما أسماه بالمثقف التقليدي، أي المثقف الذي ينتمي الى طبقات اجتماعية زائلة أو في طريقها الى الزوال. يقول غرامشي محددا مفهومه هذا “ولكن كل مجموعة اجتماعية بنشوئها في تاريخ البنية الاقتصادية السابقة لها وكتعبير عن تطور تلك البنية وجدت علي الأقل في التاريخ المعروف حتى الأن، فئات مثقفين موجودة قبلا، بل وكانت هذه الفئات تبدو كممثلة لاستمراية التاريخ غير المنقطعة وحتى من قبل التحولات الأكثر تعقيدا وجذرية للأشكال السياسية والاجتماعية”.
ويعتبر غارمشي رجال الكنيسة الذين احتكروا لزمن طويل بعض الخدمات الهامة، مثل الأيديولوجيا الدينية، والفلسفة والعلوم في ذلك العصر، يعتبر هؤلاء الممثلين النموذجيين عن المثقف التقليدي.
و نظرا لأن هذة الفئات المختلفة من المفكرين، أي المثقفين التقليديين تشعر “بروحية الجسد” باستمراريتها التاريخية غير المنقطعة و”بأهليتها” فهي تظهر نفسها باعتبارها مستقلة عن المجموعة الاجتماعية المسيطرة. ولا يبقى هذا الموقع الذاتي بلا نتائج في الميدان الأيديولوجي والسياسي، وهي نتائج متباينة الأهمية، ويمكن بسهولة ربط كل الفلسفة المثالية بهذا الواقع الذي افترضته الفئة الاجتماعية للمثقفين، ويمكن تسميته بالتعبير عن هذه الطوباوية الاجتماعية التي بموجبها يظن المثقفين أنفسهم مستقلين قائمين بذاتهم.
ويرى غرامشي أن قدرة أي طبقة اجتماعية علي الصعود وتحقيق الهيمنة على المجتمع تكمن في قدرتها على تكوين مثقفين عضويين مرتبطين بها وكذلك في قدرة هذه الطبقة على استيعاب المثقفين التقليديين المنحدرين من فترات تاريخية سابقة. “إن واحدة من أهم السمات المميزة لكل فئة تسعى الى الوصول الى السلطة هي النضال الذي تخوضه لكي تتمثل وتستوعب أيديولوجيا المثقفين التقليديين، وهذا التمثل والاستيعاب يتمان بسرعة وفعالية أكبر إذا قامت الفئة المشار إليها بإجراء مزيد من التغيير في صفوف مثقفيها العضويين”.
ويرجع غرامشي فشل الطبقة البرجوازية الإيطالية وعجزها عن إنجاز مهامها التاريخية الى أنها لم تستطيع أن تتخطى مصالحها الاقتصادية والحرفية كي تقيم بنية فوقية سياسية وأيديولوجية مطابقة لمصالحها الاقتصادية. فعلى الرغم من ظهور البرجوازية الإيطالية في وقت مبكر في القرن الحادي عشر، غير أنها لم تستطع أن تنجز ثورتها إلا بعد قرن من الثورة البرجوازية الفرنسية، فشلت البرجوازية الإيطالية في تكوين بنية سياسية وأطر ثقافية. فقد عجزن أمام سلطة الكنيسة الدينية التي تتجاوز الحدود القومية، أن تنشئ سلطة معاكسة تنشأ على أساس الوحدة القومية الإيطالية على غرار ما فعلته البرجوازية الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وكذلك لم تستطع البرجوازية الإيطالية خلق شرائح من المثقفين العضويين مثل البرجوازيات الغرب أوروبية الأخري، ووجدت نفسها معزولة أمام المثقفين التقليديين، أي رجال الكنيسة بل أنهم استطاعوا أن يعيقوا البرجوازية عن اداء مهمتها وتأخيرها عن الوصول الي السلطة لعدة قرون.
