Menu

"إسرائيل" والسودان وجنوب السودان : تطبيع هش من السر إلى العلن وعلاقات القوي بالضعيف

بوابة الهدف - ترجمة وتحرير أحمد مصطفى جابر*

بعد عقود من المقاطعة العربية للكيان الصهيوني وحوالي خمسين عامًا ويزيد من لاءات الخرطوم، تتغيّر خريطة العلاقات بين السودان والكيان الصهيوني، نتيجة لمضاعفات الأزمة التاريخية التي مر بها هذا البلد، وإجبار السودان حرفيًا على تطبيع علاقاته مع الكيان إضافة لإرادة العديد من اللاعبين الداخليين في هذه العلاقة وتورطهم بها سرًا على مر السنين.

يناقش هذا المقال –الذي نترجمه هنا- الذي كتبه المقدم غال عسيل، وهو نائب في مكتب المدعي العام العسكري الصهيوني، تاريخ هذه العلاقات مع السودان ومع حركة الانفصال التي أدت إلى قيام دولة جنوب السودان، ويخلص ضمن استنتاجات كثيرة إلى أن العلاقة الحالية بالنسبة للكيان ليست تجنب عدو ضمن أعداء عرب كثر كما كان سابقًا، بل هي علاقة "إسرائيل" القوية، ببلدين ضعيفين، من مصلحتها الإبقاء على ضعفهما لتعزيز العلاقات التي كونان فيها بحاجة إليها وليس العكس، شارحا الفوائد الاستراتيجية التي سيجنيها الكيان من هذه العلاقات، وأيضا علامات الاستفهام التي تحيط بها- المترجم.

بعد أكثر من خمسة عقود من العداء، أغلقت دائرة العلاقات بين "إسرائيل" والسودان، في الواقع الحالي، التغيير الجوهري في العلاقات بين "إسرائيل" والسودان وجنوب السودان هو بمثابة "ثورة" لكن تحوم حولها علامات استفهام.

في 20 تشرين أول / أكتوبر 2020 لم يحدث شيء في العلاقات الإسرائيلية السودانية، فقط أصدرت الولايات المتحدة والسودان و"إسرائيل" بيانًا مشتركًا يؤسس لتطبيع العلاقات بين السودان و"إسرائيل"، وقبل هذا، بحوالي تسع سنوات في 9 تموز/ يوليو 2011، أعلن جنوب السودان استقلاله، و اعترفت "إسرائيل" بالدولة الفتية، وأعطت تعبيرًا معلنًا عن العلاقات الوثيقة التي كانت قائمة لسنوات عديدة بينها وبين المتمردين في جنوب السودان الذين قاتلوا النظام المركزي في الخرطوم.

يدرس المقال علاقات "إسرائيل" مع السودان وجنوب السودان منذ بداية تأسيسهما، حول التطورات التي حدثت في العلاقات على مر السنين. حيث في سنواتها الأولى، وكجزء من سياسة "تحالف الأطراف"، أقامت "إسرائيل" علاقات وثيقة مع المتمردين المسيحيين في جنوب السودان، بينما مع السودان نفسه لم ينجح ذلك وسرعان ما أصبحت "إسرائيل" دولة معادية في نظر النظام المركزي في الخرطوم. وبمرور الوقت، اتضح أن التحالف مع المتمردين لم يؤتي ثمارًا حقيقية "لإسرائيل"، و برز جنوب السودان كدولة تواجه صعوبات، ولا تربطها بها علاقات لتقديم مساهمة كبيرة "لإسرائيل". من جهة أخرى، انضم السودان إلى "اتفاقيات إبراهيم"، وقوة التطبيع معه تساهم في أمن "إسرائيل" وتعزز حل مشكلة المتسللين من السودان إلى "إسرائيل". ومع ذلك، فإن الوضع الداخلي في السودان، خاصة هذه الأيام، إلى جانب تحديات أخرى في المنطقة، يجعل التطبيع مع "إسرائيل" هشًا، وستحدد الأيام مصيره.

