Menu

التمويلُ الأجنبيّ لمؤسساتِ المجتمعِ المدنيّ في الوطنِ العربيّ: خلفيات وأهداف

محمد حسين

في البداية لا يمكنُ القول إن كلّ مؤسساتِ المجتمعِ المدنيّ هي بتمويلٍ أجنبي وتخدمُ سياسات مركزِ التمويلِ، لأن هناك مؤسساتٍ تعمل بتمويلٍ محليّ وطنيّ ذات أهدافٍ وطنيةٍ واجتماعيةٍ وقد ساهمت ولا تزال في حلّ بعضِ المشكلاتِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ وتقدم أبحاثاً يستفيدُ منها الموطنُ العربيّ.
غير أن هناك مراكزَ ومؤسسات تعملُ بتمويلٍ أجنبيّ والتي ترتكزُ على إعادةِ صياغةِ مفاهيمِ المجتمعِ على أسس حديثة، وهذه المؤسساتُ لها مصالحَ اقتصاديةً واجتماعيةً وسياسيةً مرتبطةً بمراكزِ التمويلِ، والأرب من ذلك أن بعض هذه المؤسساتِ يصلها الدعمُ بمعرفةِ بعض الحكوماتِ العربيةِ.. إن هذه المؤسساتِ والمراكز التي تمولُ من الخارجِ يجب إعادةَ النظرِ لها بعقولٍ متفحصةٍ خشية الوقوعِ في مصيدةِ الشعاراتِ البراقةِ التي تحملها والتي تخفي أهدافاً بعيدةً وغير معلنة.
إنني لا أدعو إلى الانغلاقِ وعدم محاورةِ الآخر ومثاقفتهِ لكن على أسسٍ واضحةٍ لكل مجتمعٍ وإنسانٍ خصوصيتهُ من على هذه القاعدةِ يجب أن نتواصلَ مع العالم.
المؤسساتُ الأجنبيةُ ودورها:
عند الحديثِ عن المؤسساتِ الأجنبيةِ التي تمولُ المراكزَ والمؤسسات في العالم العربيّ فإننا ننطلقُ من كون هذه المؤسساتِ الممولة هي امتدادٌ طبيعيّ لحكوماتها وأحزابها وليست معبرةً بالضرورة عن شعوبها أو تتلقى الدعمَ عن طريقِ هذه الشعوبِ رغم وجودِ مثل هكذا مؤسسات لكنها ضعيفةً. أغلبُ المؤسساتِ الممولة تتلقى الدعمَ عن طريق حكوماتها ورجالِ الأعمالِ الذين يرتبطون بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ بسياساتِ هذه الدولِ. إن مهمةَ هذه المؤسساتِ هي تشكيلُ رأي عام عربيّ يتفق مع سياساتها في المنطقةِ ويتبنى قيمها الثقافيةِ والأخلاقيةِ والاجتماعيةِ. 
إننا أمام معادلةٍ بسيطةٍ تقول إن القوي يسيطرُ على الضعيفِ وأية علاقة بين طرفين ستخدمُ دائماً الأقوى. يقولُ الأستاذُ محمد حسنين هيكل: لا اعتراض أساساً على التمويلِ الخارجيّ للأبحاث، إنه غير مؤهلٍ وغير مسيطرٍ عليه ويذكر المثل الإنكليزي: الرجلَ الذي يدفعُ للزمار هو الذي يقررُ النغمةَ التي يعزفها ويقول: عندما لا يكون لنا رأيٌ في توجيهِ هذا التمويلِ للأبحاثِ ولا نعلمُ لمن تقدمُ نتائجَ هذه الأبحاثِ وفي غيابِ مفهومٍ شاملٍ يعطي كل الصورةِ ومن دون رقابةٍ أو توجيهٍ يدخلُ التمويلَ للسيطرةِ على عقلِ المجتمعِ ووجدانهِ وضميرهِ، ونوعُ السيطرةِ على تصريفِ المجتمعِ. إن ما يحدث في مصر لا يوجدَ له مثيلٌ في مكانٍ آخر.