الهيمنة الثقافية:
التحليلات الخاصة للمثقفين ولوظيفتهم في المجتمع التي قام بها غرامشي قادته الى نتيجة مهمة: وهي ضرورة الهيمنة الثقافية من أجل نجاح اية سلطة. وهو يربط قدرة اية طبقة اجتماعية على السيطرة على الحكم بقدرتها على تكوين هيمنة ثقافية خاصة بها “إن تفوق مجموعة اجتماعية معينة يظهر بطريقتين اثنتين، كسيطرة وكقيادة فكرية ووجدانية. فالمجموعة تكون مسيطره على المجموعات الخصم وتميل الي تصفيتها أو إحضاعها حتى بواسطة القوة المسلحة وتكون قائدة للمجموعات المتحالفة أو المتعاطفة معها، ويمكن للمجموعة الاجتماعية بل يجب عليها أن تكون قائدة حتى قبل الاستيلاء على السلطة الحكومية، أما بعد ذلك، عندما تمارس السلطة وحتى لو حافظت عليها بقوة في قبضتها، فإنها تصبح مسيطرة ولكن عليها أن تستمر في أن تكون قائدة أيضا” وفي هذا التحليل بقدم غرامشي أهمية الهيمنة الفكرية في تثبيت وضمان السلطة والقيادة.
وقد أضاف غرامشي على مفهوم الهمينة عند لينين الذي أشار الى وظيفة الحزب في الاستيلاء على السلطة، فإلى جانب القيادة السياسية التي يستحوذ عليها الحزب أو ما سماه غرامشي”الأمير الحديث”، ينبغي أيضا ايجاد قيادة ثقافية تستطيع انجاز الاصلاح الاخلاقي والثقافي. ويعطي غرامشي أهمية كبيرة لموضوع الهمينة الثقافية توازي أهمية السيادة والسيطرة الاقتصادية والسياسية.
“إن البروليتاريا لابد أن تطرح جنبا الى جنب مع مشكلة غزو السلطة الثقافية، لابد أن تفكر تماما كما فكرت في تنظيم نفسها من أجل السياسة والاقتصاد في تنظيم الهيمنة الاشتراكية الهادفة الى كسر الوحدة القائمة على الأيديولوجيات التقليدية، الكسر الذي بدونه لن تستطيع البروليتاريا وعي شخصيتها المستقلة” ومن خلال نقده لفكر كوتشه يؤكد غرامشي أهمية الدور الثقافي في النشاط العملي. ويشدد على الناحية التربوية للاشتراكية، أي التوصل الى ثقافة كلية ومتكاملة، أي خلق حضارة جديدة عبر تحويل واسع للوعي. وهنا يظهر تميز غرامشي داخل الحركة الاشتراكية الإيطالية ذاتها، فتأكيدا على الدور الثقافي والهيمنة الثقافية يقف على نقيض من أفكار الاشتراكي الإيطالي بورجيغا التي اتسمت بمعادة الثقافة والمثقفين، متاثرا ومتجها نحو تدعيم أفكار لابرويلا الذي اعتمد الممارسة الثقافية كالممارسة الأهم.
ويؤكد غرامشي أن تشكل طبقة ما يساوي خلق رؤية شاملة “إن لم تكن لدى الطبقة هذا القطاع من المثقفين في حزبها _الأمير الحديث_الذي هو أداة تركيز وتوجيه وصقل هذه الرؤية، لن يكون بمقدورها تطوير إرادة جمعية تمكنها من السير حثيثا على طريق الثورة. فهدف الثورة خلق دولة، وخلق دولة جديدة يعني خلق مجتمع مدني جديد _الاستيلاء علي جهاز قمعي: الهيمنة إذن دولة بالقوة” وتأكيد غرامشي على أهمية الهيمنة الثقافية نابع من مفهومه للثقافة والفلسفة بشكل عام، ومن وحدة النظرية والممارسة لديه، فالمبدأ الأبستولوجي الأساسي لدى غرامشي هو وحدة النظر والعمل. وحسب امشي فإن كل معرفة لا يمكن أن تنفصل عن تبديل الإنسان لواقعه. وهذا الجانب من النظرية مواكب لجانبها التاريخي. وكل نظرية تتطور بحسب علاقتها الجدلية والتجريبية، وهذا العمل هو البراكسيس الذي طوره غرامشي.
و الفلسفة عند غرامشي ليست مجرد تصور للعال، بل هي أيضا عمل من أجل تغيير هذا العالم. فلقد جعل ماركس دور الفلسفة ليس الوصف إنما العمل علي التغيير أو قلب النظري الى عملي أو تحويل العقلي الى واقعي. إن العنصر الأساسي في فكر غرامشي هو اتحاد الفلسفة بالتاريخ وفي نظرة النظرية التي لا تتحول الى واقع تاريخي هي مجرد طوباوية.