السودان في الجوهر

قبل إنشاء جنوب السودان، تم تقسيم السودان إلى ثلاث مناطق ذات خصائص مختلفة: الجزء الشمالي، حيث تقع العاصمة الخرطوم، هو المركز الحكومي والثقافي والاقتصادي، وتكوينه يغلب عليه العرب المسلمون، و يتكون الجزء الجنوبي، الذي أصبح الآن جنوب السودان المستقل، من السكان المنحدرين من أصل أفريقي، ومعظمهم من المسيحيين الآن. و الجزء الغربي، حيث تقع منطقة دارفور، يتكون من سكان من أصل أفريقي اعتنقوا الإسلام. و تم الحفاظ على الهيمنة تقليديا من قبل العرب المسلمين من الشمال، الذين حددوا جذورهم في شبه الجزيرة العربية. وهكذا، منذ عام 1956، عندما نال السودان استقلاله في نهاية الحكم الاستعماري البريطاني، تمت صياغة سياسة في السودان نسبته إلى الشرق الأوسط وليس إفريقيا. و فيما يتعلق بالأراضي التي تتكون منها الدولة القومية السودانية، لخصائصها المختلفة، فقد دفنت بذور حربين أهليتين طويلتين ودمويتين، مما أدى في عام 2011 إلى الانقسام بين السودان وجنوب السودان.

بدأت العلاقات بين "إسرائيل" والسودان قبل حصوله على الاستقلال وقبل تأسيس "إسرائيل"، متزامنا مع الانتداب البريطاني في فلسطين (1948-1922) وجزئيًا مع الانتداب البريطاني في السودان (1956-1899) حيث سعت الإمبراطورية البريطانية إلى تعزيز الاستقرار والتقارب بين العوامل المختلفة التي كانت تحت رعايتها في المنطقة، وبذلك أقامت علاقات تجارية بين السودان وسكان الانتداب ثم مع الحكومة "الإسرائيلية" و استمرت هذه العلاقات حتى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وشملت تصدير اللحوم والقطن من السودان إلى "إسرائيل".

خلال حرب 1948، لم يشارك السودان إلى جانب الجيوش العربية، وفي أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، حافظ قادته على اتصالات مع المسؤولين في "إسرائيل" بشأن إمكانية الاعتراف به. لكن خوف السودان من مصر بقيادة جمال عبد الناصر وانضمامها إلى سياستها القومية العربية، إلى جانب فهم "إسرائيل" بأن التورط في الوضع المعقد في السودان من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم الصراع مع الدول العربية، حال دون ذلك في الوقت نفسه، قام المتمردون المسيحيون في جنوب السودان بمحاولات لبدء الاتصال "بإسرائيل" لمساعدتهم في كفاحهم ضد "الشمال المسلم"، و تتوافق العلاقات مع استراتيجية "تحالف الأطراف" التي وضعها رئيس الوزراء الأول، دافيد بن غوريون، والتي سعت للتغلب على الحلقة الخانقة لبلدان الطوق العربي من خلال الانضمام إلى العناصر غير العربية - المتمردين المسيحيين. و استندت الاستراتيجية إلى منطق الجمع بين المصالح والأعداء المشتركين.

كان "لتحالف الأطراف" عدة وجوه، ففي عام 1958 تم تشكيل "المثلث الشمالي"، ومكوناته الثلاثة هي إيران و تركيا و"إسرائيل"، و ركز جانب آخر على المحيط الجنوبي، وكان في مركزه التحالف مع إثيوبيا - ومعظمه من المسيحيين، و كان دور السودان في التحالف قصيراً وهامشياً وغير عادي منذ البداية - كونه عربياً - وكما ذكرنا لم ينجح، ويتعلق جانب ثالث من جوانب التحالف بالتعاون مع الأقليات في مختلف مناطق الشرق الأوسط، بما في ذلك الدروز والأكراد ومسيحيي جنوب السودان كما ذكرنا.

على عكس النخبة السودانية، التي كانت معادية "لإسرائيل"، رأى سكان جنوب السودان "إسرائيل" كشريك في المصير - دولة تقاتل من أجل وجودها من خلال كونها محاطة بسكان عرب مسلمين. علاوة على ذلك، يعد الكتاب المقدس مصدرًا رئيسيًا للإلهام للمسيحية السائدة في جنوب السودان، وقد عززت هذه الحقيقة العلاقة مع "إسرائيل". لهذه الأسباب، ونظراً لندرة البدائل المتاحة لواضعي السياسة الخارجية "لإسرائيل"، تمت إقامة تعاون بين الطرفين. ومع ذلك، نظرًا لوجود المتمردين على أطراف الشرق الأوسط، جنبًا إلى جنب مع ضعفهم العسكري والسياسي، بدأ من الممكن ألا تستفيد "إسرائيل" حقًا من "تحالف الأطراف" .

وقائع العداء والتعاون

مباشرة بعد هزيمتها في حرب الأيام الستة أطلقت مصر قمة عربية لكسب التأييد لسياسة الجهود العسكرية والسياسية المشتركة ضد "إسرائيل"، وتلقي المساعدة المالية من الدول العربية المنتجة للنفط. و في نهاية آب/ أغسطس 1967، استضاف رئيس السودان مؤتمرا في الخرطوم حضره قادة ثماني دول عربية. و قاد ناصر المؤتمر إلى قرارات عكست تسوية بين المشاركين، عُرفت بـ "اللاءات الثلاثة": لا اعتراف بإسرائيل، ولا مفاوضات مع إسرائيل، ولا سلام مع إسرائيل".