ويتساءلُ عندما يكون أحد الأبحاثِ يمولّ من السي آي إيه أو المركز الأكاديميّ الإسرائيليّ: فهل يعقلُ أن يكون ذلك طبيعياً؟ وهل يمكن أن نفصلَ بين موضوعِ البحثِ ومن يستفيدُ منه؟
إن هناك مشكلةً حقيقيةً في قلةِ الأموالِ المحليةِ للأبحاثِ ولكن هل وسيلتي لتعويضِ التخلف هو عملُ أبحاث بتمويلٍ أجنبيّ الذي هو سيحددُ مجالَ البحثِ؟ فمثلاً إذا ركزت الأبحاثُ على مشكلةِ الطائفيةِ أو على الجريمةِ الجنسيةِ سوف تكون هذه الأبحاثُ مشوهةً.. فعندنا نجد أن 100 مليون دولار من المعونةِ الأمريكيةِ مرصدة للأبحاثِ فلا بد من أن أسألَ ما المطلوب؟ هذا السؤالُ الكبيرُ نحيلهُ بدورنا إلى كلّ المثقفين والمفكرين العرب في كلّ اختصاصاتهم. 
في فلسطين مثلاً اختلفتِ الآراءُ حول دورِ وأهميةِ مراكزِ التمويلِ لمؤسساتِ المجتمعِ المدنيّ، حيث يعتقدُ البعض أن مؤسساتَ المجتمعِ المدنيّ غير الحكوميةِ قبل قدومِ السلطةِ الفلسطينيةِ عام 1994 قد لعبت دوراً أساسياً في تعزيزِ صمودِ المجتمعِ الفلسطينيّ في ظل غيابِ السلطةِ الفلسطينيةِ وقد تنوعَ عملُ هذه المؤسساتِ في قطاعاتٍ متعددة مثل الصحةِ والزراعةِ والتعليمِ، كما نفذت العديدَ من الأنشطةِ التي تهم شرائحَ المجتمعِ الفلسطينيّ المهمشةِ. 
يقولُ حنا عيسى أستاذ القانونِ الدوليّ في جامعةِ القدس ِ المفتوحةِ في رام الله: (إن العلاقةَ بين مؤسساتِ المجتمعِ المدنيّ والمؤسسات الرسميةِ كأنهما جسمان في روحٍ واحدةٍ كل يؤدي مهامهُ على طريقتهِ ورؤيتهِ الخاصةِ والاستراتيجيةِ المتبعةِ فقد ساعدت هذه المؤسسات قبل عام 1967 المجتمع الفلسطينيّ وعلى مدار مراحلِ الثورةِ الفلسطينيةِ لكن بعد قدوم السلطةِ عام 1994 اختلفت المهماتُ وواظبت على خدمةِ المجتمعِ كما ساهمت في توسيعِ مشاريعِ المشاركةِ السياسيةِ والعمليةِ الانتخابيةِ ويضيف أن مؤسسات المجتمعِ المدنيّ في فلسطين يبلغ عددها حوالي خمسة آلاف منظمة تلعب دوراً توعوياً في مجالاتٍ متعددة مثل حقوقُ الإنسان، حقوقُ المرأة، النوعُ الاجتماعيّ، الحكمُ الرشيد ، قضايا الديمقراطيةِ ، إلخ ، وتقدر دخلَ برامجها المنفذةِ بحوالي سبعمائة مليون دولار). 
في المقابل يقيّم الخبير التنمويّ السابق خليل نخلة الذي أمضى سنوات طوال في العملِ داخل منظماتِ المجتمعِ المدنيّ المحليةِ والدوليةِ أداء هذه المنظماتِ، بأنها جاءت لتكريسِ اتفاقيةِ أوسلو وليس لتعزيزِ التنميةِ التحرريةِ المرتكزةِ على الناس. ويعتبرُ الخبير خليل نخلة أن هذه التسويةَ السلمية غير عادلةٍ لأنها تذعنُ لأجندةِ إسرائيل والغرب والنتيجة هي كيانٌ سياديّ صوريّ، فلا يوجد تنميةً تحرريةً ترتكز على الناسِ، التي تهدفُ إلى تحريرِ عقولهم وأجسادهم من الظلم الخارجيّ والسيطرةِ والهيمنةِ وتسعى لتوفيرِ الأدواتِ اللازمةِ إلى تحقيقِ المساواةِ الفعليةِ والحقيقيةِ بين الناس، من خلال توفيرِ البرامجِ اللازمةِ.
