Menu

تحدياتنا مع النموذج الغربي

د. محمد السعيد إدريس

مشكلة العالم كله، وليس العالم العربي وحده، في التعامل مع الغرب هي تلك الفجوة التي تزداد اتساعاً وعمقاً بين ما ينتجه العالم الغربي (أمريكا وأوروبا) من علم وفكر وتقدم وبين ما يسعى إلى فرضه على العالم من منظومات قيمية وأخلاقية متدنية وممارسات قهر سياسي واقتصادي تعبر عن ذلك التطلع الإمبراطوري الذى مازال يراود هذا العالم الغربي منذ انتهاء الحرب الباردة وخروج الولايات المتحدة منتصرة، أو هكذا تصورت، وحرصت على أن يكون انتصارها في هذه الحرب على الاتحاد السوفييتي باعتباره القوة العالمية المناوئة لها، انتصاراً لنظامها الرأسمالي بليبراليته المتوحشة ومنظوماته القيمية والأخلاقية العنصرية والاستعلائية، الأمر الذى فاقم من رفض ونفور باقي أمم العالم من تلك الموجة الحضارية الغربية، وأخذ يفرض على تلك الأمم حتمية البحث عن حضارتها الخاصة وخصوصياتها الثقافية والروحية على نحو ما تفعل كل من روسيا والصين الآن.

فإذا كان العالم يعيش الآن الموجة الديمقراطية الثالثة وبالذات الانتقال من نمط المجتمع الصناعي إلى نمط مجتمع المعلومات العالمي الذى يتحول تدريجياً إلى نمط مجتمع إنتاج المعرفة الذى يصبح فيه الإنسان وقدراته الإبداعية المصدر الرئيسي لإنتاج الثروة، بكل ما يعنيه ذلك من تمكين الإنسان من حرية الفكر وحرية تداول المعلومات أو ما يعرف بـ "ديمقراطية تداول المعلومات"، فإن هذا العالم يواجه أيضاً تداعيات النموذج الإمبراطوري الأمريكي المسيطر الذى يريد أولاً أن يسيطر على العالم سياسياً واقتصادياً، ويريد أيضاً أن يفرض النموذج الأمريكي والقيم الأمريكية (السياسية والثقافية والاجتماعية) على العالم كإطار لما يسمونه بـ "أيديولوجية العولمة" التي باتت تعنى أيديولوجية المشروع الإمبراطوري الأمريكي.

هذا الربط بين التطلع العالمي لمجتمع المعرفة الذى يتأسس على قاعدة ديمقراطية المعلومات (حرية تداول المعلومات) وديمقراطية المعرفة (حرية تداول وانتقال المعرفة) وبين النموذج الأمريكي للديمقراطية والليبرالية (الحرية) ومنظومة القيم والأخلاقيات الأمريكية يشوه الدعوة العالمية لمجتمع المعرفة باعتباره النموذج المأمول عالمياً لأسباب كثيرة أبرزها يتعلق بالخصوصية الثقافية للإمبراطورية ، كما يتعلق بسلبيات النموذج الأمريكي في الديمقراطية والليبرالية ناهيك عن ما يمكن اعتباره "انحطاطاً قيمياً وأخلاقياً" أمريكياً من منظور الخصوصيات الثقافية والقيمية للحضارات والمجتمعات الأخرى، ويتعلق فضلاً عن ذلك بعدم مصداقية الدعوة الأمريكية للإصلاح السياسي الديمقراطي في عالمنا العربي بصفة خاصة خصوصاً على ضوء خصوصيات علاقات الولايات المتحدة بنظم الحكم التسلطية العربية، أو للربط بين دعوة الديمقراطية والإصلاح السياسي لنظم الحكم العربية وشرط الانخراط في تطبيع العلاقات مع كيان الاحتلال الإسرائيلي.

فالحلم الديمقراطي الأمريكي آخذ في التداعي، وبالذات منذ سيطرة الحلم الإمبراطوري على الإدارات الأمريكية, وقد عبر المخرج المسرحي الروسي أناتولى فاسيليف عن إحباطه من تداعى ذلك الحلم في الديمقراطية الأمريكية التي انحازوا إليها واسقطوا نظامهم السوفييتي من أجلها بقوله: "إن إحدى النتائج المؤسفة للبيروسترويكا (سياسة الرئيس السوفييتي السابق ميخائيل جورباتشيف لإصلاح النظام السوفييتي التي كانت أحد أهم أسباب سقوطه) التي دافعت عنها ضلالاً أو انتهازية أكثر مما بدافع القناعة، هي أننا فقدنا العمل في بلادنا من دون أن نكسب الحرية التي  وعدنا بها أنفسنا". هذه الشهادة من جانب الروس الذين تأملوا الخير في النموذج الأمريكي إذا ما نجحوا في إسقاط نظامهم السوفييتي، بكل ما تحمله من إحباطات وانتفاء الثقة فى الوعود الأمريكية نجدها أيضاً، وبنفس القدر ربما عند رواد من المثقفين الأمريكيين، على نحو ما ورد على لسان الكاتب المسرحي الأمريكي "إدوار إلبي" صاحب مؤلف "من يخاف فرجينيا وولف" بقوله: "إن الديمقراطية البديلة عن الأنظمة الشمولية هي ديمقراطية وهمية".