في الوقت نفسه، بدأت علاقات "إسرائيل" العملية مع جنوب السودان. ففي عام 1969، وافقت رئيسة الوزراء غولدا مائير على تقديم المساعدة الأمنية لجنوب السودان، بعد اتفاق كينيا وإثيوبيا. و كان التوقيت متماشياً مع رغبة "إسرائيل" في تقليص دعم السودان بقدر الإمكان لمصر في خضم حرب الاستنزاف، وتحويل جهود الخرطوم للتصدي للمتمردين الجنوبيين. وكان "لإسرائيل" مصلحة في انفصال جنوب السودان المسيحي عن السودان المسلم والحصول على الاستقلال. وفي نفس العام، كان هناك انقلاب عسكري في الخرطوم بقيادة جعفر النميري، الضابط الكبير بالجيش السوداني الذي اعتمد على المساعدات السوفيتية ودعم عبد الناصر. نميري نفسه، بروح الأيديولوجية القومية العربية، أعلن أنه ضد "إسرائيل" وزاد من حدة الحرب الأهلية في السودان بين الشمال والجنوب. و قاتل الجيش المحلي لجنوب السودان بمساعدة "إسرائيل" الجيش السوداني، وأدت هذه المواجهة في النهاية إلى مفاوضات بين الطرفين وتحقيق إنجازات في الجنوب المتمرد.

كان جيران السودان - كينيا وأوغندا وإثيوبيا - ودودين تجاه "إسرائيل" في تلك السنوات، حيث فتنت تقوية المتمردين الجنوبيين الجيش السوداني للقتال في أراضيهم والابتعاد عن حدودهم المشتركة، ومع ذلك، أدت حرب يوم أكتوبر إلى تدهور علاقات "إسرائيل" مع معظم الدول الأفريقية، بما في ذلك الدول الثلاث. و قام المتمردون الجنوبيون - الذين أيدوا موقف "إسرائيل" تجاه الجيوش العربية لكنهم يخشون على مصير اتفاقية أديس أبابا (اتفاقية السلام مع الخرطوم الموقعة عام 1972) - بتقليص العلاقات معها.

خلال السبعينيات، بدأ نميري في اتباع سياسة موالية للغرب عمل فيها مع مصر السادات لوقف الغزو السوفيتي للمنطقة. بينما دعمت موسكو الزعيم الليبي معمر القذافي، الذي هددت سياساته المتطرفة مصر والسودان. وقد أيد نميري الرئيس المصري أنور السادات ومبادرته للسلام مع "إسرائيل"، وكان أحد القادة العرب القلائل الذين فعلوا ذلك.

بعد اغتيال السادات وضعف موقعه في أوساط الجمهور السوداني، غير النميري سياسته وأصبح عضواً في جماعة الإخوان المسلمين. و في عام 1983، بدأ يحكم بدستور قائم على الشريعة الإٍسلامية، وفرضها على جنوب السودان، وحل الحكومة، وانتهك اتفاقية أديس أبابا. و أعادت خطواته إشعال الحرب الأهلية بين الجنوب والشمال، وبعد 22 عامًا فقط تم توقيع اتفاقية سلام أخرى بين الطرفين.

منذ نهاية السبعينيات وحتى الإطاحة به في عام 1985، كان للنميري، جنبًا إلى جنب مع السياسة المعادية المعلنة، علاقات سرية محدودة مع "إسرائيل". هذا لأنه كان يعتقد أنه قد يساعد بلاده ضد خصومها - ليبيا وإثيوبيا (التي كانت تحكم من قبل المجلس العسكري الماركسي المناهض لإسرائيل) - وعلى خلفية اتفاقية السلام التي وقعتها مصر مع "إسرائيل". و أصبحت هجرة اليهود الإثيوبيين في الثمانينيات عبر السودان ممكنة إلى حد كبير من خلال الاتصالات السرية مع "إسرائيل"، بما في ذلك اجتماع سري عقد في عام 1982 بين وزير الحرب آنذاك أرييل شارون ونميري. ومع ذلك، كانت الاتصالات السرية محدودة النطاق وعلى أي حال لم تنضج لتصل إلى تقارب حقيقي بين الجانبين، وظلت سياسة الخرطوم المعلنة تجاه "إسرائيل" معادية.