ويرى الخبيرُ "نخلة" أنه منذ قدوم السلطةِ الفلسطينيةِ وتعاون المستثمرين الفلسطينيين في قطاعِ التنميةٌ لم يتم الدفع باتجاهِ التنميةِ التحريريةِ للمواطنين، ويرى أن التحالفَ الثلاثيّ غير الرسميّ المكون من النخبةِ السياسيةِ الرأسماليةِ الفلسطينيةِ والمنظماتِ الفلسطينيةِ التنمويةِ غير الحكوميةِ ووكالاتِ المساعداتِ العابرةِ للحدودِ الوطنيةِ، يعيق إقامةَ التنميةِ التحرريةِ المرتكزةِ على الناس. إن جميع المساعداتِ الدوليةِ التي تدفقت إلى الضفةِ الغربيةِ وقطاع غزة منذ العام 1994 كانت مساعدات سياسية غير تنمويةٍ، بمعنى أن هدفها العام كان دائماً ومنذ البدايةِ ضمان نجاحِ واستمراريةِ عمليةِ أوسلو السياسية. ويعتبر الخبيرُ الدوليّ "نخلة" المشاريعَ التي تنفذها مؤسساتُ المجتمعِ المدنيّ هي استهلاكية وتهدفُ إلى ترسيخِ واقعِ الاحتلالِ، ولكن تحت مسمياتٍ مختلفةٍ.
بدوره يرى الأستاذُ عبد الخالق فاروق صاحبُ كتابِ (اختراق الأمن المصري.  رؤية سيسولوجية) اعتمد في بحثهِ على دراسةٍ أعدتها جامعةُ الاسكندريةِ عن المشروعاتِ البحثيةِ في الجامعةِ والممولةِ لها من جهاتٍ أجنبيةٍ ومحليةٍ على مدى عشر سنوات، حيث لم تزدْ المبالغَ المخصصة للبحوثِ من جهاتٍ مصرية على ٤ ملايين جنيه، أنفقت على ٤٩ بحثاً، في حين أنفقت الجهاتُ الأجنبيةُ ما يعادل ٣٠ مليون جنيه على ١٨٥ بحثاً وتشير الأبحاثُ الممولة إلى رغبةِ جهاتِ التمويلِ على معرفةِ كل شيءٍ عن مصر، هذه الدراسة تشيرُ إلى أن النظمَ العربيةَ هي من يساعدُ هذه المؤسساتِ على التغلغلِ في داخلِ مجتمعاتها. 
نظرةٌ على بعض مؤسساتِ التمويلِ..
•‏ يوجدُ في الوطنِ العربيّ عشرات من المؤسساتِ الأجنبيةِ من جنسياتٍ مختلفةٍ (أمريكية، بريطانية، هولندية، نروجية، سويدية، كندية، بلجيكية.. الخ). و‏تتوزعُ أهدافُ هذه المؤسساتِ في العملِ على القضايا التالية: 
•‏ (تنميةٌ ريفيةُ، صحةُ، دراساتٌ وأبحاثٌ اجتماعيةٌ، دراساتٌ إنسانيةُ، بيئةٌ، أحزابٌ، ديمقراطيةٌ، مراكزٌ ثقافيةٌ، قضايا تعليميةٌ..).