أما العلاقة بين البنى التحتية والبنى الفوقية فهي ليست علاقة آلية ومباشرة في نظر غرامشي. حيث يتساءل غرامشي “إن مصنعا ينتقل من السلطة الرأسمالية الى سلطة العمال سوف يستمر في إنتاج الأشياء المادية التي ينتجها اليوم. ولكن بأية طريقة وفي أية أشكال سوف تولد الأعمال الشعرية والدرامية والروايات والموسيقى والتصميم واللغة …”.
وفي الوقت الذي يرى غرامشي فيه العلاقات الاقتصادية محركا للتاريخ، فإنه من جهة أخري يؤكد على ما للوعي من أهمية في تغير البنى الاقتصادية. ويقول “إن وعي العلاقات الضرورية، أي أن نعرف بقدر أو بأخر الطريقة التي يمكن تغيير صاحبها بتغييرها سلفا. العلاقات الضرورية ذاتها، بقدر ما نعرف في ضروريتها تتغير مظهرا وأهمية. وبهذا المعنى فإن المعرفة مقدرة. وهكذا يتطلب تحول البنى الاجتماعية الى صراعات موضوعية، ولكنه يتطلب أيضا الوعي وإرادة حل تلك الصراعات. وبدون المثقفين لا تحويل، فالحرية عنصر جوهري في السيرورة التاريخية، أما الضرورة المفردة أو الحتمية الميكانيكية بين البناء التحتي والبناء الفوقي، ويرى غرامشي أن هذا الاختزال هو أحد نتائج الابتذال الاقتصادي للماركسية. “تخسر الماركسية في شكلها الراقي الأكثر انتشارا، الكثير من قابليتها للتهدد الثقافي في الدائرة العليا من الفئة المثقفة، مقابل ما تكسبة لدي الجماهير الشعبية ولدى المثقفين العاديين الذين يحبون الظهور وكأنهم شديدو الخوف لكنهم لا يعتزمون زيادة الحمل علي أدمغتهم. وكما كتب انجلز فمن الملائم جدا لكثير من الناس الظن بأن لديهم في جيوبهم مجمل التاريخ، كل الحكمة السياسية والفلسفية المركزة في صيغ قليلة بدون أدنى جهد أو كلفة”.
تكمن قوة وفعالية فكر غرامشي في منهجة التاريخي الواعي بالأحداث الدائرة. فقد عاش غرامشي في بلد نصف متأخر، وحدته القومية غير مكتملة، فإيطاليا منقسمة اقتصاديا الي شمال وجنوب، والاقتصاد الايطالي متفاوت التطور، ففي الشمال تتمركز الرأسمالية والطبقة العاملة الإيطالية وفي الجنوب يتمركز ملاك الأراضي والفلاحون.
وقد شغلت مسألة الجنوب جانبا كبيرا من اهتمام غرامشي. وكان اهتمامه الأكبر هو دمج الجنوب مع الشمال في وحدة اقتصادية متجانسة وتحويل المثقفيين الريفيين الذين هم في غالبتهم تقليديون الي مثقفين عضويين بدمجهم في حركة التصنيع الناهضة في الشمال. لقد أدرك غرامشي أن التطور الطبيعي للوضع في إيطاليا لن يؤدي الى نتائج ايجابية وأن الاشتراكية في إيطاليا لن تنتصر بانتظار توفر العوامل الاقتصادية الملائمة، لذلك أكد على جانب الإرادة الذاتية وركز على دور الحزب في تحقيق أمر التطور المطلوب.
إن تاريخية عمل غرامشي هو تجديد ثوري على النظرية الماركسية. ومن خلال عمل غرامشي النقدي لمختلف التيارات في عصره تتأكد مسيرة هذا التجديد. ويقدم غرامشي نموذجا حيا على ربط النظرية بالممارسة فرغم أن أهم عمل له كتب وهو في السجن إلا أننا نجد أن كل الكتابات المجموعة في كتاب دفاتر السجن هي عبارة عن عمل فلسفي متجانس قام به غرامشي ضد كل التيارات التي سادت الحركة الاشتراكية في إيطاليا وقد أدى ذلك لعدم انتشار فكر غرامشي بشكل جيد إلا بعد فترة طويلة من وفاته عام 1937.