السودان في حضن "الإرهاب" ضد "إسرائيل"

في عام 1989، وصل اللواء عمر البشير إلى السلطة، وحول السودان إلى ديكتاتورية إسلامية متطرفة، وخلال التسعينيات، بدأت الحكومة في دعم "الإرهاب" بنشاط. و تعاونت مع أسامة بن لادن وأخذته هو ورجاله إلى الخرطوم.و في نهاية ذلك العقد، تكثفت العلاقات أيضًا مع إيران، التي نقلت الأسلحة والذخيرة عبر السودان إلى حماس في غزة وإلى حزب الله في لبنان و. في أعقاب محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995 (اتهم الرئيس المصري البشير بالتخطيط وتنفيذ الاغتيال) وهجمات عام 1998 على سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، أضافت الولايات المتحدة السودان إلى قائمة الدول المؤيدة للإرهاب.

وبحسب مصادر أجنبية، فقد أصبح السودان، بعد تورطه في الإرهاب، هدفاً للنشاط العسكري "الإسرائيلي". ففي كانون الثاني 2009، دمرت قافلة شاحنات تحمل صواريخ إيرانية إلى غزة في ميناء السودان، وتعرضت سفينة أسلحة إيرانية للهجوم. وفي أكتوبر / تشرين الأول 2012، تعرض مصنع أسلحة إيراني بالقرب من الخرطوم للهجوم، حيث تم إنتاج صواريخ بعيدة المدى وأسلحة أخرى تم تهريبها إلى غزة ولبنان. في ظل هذه الظروف، تعزز تعاون "إسرائيل" مع جنوب السودان مرة أخرى، وحتى نهاية الحرب الأهلية الثانية في عام 2005، استمرت "إسرائيل" في مساعدة المتمردين.

نقطة التحول في العلاقة؟

ألحقت العقوبات الشديدة التي فرضها الغرب والأمم المتحدة على السودان أضرارًا بالغة باقتصاده، وهددت النظام في الخرطوم، وأصبح الحذف من قائمة الدول المؤيدة للإرهاب هدفًا رئيسيًا للنظام، وقد تصور الحكومة السودانية الفكرة "عبور الجوانب" والاقتراب من الغرب: كان تحسين العلاقات مع إسرائيل خطوة حيوية في تحقيق هذا الهدف.

في ذلك الوقت كان هناك تقدم كبير في محادثات السلام بين إدارة الخرطوم والمتمردين في الجنوب، بهدف إنهاء الحرب الأهلية الثانية. تهدف عملية المصالحة إلى تغيير صورة السودان في العالم، وإزالة عقبة حقيقية أمام تعزيز العلاقات مع الغرب. في استفتاء عقد في كانون ثاني/ يناير 2011، قرر شعب جنوب السودان الانفصال، وفي تموز/ يوليو من ذلك العام أعلن جنوب السودان استقلاله. بعد ذلك مباشرة، أعلنت حكومة "إسرائيل" وحكومة جنوب السودان إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بينهما.

في عام 2015، انضم السودان إلى تحالف الدول العربية السنية برئاسة المملكة العربية السعودية، الذي يقاتل اليمن، وبالتالي اتخذ خطوة مهمة أخرى نحو تغيير سياسته، و بعد عام قطع السودان العلاقات مع إيران (حتى يومنا هذا لم يجددها بعد)، وساعدها تقاربها مع الدول السنية المعتدلة وبعدها عن إيران على الاقتراب من "إسرائيل". وفي كانون ثاني/ في يناير 2016، أثار وزير الخارجية السوداني، في مؤتمر "منتدى الحوار السوداني"، إمكانية تطبيع العلاقات مع "إسرائيل" مقابل رفع العقوبات الأمريكية عن الخرطوم. في الخطاب نفسه برر الفكرة بقصد تحسين الوضع الاقتصادي في السودان، بل وحظي بتأييد رجال الدين في هذه الخطوة.

التطبيع في اختبار الهشاشة

في نيسان/ أبريل 2019، بعد أشهر من التظاهرات والاضطرابات الاقتصادية، أطيح بالنظام، وحل محله "المجلس المؤقت" الذي كُلف بتأمين الانتخابات البرلمانية التي كان من المقرر إجراؤها في عام 2022 . ودعمت مصر و السعودية والإمارات هذه الخطوة، وانضمت إليها لاحقًا إدارة ترامب ودول أوروبا الغربية، التي فضلت الاستقرار في السودان والمنطقة على التحول الديمقراطي.