هذه الصفة الوهمية للديمقراطية المقرونة بالنموذج الأمريكي تجلت بوضوح شديد جداً في العراق، حيث كانت الديمقراطية هي المبرر الأهم للغزو الأمريكي للعراق واحتلاله عندما تأكدت كذبة امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل لتبرير ذلك الغزو، لكنها تبدت بوضوح أكثر في أفغانستان عندما سارع الأمريكيون إلى الهروب من هذا البلد في العام الماضي وهو يحترق، وعندما برر الرئيس الأمريكي جو بايدن هذا الهروب من إنقاذ البلد الذي أمعنوا في تدميره كان رده "ليست مسئوليتنا بناء الأمم".

هذه هي الحقيقة.. فجوة واسعة بين الوعود وبين الحقائق، بين النموذج كما يروج له وبين النتائج الحقيقية، لكن الأمر يتفاقم أكثر بسبب أن هذا النموذج الأمريكي غارق حتى أذنيه في "عنصرية" بغيضة مبعثها ذلك الهوس بالحلم الإمبراطوري وما يقدمه من أخلاقيات استعلائية على الأمم الأخرى.

إن من يحلل بدقة الخطاب الغربي الذى جاء تلقائياً كرد فعل فورى لما يسمى بـ "يوم الهول العظيم 11 سبتمبر 2002) حين حدث الهجوم المفاجئ على المعاقل الاقتصادية والسياسية والعسكرية الأمريكية في نيويورك وواشنطن، وعلى رموزها الساطعة (أبراج التجارة العالمية) التي كانت محل فخرها، يدرك أن هذا الخطاب الذى ترددت أصداؤه في واشنطن ولندن وباريس على ألسنة الرؤساء بوش وشيراك وبلير، يعيد إنتاج الخطاب الغربي التقليدي الذى ساد منذ ما كان يسمى بـ "عصر التنوير"، والذى قام على أساسه مشروع الحداثة الغربية كله، ويقوم على التفرقة بين البربرية والمدنية.

فوصف "البربرية" يراه الغربيون صفة لكل شعوب العالم، أما "المدنية" فهي صفة قاصرة على الحضارة الغربية. خطاب عنصري هو ذاته الذى ابتكر نظرية "عبء الرجل الأبيض" في تمدين الشعوب البربرية، وغيرها من الإدراكات الغربية المتحيزة إزاء شعوب العالم غير الغربي وثقافاته، وهى ذاتها تعتبر الغطاء الأيديولوجي لإضفاء الشرعية على الاستعمار وهى بذاتها أصبحت المكونات الرئيسية للنظرية العنصرية التي سادت في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لكنها تعود الآن بقوة في الولايات المتحدة ودول أوروبية عديدة في شكل أحزاب وحركات سياسية واجتماعية وجماعات منظمة شديدة العداء لكل من هو ليس من أصل أمريكي أو أوروبي يعيش داخل هذه الدول، وخاصة ضد الشرقيين والزنوج وعلى الأخص منهم المسلمين.

الممارسات السياسية للأحزاب والجماعات العنصرية اليمينية التي تتفاقم حالياً ضد العمال المهاجرين من أصول عربية وإسلامية وتركية أخذت تتصاعد في شكل مطالب بطردهم، وأخذت تفرز تجلياتها الاجتماعية العنصرية في محاولة للهيمنة على أسلوب حياة المهاجرين والمواطنين من أصول عربية وإسلامية من خلال سياسات التهميش والاستبعاد والقهر الاجتماعي وتبرز تجلياتها الثقافية للعنصرية في تشويه صورة الإسلام والمسلمين ونبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم في ممارسات مفعمة المعاني تنفى بالمطلق أية ميول أو دوافع لتعايش مشترك يحترم الحضارات والثقافات الأخرى.

هذه الفجوة المتسعة بين ما يقدمه الغرب للعالم من إنتاج علمي متميز ونهضة هائلة في المعرفة وبين النموذج الثقافي – الاجتماعي الغربي بكل مخرجاته السلبية يفاقم التحدي أمام العرب من منظورين أولهما: مع من نتعامل مع الغرب، وكيف لنا أن نفصل بين ما هو منتج علمي- فكرى وبين ما هو منتج ثقافي - أخلاقي، وثانيها كيف لنا أن نعيد إنتاج نموذجنا الحضاري الثقافي القادر على التعامل بفعالية مع الحضارات والثقافات الأخرى ويؤمِّن لنا في ذات الوقت خصوصياتنا الثقافية والقيمية والحضارية.