‏إن مؤسساتٍ مثل مديست والشرقِ الأدنى والوكالةِ الأمريكيةِ للتنميةِ وفوليرات ومعهد واشنطن ومراكز الأبحاثِ التابعةِ لجامعاتِ جورج تاون التي تضمُ كبارَ العقولِ الأمريكيةِ المؤثرةِ في وزارةِ الخارجيةِ والبيتِ الأبيض والكونغرس، لا يمكن أن تقدمَ خدماتٍ مجانية هدفها مساعدةُ الشعوبِ والدولِ الفقيرةِ للتخلص من المشكلاتِ المتعددةِ التي تواجهها، إنما هدفها الأساسيّ خدمةُ مصالحها المتعددةِ عند هذه الشعوبِ والدولِ. 
-    معهد واشنطن: يعتبرُ مارتن انديك نائبُ وزيرِ الخارجيةِ الأسبق ودينس روس هما من أعمدةِ هذا المعهد الذي هندس الاتفاقاتِ الفلسطينيةِ الإسرائيليةِ والذي يقدم أبحاثاً لخدمةِ السلامِ مع إسرائيل في المنطقةِ. 
-    فوليرايت: هو واحدٌ من عدةِ برامجِ التبادلِ الثقافيّ للولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ التي تهدفُ إلى تحسينِ العلاقاتِ بين الثقافاتِ والدبلوماسيةِ الثقافيةِ والكفاءةِ بين شعبِ الولاياتِ المتحدةِ والدول الأخرى، من خلال تبادلِ الأشخاصِ للمعرفةِ والمهاراتِ التمويلِ الحالي للبرنامج ٢٤٠ مليون دولار اقترحَ الرئيس السابق ترامب تخفيضاً له بنسبة ٧١%.
-    مديست: تهدف إلى تحسينٌ التدريسِ في إقليمِ الشرقِ الأوسطِ وشمال أفريقيا. تعمل على تقويةِ العلاقاتِ بين الشعبِ الأمريكيّ وشعوبِ الشرقِ الأوسطِ. 
-    الوكالةُ الأمريكيةُ للتنميةِ الدوليةِ: وهى الأخطر لأنها تتبعُ مباشرةً لحكومةِ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ وتعمل وفقَ قوانين وتشريعات الكونغرس. تسعى الوكالةُ إلى مساعدةِ الشعوبِ التي تعاني لتحسينِ ظروفِ حياتهم المعيشيةِ أو تلك التي تكافحُ للعيشِ في دولةٍ ديمقراطيةٍ حرةٍ. 
عندما تسلم ترامب السلطةَ أوقف عملَ هذه المؤسسة في الأراضي الفلسطينيةِ وعندما تسلمَ بايدن السلطةَ أعاد عملها، هذا يدللُ على قوةِ التحكمِ والسيطرةِ على هذه المؤسساتِ من قبل الحكوماتِ، فإذا وافقت على سياستي نفتحُ حنفيةَ الدعمِ وإذا لم توافقْ نغلقها وتسقط كل شعاراتِ هذه المؤسساتِ التي تدعي المساعدة. 
يقولُ المفكر الأمريكي تشومسكي (لا وجود لأي عائقٍ يذكر بعد احتواءِ المنظماتِ السياسيةِ والاتحاداتِ النقابيةِ ووسائلِ الإعلامِ المستقلةِ وكل البنى الشعبيةِ التي تقدم للشعبِ وسيلةً مقاومةً، لأن كل فرد يواجهُ القناةَ التلفازيةَ لوحدهِ، لذا يستسلم للتوجيهِ المحضرِ، فلا تعود الحريةُ الممنوحةُ له ذات خطرٍ ما دام هو لا يستخدمها). 
‏إن هذه المؤسساتِ التي تعمل وفق أجندةٍ مدروسةٍ من قبل حكوماتها أو المرتبطين بها، هدفها التحكمُ بالرأي العام بالوطنِ العربيّ وتوجيهٍ لخدمةِ مصالحها الجيوستراتيجيةِ وما حصلَ في بعض بلدانِ الربيعِ العربيّ، يؤكدُ دورَ وفاعليةِ هذه المؤسساتِ الإعلاميةِ الثقافيةِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ في التوجيهِ والسيطرةِ على الرأي العامِ.