تألف "المجلس المؤقت" من الرئيس اللواء عبد الرحمن البرهان، و نائبه محمد حمدان دوغلو، ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وقد دعم كل من البرهان و دوغلو تحالفًا إقليميًا مع الدول السنية المعتدلة وتعزيز المصالح العسكرية المشتركة. و حاول حمدوك تعزيز الإصلاحات الداخلية وعلامات الحكم المدني، و على الرغم من الخلافات، واصل "المجلس المؤقت" خط البشير الموالي للغرب، من بين أمور أخرى من خلال تعزيز العلاقات مع "إسرائيل". و بعد أن وقع وزير الخارجية الأمريكي السابق جون بومبيو على أمر بشطب السودان من قائمة الدول المؤيدة للإرهاب، انضم السودانيون إلى الاتفاقات الإبراهيمية في 5 يناير 2021. في نيسان/ أبريل من ذلك العام، ألغى السودان قانون مقاطعة "إسرائيل". وينظر إلى التقارب مع "إسرائيل" على نطاق واسع من قبل الجمهور والحكومة على أنه وسيلة لتحسين الوضع الاقتصادي في السودان وكوسيلة أخرى للاقتراب من الغرب، وبالتالي قوبل بفهم نسبي (باستثناء نواة متطرفة من النشطاء).

في الوقت نفسه، لا يزال الواقع السياسي في السودان غير مستقر. في أيلول/سبتمبر 2021، تم إحباط محاولة انقلاب عسكري، وبعد شهر، في 25 أكتوبر 2021، وصلت الصراعات الداخلية على السلطة إلى ذروتها مرة أخرى، ونجح انقلاب عسكري آخر في البلاد جزئيًا. و أعلن البرهان حالة الطوارئ حيث حل "المجلس المؤقت" واعتقل حمدوك، وردا على ذلك اندلعت احتجاجات واسعة في الشوارع. و سارعت إدارة بايدن إلى إعلان تجميد المساعدات الاقتصادية وتقييم الوضع فيما يتعلق بجهود التطبيع مع "إسرائيل"، وفي 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، وقع البرهان وحمدوك اتفاقية يترأس بموجبه الأخير حكومة تكنوقراطية حتى نهاية الفترة الانتقالية، التي ستنتهي في انتخابات يوليو 2023.

لكن ذلك لم يضع حداً لعدم الاستقرار الداخلي في السودان. في 2 كانون ثاني/ يناير 2022، استقال حمدوك بعد أن قتلت قوات الأمن السودانية ثلاثة متظاهرين. واتهم حمدوك الجيش بالانسحاب من الاتفاق الموقع قبل شهرين فقط. وإعادة إنشاء جهاز المخابرات السرية الذي كان يعمل في السودان في عهد البشير. و من ناحية أخرى، أعرب الجيش عن استيائه من التعيينات التي أعلنها حمدوك في الوزارات الحكومية، و ليس من الواضح في هذه المرحلة ما إذا كانت الانتخابات المزمع إجراؤها ستجرى في موعدها من العام المقبل، وبالتالي فإن الأزمة الداخلية الحادة مستمرة بكامل قوتها.

السودان - خطر على "إسرائيل" مقابل فرصة حقيقية؟

"لإسرائيل" مصالح استراتيجية أمنية وسياسية واقتصادية في منطقة البحر الأحمر، وخاصة في إنشاء "ممر صديق" من البحر إلى القارة الأفريقية. و يتمتع السودان بموقع جيو-إستراتيجي عالي القيمة يخدم هذه المصالح، كجسر بين شمال إفريقيا العربية وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، على ساحل البحر الأحمر. حيث أصبح البحر الأحمر، وخاصة الجزء الجنوبي منه، حول باب المندب، في السنوات الأخيرة مسرحًا للمنافسة والصراع بين اللاعبين والقوى الإقليمية. إلى جانب الدول المطلة على شواطئ البحر الأحمر والقرن الأفريقي، سجل في المنطقة وجود الولايات المتحدة والصين وإيران وتركيا. إلى جانب الجهات الفاعلة شبه الحكومية مثل الدولة الإسلامية وحركة الشباب في الصومال و الحوثيين والقاعدة في اليمن. و" لإسرائيل" مصلحة مهمة في ضمان أن تظل طرق الشحن والطيران التي تربطها بالمحيط الهندي والشرق الأقصى وأفريقيا آمنة. ولذلك بفضل موقعه الجغرافي الاستراتيجي، فإن تعزيز العلاقات مع السودان يمكن أن يساعد "إسرائيل" على تحقيق هذه المصلحة.

على الرغم من أن التطبيع مع السودان لا يقلب الوعاء رأسًا على عقب فيما يتعلق بتوازن القوى الإقليمي، ويرجع ذلك جزئيًا إلى وضعه الداخلي الهش، إلا أن العلاقات الاستراتيجية مع السودان قد تزيد من حرية العمل "الإسرائيلي" والأمني ​​والسياسي، وحتى تساعد في قتال "إسرائيل" ضد إيران. كل هذا فيما تواصل إيران مساعيها لتعميق قبضتها على إفريقيا من خلال الاستثمار الاقتصادي والنفوذ الإيديولوجي والمساعدات العسكرية.، وقد يؤدي تضييق العلاقات "الإسرائيلية" السودانية إلى تعزيز انفصال السودان عن إيران. علاوة على ذلك، فإن التطبيع مع السودان له أهمية استراتيجية تتجاوز العلاقات الثنائية بين الجانبين، ولديه القدرة على توليد زخم إيجابي لتعزيز العلاقات العامة مع الدول العربية الأخرى، من أجل الفوائد الهائلة التي ينطوي عليها ذلك "لإسرائيل"، ولتعزيز التفاهم في العالم العربي والإسلامي بأن الفيتو الفلسطيني على إقامة علاقات مع إسرائيل لم يعد موجودًا.

بالإضافة إلى الجوانب الأمنية والسياسية، تنطوي العلاقات مع السودان على فرص اقتصادية معينة "لإسرائيل"، على الرغم من كون السودان اقتصادًا صغيرًا نسبيًا. وقد أدى فك الارتباط عن جنوب السودان ونقل حقول النفط الرئيسية إلى أراضي جنوب السودان إلى إلحاق الضرر باقتصاد البلاد الذي يعتمد بشكل أساسي على صادرات النفط. و بعد ذلك، تبنى السودان خطة اقتصادية لزيادة مصادر الدخل غير النفطية، مثل تشجيع الزراعة وخفض الإنفاق العام. وقد تعود فائدة إضافية على "إسرائيل" إذا سمح السودان للطائرات "الإسرائيلية" بالمرور عبر مجاله الجوي، وقصر ساعات الطيران إلى إفريقيا وأمريكا الجنوبية. يضاف إلى كل ذلك قضية المتسللين غير الشرعيين من السودان. اليوم، هناك حوالي 6000 متسلل من السودان في "إسرائيل"، و لم يحصل هؤلاء على وضع اللاجئ لأن إسرائيل لا تمنح هذه الصفة لمواطني دولة معادية. ومع توطيد العلاقات بين مع السودان، سيتمكن المتسللون من العودة إلى بلادهم.

التطبيع - التحديات والأجوبة

إلى جانب ذلك، لا تزال هناك تحديات كثيرة تواجه تطبيع العلاقات "الإسرائيلية" مع السودان وتقدمها:

أولاً، الساحة الداخلية في السودان تعاني من عدم الاستقرار، والخلفيات المختلفة للاعبين الرئيسيين في نظام ما بعد حقبة المقاطعة تجعل من الصعب إدارة شؤون الدولة. في الواقع الهش في السودان، هناك صعوبة متأصلة في حشد الدعم السياسي والعام لتحركات سياسية ثقيلة، ناهيك عن وضعها موضع التنفيذ. ولم يتم بعد التوقيع على اتفاق سلام رسمي بين الجانبين، وقد وصلت العلاقة بينهما حتى الآن إلى اجتماعات لأسباب أمنية. ومع ذلك، فإن "اتفاقات إبراهيم" ليست في قلب الجدل بين المعسكرين السودانيين المتناحرين، ويمكن "لإسرائيل" أن تستمد بعض التشجيع من حقيقة أن ميزان القوى بعد الانقلاب الأخير أصبح الآن لصالح الجناح العسكري بقيادة البرهان، مع الذين أجروا معظم الاتصالات مع "إسرائيل" حتى الآن.

ثانيًا، يفضل النظام السوداني إجراء العلاقات مع "إسرائيل" في غير العلن، والصدى الذي يتلقاه في إسرائيل. والتقارب بين الطرفين قد يؤخر العملية.

ثالثًا، على المستوى الإقليمي، أدى التراجع في المقاطعة إلى تحسن كبير في علاقات السودان مع مصر، والتي، مثل الإمارات العربية المتحدة، تدعم أيضًا تطبيع علاقات السودان مع "إسرائيل"، في الوقت نفسه، تعتبر كل من مصر والإمارات العربية المتحدة نفسيهما وسطاء مهمين في العلاقات "الإسرائيلية" السودانية. و الاتصالات المباشرة بين "إسرائيل" والسودان قد تضر بدورهما كوسطاء ومكانتهما في المنطقة ونسيج العلاقات الإقليمية.

في ظل هذه التحديات، يبدو أن على "إسرائيل" اتخاذ بعض الخطوات.:

أولاً، على المستوى الثنائي فيما يتعلق بالسودان، مطلوب منها الاعتراف اللاعبين الرئيسيين في النظام ومصالحهم، و يبدو أن الاتصالات مع النظام يجب أن تتم بحذر حتى استقرار معين، حتى لا يُنظر إليه على أنه تدخل في شؤون السودان الداخلية. و على الطريق، يجب اتخاذ إجراءات لترسيخ إعلان السلام الأولى في اتفاقية رسمية، ونسج مذكرات تفاهم واتفاقيات تعاون حولها، على غرار تلك المبرمة مع الإمارات العربية المتحدة و البحرين والمغرب. إذا أثبتت" إسرائيل" للسودانيين أن ثمار التطبيع تساهم في خروجهم من الأزمة التي يجدون أنفسهم فيها، ستعزز العلاقات.

ثانيًا، على المستوى الإقليمي، يجب على إسرائيل أن تتذكر أن علاقاتها مع السودان قد تمتد إلى دول أخرى في المنطقة، بما في ذلك مصر والإمارات العربية المتحدة وجنوب السودان.و يجب أن تشرح لشركائها أن تعزيز العلاقات مع السودان سيحسن الاستقرار الإقليمي، وتنمو منه ميزة إستراتيجية على المنافسين المشتركين في التطبيع مع "إسرائيل"، لا تناقض في تطوير الشراكات القائمة وإقامة علاقات جديدة مع العالم العربي.

ثالثًا، يتوقع السودان أنه بفضل تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، ستدعمه الولايات المتحدة، الأمر الذي سيعود بالنفع على اقتصاد السودان واستقراره الإقليمي. يجب على "إسرائيل" أن تتصرف من خلال قنوات نفوذها في الولايات المتحدة حتى تستمر في دعم التقارب وتواصل دعم السودان.

جنوب السودان - من فرصة إلى إمكانات منخفضة؟

على النقيض من قدرة "إسرائيل" على تعزيز العلاقات مع السودان، واجه جنوب السودان، بعد حصوله على الاستقلال، صعوبات هائلة تعكس إمكانات العلاقات مع "إسرائيل". بعد نيل الاستقلال بدأ صراع داخلي بين القبائل التي تتكون منها الدولة. و في عام 2013، اندلعت حرب أهلية انتهت في عام 2015 بتوقيع اتفاق سلام بين القبائل المتناحرة. بالإضافة إلى مشاكله الداخلية، يوجد في جنوب السودان نزاع إقليمي لم يتم تسويته بعد مع السودان، ويركز على السيطرة على حقول النفط الغنية الواقعة بالقرب من الحدود بين دول منطقة آبي وجنوب كردفان. لم يتم تحديد الحدود مع السودان في هذه المناطق بشكل نهائي، كما أن منطقة المثلث الحدودي مع إثيوبيا وكينيا محل نزاع. خلاصة القول، لا يزال جنوب السودان في خضم عملية بناء هوية وطنية.

يتمتع جنوب السودان بموقع جيوستراتيجي مثير للاهتمام في قلب القارة الأفريقية - على النيل الأبيض وعلى مقربة من عدد كبير من البلدان. ومع ذلك، فإن موقعه أقل وعدًا من موقع جاره الشمالي الذي يتمتع أيضًا بالبحر الأحمر. و في عصر التطبيع في السودان - العلاقات "الإسرائيلية" التي لديها القدرة على توسيع حرية العمل "الإسرائيلية"، تتضاءل ميزة موقع جنوب السودان "لإسرائيل". أيضا، جنوب السودان هي واحدة من أقل البلدان نموا في العالم. على سبيل المثال، من بين حوالي 10.000 كيلومتر من الطرق، هناك 2٪ فقط معبدة، الفقر منتشر، ويعتمد معظم السكان على المساعدات الإنسانية، و يعيش ثلثا السكان على أقل من دولارين في اليوم، و مياه الشرب نادرة، و فقط 2٪ من السكان يمكنهم الوصول إليها. في عام 2017، بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 1600 دولار، مما وضع جنوب السودان في المرتبة 219 في العالم.

في العقد الذي انقضى منذ أن أقامت إسرائيل وجنوب السودان علاقات رسمية، كانت الصفقة الأولى هي نقل المعرفة والموارد لوضع البنية التحتية الحيوية وتحسين مجالات الصحة والتعليم والزراعة. من المؤكد أن المساعدات الإنسانية لإسرائيل تمنحها سمعة إيجابية بين مواطنيها وقيادتها. قضية المتسللين من جنوب السودان ليست مشكلة حقيقية "لإسرائيل" أيضًا، نظرًا لقلة عدد المتسللين (حوالي 1000) من المتسللين فيها.

للوهلة الأولى، من المستحيل تجنب عزو تشابه معين بين علاقات "إسرائيل" في سنواتها الأولى مع "الأطراف" - السودان وحتى المتمردين في جنوب السودان - وعلاقات "إسرائيل" الحالية مع السودان وجنوب السودان، وهما "في الدائرة الخارجية "مع "إسرائيل". ومع ذلك، توفر المقارنة أيضًا عددًا غير قليل من الخطوط المختلفة. وبينما سعى "تحالف الأطراف" للتغلب على الحلقة الخانقة العربية حول "إسرائيل" من دول الطوق في ذلك الوقت، لم تعد موجودة، إن تطبيع العلاقات مع السودان اليوم يمكن أن يفيد "إسرائيل"، من بين أمور أخرى، في حربها ضد النفوذ الإيراني في المنطقة، جنبًا إلى جنب مع الدول العربية المعتدلة.

علاوة على ذلك، ارتبطت إمكانات النظام السياسي السابق أولاً وقبل كل شيء بالقوة النسبية للدول التي كانت "لإسرائيل" علاقات معها (مثل تركيا وإيران) و السودان بسبب مشاكله الداخلية (سهلة ومادية قبل إعلان جنوب السودان استقلاله)، لم يكن يعتبر دولة قوية حقًا، وكان المتمردون في الجنوب أكثر قوة. حتى اليوم، الوضع الداخلي في السودان معقد وهش، ويعاني جنوب السودان من صعوبات شديدة، بطريقة تنعكس على إمكانية الاتصال به. من ناحية أخرى، لا يشبه وضع "إسرائيل" في العقود الأولى من وجودها وضعها الحالي. " إسرائيل" اليوم قوة عسكرية واقتصادية إقليمية، تحظى بدعم الولايات المتحدة وتودها دول المنطقة بسبب موقعها القوي.

وبالتالي، فإن نظام العلاقات بين إسرائيل والسودان وجنوب السودان لا يعبر عن "تحالف محيطي" بالمعنى الأصلي، ولكنه يعبر عن تعاون تكون فيه "إسرائيل" الجانب القوي الذي يعترض على قربها. في هذا السياق، يجسد السودان وجنوب السودان نوعًا من "مفارقة الضعف" في علاقاتهما مع "إسرائيل"، من ناحية أخرى، كان من الجيد "لإسرائيل" لو كانا لاعبين رئيسيين في النظامين الإقليمي والدولي. من ناحية أخرى، فإن هذه الدول مهتمة بتحسين العلاقات مع "إسرائيل" في الوقت الحاضر على وجه التحديد بسبب ضعفهما ورغبتهما في الحصول على المساعدة من "إسرائيل"، وقد تؤدي تقويتها إلى تقويض توطيد العلاقات في المستقبل.

ملخص

بعد أكثر من خمسة عقود من العداء (تم خلالها إجراء اتصالات سرية معينة مع إسرائيل)، تم إغلاق دائرة العلاقات بين إسرائيل والسودان بانضمام الخرطوم إلى "اتفاقيات إبراهيم"، وتشكيل إجماع بين القيادة في السودان بشأن التطبيع.

إن تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل يجسد حاليًا إمكانية المساهمة الكبيرة في أمن إسرائيل، وإمكانية تقديم حل لمشكلة المتسللين السودانيين المتبقين في إسرائيل، وربما حتى الفرص الاقتصادية.

في عام 2021، لم يكن هناك تقدم حقيقي في العلاقات بين الجانبين، ولم يتمكنا من ترسيخ إعلان السلام الأولي في اتفاق رسمي ونسج حوله مذكرات تفاهم واتفاقيات تعاون مماثلة لتلك التي تم التوصل إليها منذ فترة طويلة مع الإمارات. البحرين والمغرب. في غضون ذلك، يمر السودان بأزمة سياسية حادة يمكن أن تعرض للخطر عملية التطبيع مع "إسرائيل"، في سياق السودان، تأمل "إسرائيل" أنه على الرغم من الواقع الفوضوي الذي يجد نفسه فيه، فإن الاضطراب في العلاقات سيكتمل والتطبيع الهش سيتأسس على أساس إقامة علاقات دبلوماسية كاملة.

في الواقع الحالي، فإن التغيير الأساسي في العلاقات بين "إسرائيل" والسودان وجنوب السودان هو انعكاس في وجه الوضع الذي ساد بين الطرفين لسنوات عديدة، ولكن هناك علامة استفهام تحوم فوقه. ستخبرنا الأيام ما إذا تم إزالة علامة الاستفهام وسيتم إقامة علاقات مع نمو فائدة حقيقية "لإسرائيل".

المصدر: موقع معرخوت. مجلة الجيش الصهيوني على الانترنت.